قامت وزارة الداخلية التونسية، في 7 مارس 2022، برفع الإقامة الجبرية المفروضة على “نور الدين البحيري” (64 عاماً) نائب رئيس حركة النهضة والمسؤول السابق في وزارة الداخلية “فتحي البلدي”، وذلك عقب مرور ثلاثة أشهر على إصدار وزير الداخلية “توفيق شرف الدين” قراراً باعتقالهما في 31 ديسمبر الماضي؛ بسبب تورطهما في تقديم وثائق هوية ووثائق الجنسية بشكل غير قانوني وشبهة إرهاب جدية، وذلك ارتباطاً باستخراج وثائق سفر وجنسية تونسية لسوري وزوجته بـطريقة غير قانونية عندما كان وزيراً للعدل خلال الفترة 2011-2013 في عهد حكومة “حمادي الجبالي” السابقة، وكان “البحيري” و”البلدي” أول مسؤولين من حركة النهضة يتم اعتقالهما منذ تطبيق الإجراءات الاستثنائية التي أعلنها رئيس الدولة “قيس سعيد” في 25 يوليو الماضي.
ترحيب النهضة
عقب إعلان قرار رفع الإقامة الجبرية عن “البحيري” أصدرت حركة النهضة برئاسة “راشد الغنوشي” بياناً أشارت فيه إلى انتصارها على رئيس الدولة، وأشار “الغنوشي” إلى أن الإفراج عن نائب رئيس الحركة “نور الدين البحيري” يعتبر نقطة انطلاق جديدة في المشهد السياسي الحالي تعتمد على التسامح وإجراء حوار وطني موسع بين كافة القوى السياسية في البلاد، وانتقد “الغنوشي” الإجراءات التي يطبقها الرئيس “سعيد” ووصفها بالأعمال الانتقامية التي تعد غير مناسبة لحل الأزمة السياسية الراهنة، وما ترتب عليها من مشكلات اقتصادية واجتماعية.
تفسيرات ثلاثية
وترجع أسباب إطلاق السلطات التونسية سراح نائب رئيس حركة النهضة “البحيري” وأحد قياداتها الآخرين “البلدي”، إلى جملة من العوامل، من أهمها ما يلي:
1- إتاحة الفرصة أمام القضاء لمواصلة التحقيقات: أرجعت وزارة الداخلية قرار رفع الإقامة الجبرية عن كل من “البحيري” و”البلدي” إلى إتاحة الفرصة أمام القضاء التونسي لمواصلة التحقيقات اللازمة في الاتهامات الموجهة لكل منهما، وخاصة بعد قرار تشكيل المجلس الأعلى المؤقت للقضاء، وما سيسهم فيه ذلك من اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة للفصل في مدى صحة الاتهامات الموجهة إليها من عدمه، ويحمل ذلك إشارة إلى أنه تم تطهير القضاء من سيطرة حركة النهضة وتشكيل مجلس أعلى للقضاء جديد يتسم أعضاؤه بالشفافية والنزاهة وعدم الانتماء لأي من الأحزاب السياسية، بما يسهم في التحقيق معه بنزاهة وشفافية.
2- عدم كفاية الأدلة والاتهامات الموجهة للبحيري: يفسر بعض المراقبين التونسيين قرار الإفراج عن “البحيري” بأنه جاء في ظل عدم كفاية الأدلة لإدانته والتحقيق معه في الاتهامات الموجهة إليه، وبالتالي عدم وجود ما يدينه في هذا الخصوص، الأمر الذي دفع السلطات التونسية لإطلاق سراحه بعد أن وجدت نفسها مضطرة لذلك، وخاصة في ظل تصاعد الانتقادات الداخلية والخارجية لها بسبب المحاكمات العسكرية مع المتهمين السياسيين.
3- تدهور الحالة الصحية لنائب رئيس الحركة: جاء قرار الإفراج عن نائب رئيس الحركة “نور الدين البحيري” أيضاً في ظل تدهور حالته الصحية وخاصة بعد دخوله في إضراب عن الطعام لمدة زمنية طويلة وما ترتب على ذلك من دخوله المستشفى في محافظة “بنزرت” شمال البلاد، وهو ما دفع منظمات حقوق الإنسان لتصعيد دعواتها بالإفراج عنه بسبب تراجع وضعه الصحي، ومن ثم فقد استجابت السلطات التونسية لذلك.
سياقات موازية
وتزامن إعلان السلطات التونسية بالإفراج عن نائب رئيس حركة النهضة “البحيري”، في سياق عددٍ من التطورات السياسية الهامة، المرتبطة بمواصلة الدولة التونسية إجراءات مكافحة الفساد السياسي والإداري، وأيضاً تزايد الضغوط الداخلية والخارجية لإنهاء الإجراءات الاستثنائية الحالية، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1- استمرار التحقيق مع قيادات النهضة: حيث تمت إحالة رئيس حركة النهضة “راشد الغنوشي” إلى التحقيق أمام الوحدة المركزية للأبحاث في الحرس الوطني بسبب رفع دعوى قضائية ضده تتهمه بوصف عناصر الأمن التونسي بالطغاة، كما أصدرت المحكمة العسكرية في تونس قراراً في 2 مارس الجاري بتوقيف أحد قيادات حركة النهضة وعميد المحامين السابق “على الكيلاني” بسبب اتهامه بالانضمام إلى مجموعات قامت بالتعدي على موظفين عموميين بالقول والتهديد، وفي ذلك مؤشر على مواصلة الدولة ملاحقة أعضاء حركة النهضة المتورطين في قضايا الفساد على اختلاف صوره في محاولة لتطهير مؤسسات الدولة من النفوذ الإخواني الذي يهدد استقرار البلاد وأمنها القومي.
2- اعتماد التشكيل الجديد للمجلس الأعلى المؤقت للقضاء: حيث قام أعضاء المجلس الأعلى المؤقت للقضاء بأداء اليمين أمام رئيس الدولة “قيس سعيد” في 7 مارس الجاري، وذلك بعد أن قام الرئيس بحل المجلس السابق وتعيين مجلس جديد يختص بالنظر في قضايا الفساد والإرهاب، ويحسم العديد من هذه القضايا التي تأخر الفصل فيها لسنوات، ومن أبرزها قضية اغتيال الناشط “شكري بلعيد” التي ينظر فيها القضاء التونسي منذ عام 2013.
3- استقواء حركة النهضة بضغوط واشنطن: سبق إعلان وزارة الداخلية التونسية بإطلاق سراح “البحيري”، قيام وفد من حركة النهضة الأعضاء في البرلمان المجمد بقيادة “ماهر مذيوب” القيادي في الحركة، بالتوجه إلى واشنطن التي استضافت فعاليات الاجتماع السنوي المشترك بين الأمم المتحدة والاتحاد البرلماني الدولي بالولايات المتحدة الأمريكية، ولقائهم مع بعض المسؤولين الأمريكيين السابقين وبعض أعضاء الكونجرس الأمريكي، في محاولة منهم لدفع هؤلاء نحو التأثير على الإدارة الأمريكية برئاسة “جو بايدن” للضغط على الرئيس “قيس سعيد” لإنهاء الحالة الاستثنائية الراهنة.
ولعل ذلك يفسر قيام 51 شخصية أمريكية من سفراء سابقين لدى تونس وبعض الأكاديميين والباحثين السياسيين برفع دعوة إلى الرئيس الأمريكي “بايدن” يطالبونه فيها بإعادة الديمقراطية (إنهاء تجميد البرلمان)، والحد من الإجراءات التي اتخذها الرئيس “قيس سعيد” لتوسيع صلاحياته وسلطاته ومن ثم تكريس حكم الفرد في تونس، بما يتناقض مع الممارسات الديمقراطية التي كانت تشهدها البلاد بعد ثورة 2011 التي أسقطت نظام الحكم الفردي السابق برئاسة الراحل “بن علي”، وفي ذلك استقواء صريح من قبل حركة النهضة بالولايات المتحدة للتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد بغرض إعادتهم للسلطة مرة أخرى.
دلالات سياسية
يحمل قرار رفع الإقامة الجبرية عن قياديي حركة النهضة “البحيري” و”البلدي” في طياته جملة من الدلالات السياسية الهامة، ومن أبرزها ما يلي:
1- جدلية قرارات الإقامة الجبرية: أثار قرار إطلاق سراح البحيري” بعد ثلاثة أشهر من اعتقاله، الجدل بشأن قرارات الإقامة الجبرية واختلاف الآراء القانونية حولها، ففي حين رآها البعض قرارات إدارية يتم اتخاذها وفقاً لتقدير السلطات الأمنية وخاصة وزير الداخلية استناداً إلى الأمر عدد 50 لـ 26 يناير 1978، المتعلق بتنظيم حالة الطوارئ؛ يراها آخرون قرارات قضائية للفصل في صحة الاتهامات الموجهة للمتهمين.
2- دعوة غير مباشرة للحوار: استغلت حركة النهضة قرار الإفراج عن “البحيري” لإطلاق دعوة غير مباشرة لإجراء حوار وطني مع رئيس الدولة “قيس سعيد” وهو ما اتضح في تصريحات “الغنوشي” عقب استقباله لنائبه “البحيري” واصفاً ذلك بأنها نقطة انطلاق جديدة قوامها التسامح والحوار الوطني، وتجدر الإشارة إلى أن حركة النهضة تسعى منذ فرض الإجراءات الاستثنائية قبل ثمانية أشهر لاستغلال أية حدث أو تطور سياسي أو أمني للدعوة إلى عقد حوار مع رئيس الدولة، إلا أن مبادرات النهضة لإجراء هذا الحوار لم تَلْقَ قبولاً لدى رئيس الدولة “قيس سعيد” وكذلك من قبل الأحزاب والقوى السياسية الفاعلة في المشهد السياسي، وخاصة الاتحاد التونسي العام للشغل الذي عبر رئيسه “نور الدين الطبوبي” في أكثر من مناسبة عن رفضه العودة لمرحلة ما قبل 25 يوليو الماضي.
3- مواصلة التصعيد ضد الرئيس سعيد: من شأن الإفراج عن “البحيري” و”البلدي” أن تعطي حركة النهضة دافعاً لمواصلة الاعتراض على الإجراءات الاستثنائية التي لا يزال يطبقها الرئيس “سعيد”، ومواصلة الحشد والتعبئة على المستوى الداخلي في محاولة لتوسيع نطاق المعارضة الداخلية ضد الرئيس “سعيد” بغرض إنهاء الأوضاع الاستثنائية الحالية. ولعل إعلان هيئة الدفاع عن “البحيري” برفع دعاوى قضائية ضد وزير الداخلية وكل من تورط في اعتقال “البحيري” مؤشر على اتجاه الحركة نحو التصعيد خلال الفترة القادمة، وسيقوم رئيس الحركة “راشد الغنوشي” بتوظيف هذا الحدث في محاولة لتعزيز شرعيته داخل الحركة وتعبئة أكبر عدد من أنصار الحركة لتأييد مواقفه الحالية ضد الرئيس “سعيد” وتأليب الرأي العام الداخلي ضده.
4- تقليل حدة الضغوط الخارجية: جاء إفراج السلطات التونسية عن نائب رئيس حركة النهضة “البحيري” لإيصال رسالة إلى الداخل والخارج أيضاً بأن الرئيس “قيس سعيد” يحافظ على الحقوق والحريات الداخلية في إطار القانون والدستور، وأن قرار اعتقال “البحيري” جاء في إطار الالتزام بالقوانين الداخلية والنصوص الدستورية التي يستند إليها الرئيس “سعيد” دوماً لشرعنة الإجراءات والقرارات الاستثنائية، وهو ما يشير إلى رغبة “سعيد” في إيصال رسالة إلى الخارج في هذا الأمر على وجه التحديد، ومن ثم تجنب الانتقادات والضغوط الخارجية وخاصة الأمريكية منها فيما يتعلق باحترام الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين.
تحسين الصورة
خلاصة القول، يُشير قرار الإفراج عن نائب رئيس حركة النهضة “نور الدين البحيري” إلى حرص السلطات التونسية على إجراء تحقيقات قضائية تتسم بالنزاهة والشفافية، وخاصة بعد تشكيل المجلس الأعلى المؤقت للقضاء وأدائه اليمن أمام رئيس الدولة، وهو ما يعني مواصلة إجراءات مكافحة الفساد واستمرار التحقيقات مع المتورطين في هذه القضايا خلال الفترة القادمة وخاصة من قيادات حركة النهضة، مع عدم استبعاد اتجاه حركة النهضة لتوظيف هذا الحادث في محاولة لتحسين صورتها أمام المجتمع التونسي بعدم صحة الاتهامات الموجهة لأعضائها، في محاولة لحشد وتعبئة أنصارها ضد الرئيس “سعيد”.