قاسم مشترك:
لماذا تمنح البعثات الأممية الأولوية للأوضاع الإنسانية بدول الصراعات؟

قاسم مشترك:

لماذا تمنح البعثات الأممية الأولوية للأوضاع الإنسانية بدول الصراعات؟



تكشف إفادات المبعوثين الأمميين حول أوضاع دول الصراعات في المنطقة العربية عن تصدر ملف الأزمات الإنسانية أولويات الخطاب الأممي في المرحلة الحالية، لدرجة أصبحت معها عمليات الإغاثة الإنسانية الطارئة تشكل دافعاً رئيسياً لمطالبة أطراف الصراعات بوقف إطلاق النار كما هو الوضع في الحالة اليمنية، أو خفض حدة التصعيد المسلح كما في الحالة السورية، أو الحفاظ على مكتسب وقف إطلاق النار على غرار الحالة الليبية. واللافت في هذا السياق، أنه رغم وجود منسقين للشئون الإنسانية في البعثات الأممية في تلك المناطق، إلا أن الملفات الإنسانية بشكل عام أصبحت لا تقل أهمية لدى المبعوثين الأمميين عن الشئون السياسية.

مقاربة جديدة

هناك فرضية أساسية تشير إلى أن الهدف من وقف الصراعات ومعالجة الأزمات هو استعادة الاستقرار السياسي في تلك الدول كمدخل للانتقال إلى عملية الاستقرار الشامل. لكن في ظل النتائج التي يمكن استعراضها في العديد من حالات الصراعات في المنطقة العربية بسبب ديموميتها وتحولاتها من حالة إلى أخرى دون تحقيق السلم والأمن الأهلي المنشود، بات واضحاً أن هناك حاجة لإنقاذ ملايين البشر من ويلات الصراعات التي قضت على أجيال بالكامل بغض النظر عن إمكانية الوصول إلى حالة التسوية من عدمها، أو على الأقل التعامل معها على التوازي، ومن ثم أصبحت هناك مقاربة جديدة تقوم على التشابك في المهام المختلفة لدى البعثات الأممية والتي يصعب الفصل فيما بينها.

مؤشرات صعبة

ما يؤكد صحة هذا المنظور هو طبيعة المؤشرات التي تعكسها تقارير الأمم المتحدة وبعثاتها في دول الصراعات بالمنطقة العربية. فبحسب أحدث تقارير الأمم المتحدة، هناك ما يقرب من نصف عدد السكان في سوريا، وتحديداً 13.4 مليون شخص، في حاجة إلى المساعدة في جميع أنحاء البلاد، في دلالة على مدى التحديات التي تشكلها الأزمة الإنسانية من جانب، وعلى أن عمليات خفض التصعيد عالجت بشكل نسبي إمكانية وصول الاحتياجات الإنسانية، لكنها لم تعالجها بشكل عام، في ظل اعتماد عملية خفض الصراع على سياسات تسببت في إحداث تغيير ديموغرافي، وشكلت موجات هائلة من النزوح الداخلي والخارجي، وهى أيضاً ذات شق إنساني. وتقول الأمم المتحدة أن هناك جيلاً كاملاً أصبح مُعرَّضاً للضياع ليس بسبب انخراطه في الحرب وإنما بسبب تداعيات الحرب عليه، خاصة فيما يتعلق بالاحتياجات والمتطلبات الإنسانية الرئيسية.

كذلك في الحالة اليمنية، تسبب الفشل في التوصل لاتفاق إطلاق النار، بسبب العقبات التي تضعها حركة المتمردين الحوثيين، في تعرض ما يزيد عن ثُلثى السكان، وتحديداً ما يقرب من 22 مليون يمني، إلى نقص كبير في المستلزمات الأساسية من بينهم قرابة 5 مليون على حافة المجاعة فعلياً. وفى ظل هذا الوضع، أصبح اليمن يتصدر قائمة الدول الأسوأ على مؤشر الوضع الإنساني، مع الوضع في الاعتبار أن اليمن شهد تاريخياً العديد من الحروب المتصلة أو المنفصلة عرّضت الدولة لهزات عنيفة لكنها لم تشهد الواقع المرير للوضع الإنساني في سنوات الحرب الحالية.

وفي ليبيا أيضاً، وعلى الرغم من أنها ليست من الدول الفقيرة اقتصادياً مقارنة بباقي دول الصراعات، لكن ذلك لم يجنبها تفاقم الأوضاع الإنسانية مع اندلاع موجات متعاقبة من التصعيد المسلح، وهناك مناطق في الجنوب الليبي بحاجة إلى عمليات إغاثية طارئة، إضافة إلى أن قرابة 70% من المهاجرين واللاجئين بحاجة إلى تلك المساعدات.

دوافع عديدة

هناك العديد من الأسباب التي تعزز تصدر ملف العمليات الإنسانية بناءً على ما سبق، ومنها على سبيل المثال:

1- صعوبات التوصل لعمليات تسوية فعلية للصراعات: فرض طول أمد الصراعات والأزمات حالة من اليأس في إمكانية التوصل لعمليات تسوية، بل إن هناك العديد من عمليات التسوية التي تم إقرارها لكنها لم تنفذ فعلياً على الأرض. ففي اليمن، تم إبرام اتفاق ستوكهولم بنهاية عام 2019 ولم يدخل حيز النفاذ. كذلك في سوريا، تعرَّضت مناطق شهدت تجدد الصراعات، كما هو الوضع في درعا، للحصار من جانب النظام السوري، وكانت إعادة الخدمات والمساعدات أحد شروط العودة إلى اتفاق 2018 لإقرار هدنة ووقف التصعيد، وبالتالي أصبح البديل القائم هو نمط إدارة الصراعات والأزمات وليس حلها كليةً، وبالتبعية معالجة التداعيات الناجمة عنها. ومن زاوية أخرى، يعرقل التصعيد المسلح عملية وصول المساعدات الإنسانية، لذا أصبح هناك نموذج جديد من التسوية بالقطعة أو التسويات المتعددة المراحل، وهو نموذج فرض نفسه للتعامل مع تلك الأوضاع.

2- الظواهر الناشئة عن تداعيات الأزمات الإنسانية: ومنها تنامي ظاهرة الهجرة على سبيل المثال، والتي تدفع الدول التي تتعرض لهذه الظاهرة إلى عملية تحسين الأوضاع الإنسانية الضاغطة في بيئات الصراعات والأزمات، أكثر من مساعيها لدعم الحل السياسي لهذه الصراعات والأزمات، حيث تدفع تلك الأوضاع بالنازحين واللاجئين إلى الهجرة للخارج، وأصبحت هذه الهجرات تثقل كاهل الدول، كما هو الحال بالنسبة للدول الأوروبية التي تمنح أولوية لمكافحة الهجرة غير الشرعية من سوريا أو ليبيا التي أصبحت بؤرة رئيسية لهذه الظاهرة. وزادت الدول من اهتمامها بالجوانب الإنسانية مع تحول الظاهرة من دائرة الضغط الاقتصادي والضغط على البنية التحتية في تلك الدول إلى مهدد أو خطر أمني على حياة المواطنين في ظل انخراط بعض المهاجرين في تنظيمات إرهابية، أو ما عرف بظاهرة “الذئاب المنفردة”.

3- جائحة “كورونا” والأمراض المتوطنة: ربما دقت جائحة “كورونا” جرس الإنذار إلى هذه الأولوية أيضاً، في ظل انهيار المنظومات الصحية في دول الصراعات والأزمات، بسبب عدم التزام أطراف الصراعات بوقف التصعيد المسلح، رغم ضغوط الجائحة. وبالتبعية أصبح هناك طلب إضافي على العمليات الإنسانية في الجانب الصحي، كالأدوية وتأهيل البنية الصحية أو إقامة مراكز طبية جوّالة.

4- اختبار فعلي لمؤشر الأمن والسلم: كما سلفت الإشارة، لم يعد المقياس لاستعادة الاستقرار أو السلم والأمن في دول الصراعات والأزمات، هو الوصول إلى تسوية سياسية، بقدر ما أصبح التقدم في الملف الإنساني هو المحك الحقيقي في اختبار هذه التسوية. فمع إقرار هدنة درعا، على سبيل المثال، لا تزال الأوضاع الإنسانية هي المؤشر المُقلِق رغم حالة الهدوء القائمة. وفي أحيانٍ كثيرة، يكون الاختراق الذي تسجله البعثات الأممية في مناطق الصراعات والأزمات هو إمكانية التوصل لهدنة، وليس تسوية، لإدخال المساعدات الإنسانية.

إجمالاً، يمكن القول إن هناك مؤشرات عديدة كاشفة عن أن القاسم المشترك في مهام البعثات الأممية في المرحلة الحالية هو أولوية الملف الإنساني. وفى العام الجاري، تم تعيين اثنين من المبعوثين الأمميين، في اليمن وليبيا، وفي سوريا قبل ذلك. ومع استنتاج هذه البعثات أن أطراف الصراعات لا تمنح رؤية البعثات للحل السياسي أولوية، فإن البديل هو منح أولوية للمجتمعات التي تدفع كلفة استمرار هذه الصراعات والأزمات بلا حل، بالإضافة إلى دور القوى الدولية التي تمول عمليات السلام بدافع احتواء تداعيات تلك الأوضاع بشكل استباقي.