هناك عدد من العوامل المفسرة لإعفاء محافظ البنك المركزي العراقي “مصطفى غالب مخيف” من منصبه في 23 يناير الجاري، ومنها تصحيح أداء السياسة النقدية العراقية، وتحقيق التوازن ما بين الضغوط الداخلية والخارجية، واحتواء سخط الرأي العام العراقي بعد تراجع قيمة العملة الوطنية “الدينار” أمام الدولار، ومواكبة موجة تطوير السياسات النقدية في الإقليم والعالم وذلك في مواجهة التطورات الاقتصادية المتسارعة الناتجة عن جائحة (كوفيد-19) والحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتهما، ولا سيما تزايد معدلات التضخم.
فقد أعفى رئيس الوزراء العراقي “محمد شياع السوداني”، في 23 يناير 2023، محافظ البنك المركزي العراقي “مصطفى غالب مخيف” من منصبه، وعيًن بدلاً منه “علي محسن العلاق”. وذكرت وكالة الأنباء العراقية أن إعفاء “مخيف” جاء بطلب منه، علماً بأنه تولى المنصب منذ 14 سبتمبر 2020 بعد تعيينه من قبل رئيس الوزراء السابق “مصطفى الكاظمي”، وذلك خلفاً لمحافظ البنك المركزي العراقي “علي محسن إسماعيل العلاق” الذي عاد مرة أخرى لتولي المنصب.
دوافع القرار
يأتي قرار “السوداني” في إطار ترتيبات داخلية لدعم الاقتصاد العراقي في مواجهة التحديات الخارجية، وهو ما يمكن إبرازه على النحو التالي:
1- تصحيح أداء السياسة النقدية العراقية: يأتي قرار إعفاء “مخيف” من منصبه بعد عدم قدرته على احتواء تراجع سعر الدينار العراقي خلال الأشهر الماضية، حيث اتسعت الفجوة بين سعر الدينار في السوق الموازية والسعر الرسمي البالغ 1470 دينار/ دولار (سعر البيع للأفراد)، ليصل سعر الدولار في السوق الموازية يوم 21 يناير 2023 إلى نحو 1670 (وفقاً للعديد من المصادر)، أي بارتفاع نسبته 13.6% عن السعر الرسمي. ويُشار في هذا الصدد إلى أن البنك المركزي العراقي بقيادة “مخيف” قد خفّض قيمة الدينار في ديسمبر 2020 من 1182 دينار/ دولار إلى 1470 دينار/ دولار (سعر الصرف الرسمي الحالي)، وذلك في مواجهة استنزاف احتياطات البنك المركزي بسبب جائحة (كوفيد-19) وتداعياتها.
يعكس قرار “السوداني” تدخله بشكل مباشر في عملية تحديد سعر صرف العملة المحلية، وذلك تحسباً لإجراء عملية خفض أخرى للدينار مقابل الدولار، خاصة وأن “مخيف” قام بخفض الدينار بنسبة كبيرة مقارنة بعمليات خفض العملة العراقية في السنوات السابقة، حيث تم خفضها في ديسمبر 2015 من 1166 دينار/ دولار إلى 1182 دينار/ دولار، أي إن نسبة الخفض بلغت 1.37%، ولكن منذ تولي “مخيف” مهام منصبه قام بخفض الدينار بنسبة 24.3% (من 1182 إلى 1470 دينار/ دولار)، وهو ما دفع معدل التضخم للارتفاع بوتيرة كبيرة.
يُشار في هذا الصدد إلى أنه خلال فترة ولاية محافظ البنك المركزي السابق “علي محسن إسماعيل العلاق”، الذي تولى المنصب خلال الفترة سبتمبر 2014/ سبتمبر2020، تم احتواء معدل التضخم، بينما حدث العكس في حالة “مصطفى غالب مخيف”، وهو ما يوضحه الشكل التالي.
يُشير الشكل السابق إلى أنه خلال الفترة يناير 2016 – سبتمبر 2020 كان أقصى رقم سجله التضخم 2.5% في مايو 2016، ولكن بعد تولي “مخيف” منصبه سجل معدل التضخم تزايداً مطرداً وصل ذروته إلى 8.4% في نوفمبر 2021، الأمر الذي يفسر اختيار “السوداني” لـ”العلاق” مرة أخرى لشغل منصب محافظ البنك المركزي للسيطرة على التضخم كأولوية، وذلك من خلال اتخاذ إجراءات صارمة لسد الفجوة بين سعر الصرف الرسمي للدينار والسوق الموازية، مع محاولة رفع قيمة الدينار مرة أخرى لمستويات ما قبل ديسمبر 2020، وذلك بهدف إعادة التوازن في السوق العراقية.
2- التوازن ما بين الضغوط الداخلية والخارجية: يستهدف قرار تغيير محافظ البنك المركزي العراقي إبراز أن أزمة الدينار ترجع إلى قصور في السياسات النقدية التي أدت إلى تراجع سعر صرف العملة المحلية، وهو ما تم دون اتخاذ إجراءات ملموسة لوقف عمليات تهريب الدولار الأمريكي إلى بعض دول الجوار (إيران وسوريا تحديداً) والتي بدأ تأثيرها يتضح بعد قرار الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في نوفمبر 2022 بفرض قيود أكثر صرامة على التحويلات الدولية بالدولار التي تتم من خلال البنوك العراقية، والتي تضمنت إلزام البنوك العراقية تسجيل تحويلاتها بالدولار على منصة إلكترونية، ليتم التدقيق فيها من قبل السلطات الأمريكية مع إمكانية وقفها، مما أدى إلى حظر نحو 80٪ من تحويلات الدولار اليومية إلى العراق نظراً لعدم وجود معلومات حول الوجهة النهائية لتلك التحويلات (وفق ما ذكره مستشار رئيس الوزراء العراقي للشؤون المالية “مظهر صالح”).
يعكس ما سبق محاولة عدم إبراز انصياع الحكومة العراقية للضغوط الأمريكية لاعتبارات داخلية في العراق، لا سيما وأن الإطار التنسيقي يضغط بدوره على حكومة “السوداني” لعدم الانصياع لتلك الضغوط. وفي هذا الإطار، يأتي اختيار “علي محسن العلاق” كمحافظ للبنك المركزي العراقي الذي يلقى قبولاً من الإطار، وهو ما دلل عليه تأكيد القيادي “حسن فدعم” عدم اعتراض الإطار التنسيقي على قرار “السوداني”، بل وأنه مدعوم من الإطار بهذا الإجراء الذي من شأنه أن يُعالج أزمة تراجع الدينار العراقي مقابل الدولار، مما يبرز أن التوازنات السياسية مع الداخل والخارج كان لها دور كبير في قرار “السوداني”.
بناء على ما سبق، يأتي اختيار “علي محسن إسماعيل العلاق” على خلفية أنه شخصية توافقية، لحصوله على دعم داخلي، وفي الوقت نفسه له علاقات جيدة مع الخارج، وتحديداً مع الولايات المتحدة الأمريكية، والذي من خلاله يمكن فتح حوار بشأن تخفيف القيود الأمريكية على معاملات الدولار في البنوك العراقية، وهو التوجه المقبل لحكومة العراق في ضوء دعوة “نوري المالكي” القيادي في الإطار التنسيقي رئيسَ الوزراء “محمد السوداني” إلى التفاهم مع واشنطن لاحتواء تداعيات الاضطراب الشديد في الأسواق العراقية، جراء تراجع أسعار صرف الدينار العراقي أمام الدولار.
إضافة إلى ما سبق، يمكن توظيف “العلاق” في سياسة الانفتاح على الخارج التي تنتهجها الدولة العراقية، نظراً لسيرته الذاتية التي تظهر علاقته بالعديد من المؤسسات الدولية، حيث شغل منصب رئيس مجلس محافظي صندوق النقد العربي منذ أبريل 2020، وكذا لكونه محافظ العراق في كل من صندوق النقد الدولي وبنك التنمية الإسلامي، كما كان عضواً في اللجنة العليا المشتركة في الأمم المتحدة لإصلاح القطاع العام والخاص خلال الفترة 2008/2010، إضافة إلى ترأسه المجلس المشترك لمكافحة الفساد في العراق خلال الفترة 2007/2014، بما يجعله عنصراً فاعلاً في حصول العراق على دعم دولي، وبما ينعكس إيجاباً على الاقتصاد العراقي.
3- احتواء سخط الرأي العام العراقي: يواجه العراق أزمة داخلية بسبب ارتفاع أسعار السلع الأساسية، مما دفع العديد من المواطنين للتظاهر مؤخراً عبر الوقوف أمام البنك المركزي العراقي للمطالبة بخفض سعر صرف الدينار مقابل الدولار، وبالتالي يستهدف القرار تهدئة الرأي العام تحسباً من اتساع دائرة المظاهرات ضد الحكومة العراقية، وذلك تأثراً بالعديد من المظاهرات التي تشهدها العديد من دول العالم بسبب تردي الأوضاع المعيشية الناتجة عن ارتفاع معدلات التضخم، وفي الوقت نفسه يأتي توقيت قرار تغيير محافظ البنك المركزي بعد الانتقادات العديدة التي طالت النظام العراقي الحالي بعد قرار الإفراج عن بعض مختلسي أموال الدولة مقابل ردها لاحقاً، فيما عُرف بقضية “سرقة القرن”، لذلك يأتي قرار تغيير محافظ البنك المركزي ومدير المصرف التجاري العراقي لإظهار وجود موجة من القرارات التصحيحية لدعم اقتصاد العراق ومكافحة الفساد والأخطاء التي أدت إلى خسارة العراق لثرواته بسبب عدم إحكام الرقابة على موارد الدولة.
جدير بالذكر أن تحرك “السوداني” جاء في ظل تزايد الانتقادات الموجهة له بسبب مواقفه المتناقضة، وذلك بعد تصريح أكد فيه على صلاحية البنك المركزي في تحريك سعر صرف الدينار بشكل حصري، وهو على عكس موقف سابق له عندما كان عضواً في مجلس النواب أكد فيه على صلاحية الحكومة والبرلمان في التدخل في سعر الصرف لأنه أمر ليس محصوراً بالبنك المركزي، بما يعكس أن التفاعلات الداخلية وتحركات الشارع لها دور كبير في قرار تغيير رأس صانعي السياسة النقدية في العراق.
4- مواكبة موجة تطوير السياسات النقدية في الإقليم والعالم: يتزامن قرار تغيير محافظ البنك المركزي العراقي مع تحركات مماثلة في الإقليم والعالم، تتعلق بإعادة ضبط وتطوير السياسات النقدية والمالية في العديد من الدول، وذلك في مواجهة التطورات الاقتصادية المتسارعة الناتجة عن جائحة (كوفيد-19) والحرب الروسية – الأوكرانية وتداعياتهما، حيث باتت البنوك المركزية لها دور محوري في مواجهة الاختلالات الاقتصادية الحالية، خاصة فيما يتعلق باحتواء معدلات التضخم الآخذة في الارتفاع، وكذا مواجهة الركود التضخمي المحتمل حدوثه في العديد من دول العالم في عام 2023 (وفق العديد من المؤشرات والتوقعات).
وتجدر الإشارة إلى أن وضع العراق الحالي يجعله من الدول المعرضة لأزمات حادة خلال العامين الجاري والمقبل، وذلك في ضوء تحقيقه عائدات نفطية قياسية دعمت من احتياطي النقد الأجنبي ليصل إلى نحو 96 مليار دولار (وفق تصريح لرئيس الوزراء العراقي في 19 ديسمبر 2022)، ولكن في الوقت نفسه عليه قيود دولية تمنعه من استغلال تلك الاحتياطات بشكل كامل لاعتبارات سياسية وأمنية خارجية، وبالتالي فإن تحرير تلك الاحتياطات لوقف التراجع الاقتصادي سيكون التحدي الأكبر خلال الفترة المقبلة للحكومة العراقية والسلطات النقدية، وهو ما دعا الحكومة العراقية لإعادة هيكلة عملية صنع السياسات النقدية بما يتلاءم مع المتغيرات الداخلية والخارجية، وفي الوقت نفسه الانسجام مع سياسات صندوق النقد الدولي التي دعت العراق إلى توخي اليقظة من مواطن الضعف المحتملة بالاقتصاد العراقي، والتي من ضمنها مخاطر التضخم المرتفع (وفق البيان الختامي الصادر عن خبراء الصندوق في 7 ديسمبر 2022).
تكلفة مرتفعة
في الختام، تعاني الحكومة العراقية من ضغوط داخلية وخارجية تدفعها إلى محاولة إحداث خرق في عملية صنع القرارات الاقتصادية، بشرط أن يكون هناك توازن في اختياراتها وتحركاتها يمكن من خلاله الحصول على دعم يعزز من أداء عملها بفاعلية؛ إلا أن تلك التغيرات لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تؤدي للحصول على موافقة جميع الأطراف سواء في الداخل أو الخارج، مما يستلزم سياسة مرنة ومستدامة تتسق مع توجهات وتطلعات غالبية الأطراف المعنية بالشأن العراقي، وهو الأمر الذي بدأته عبر تغيير محافظ البنك المركزي العراقي، مع توقع أن يتبع ذلك قرارات أخرى تستهدف دعم الاقتصاد العراقي في المقام الأول، لكنّ ذلك قد يرتطم بتهديد مصالح أطراف أخرى، مثل إيران، التي ستقوم بدورها بضغوط موازية قد تؤدي إلى تأزم المشهد العراقي.