تأتي زيارة وزير الخارجية التونسي إلى روسيا، في مرحلة تحاول فيها البلاد النهوض وتجاوز الأزمة الاقتصادية التي تعانيها، كما تأتي كمحاولة لـ”طلب الدعم” وبحث التعاون الاستراتيجي، على غرار النهوض بالاستثمارات وتطوير التعاون الاقتصادي والتجاري. فضلاً عن أن الزيارة تحمل رسائل سياسية، تخص شركاء تونس التقليديين؛ أبرزها أن تونس بإمكانها تنويع علاقاتها الخارجية، والاتجاه شرقاً إلى روسيا والصين، سيما وأن هذه خطوة تأتي متوافقة مع الطلب التونسي بالانضمام إلى مجموعة بريكس، وبعد عدة أشهر من انضمام تونس إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية.
فقد أعادت زيارة وزير الخارجية التونسي، نبيل عمار، لموسكو مؤخراً، الحديث عن علاقات تونس مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، شريكها التقليدي، وحاجتها للتوجه شرقاً نحو روسيا بحثاً عن بديل.
زيارة عمار وإن لم تُفرز موقفاً صريحاً بانضمام تونس إلى معسكر روسيا والصين، إلا أنّها عكست تلويحاً تونسياً بإمكانية التوجه شرقاً، والنأي بالنفس عن التحالف التقليدي مع الغرب، خاصة أن وزير الخارجية التونسي لم يفوت الفرصة لانتقاد صندوق النقد الدولي، بالقول: “يجب أن يكون في خدمة الدول، لا العكس”، في إشارة إلى توقف المفاوضات مع الصندوق، للحصول على قرض تمويلي بقيمة 1.9 مليار دولار.
واللافت أن عمار قد اصطحب معه في هذه الزيارة رئيسة ديوان الحبوب في تونس، في محاولة للخروج من أزمة الحبوب التي تعانيها تونس، فضلاً عن المحاولة الرئيسية لتحرك الدبلوماسية التونسية من أجل زيادة التبادل التجاري مع موسكو، في اتجاه تخفيف الضغوط الغربية التي تواجهها تونس، للتراجع عن مسار 25 يوليو.
عوامل دافعة
لعل التوجه شرقاً نحو روسيا والصين، كان أمراً مطروحاً ضمن الخطط البديلة، في حال لم يتجاوب صندوق النقد الدولي مع المطالب التونسية. ومع توقف المفاوضات، لرفض الرئيس التونسي قيس سعيد شروط الصندوق، برزت مجموعة من العوامل الدافعة للتوجه التونسي نحو الشرق، وتحديداً نحو روسيا.
ولعل أهم هذه العوامل تبدو كما يلي:
1- إيجاد حلول للخروج من أزمة الحبوب: إذ كان عنوان الزيارة الرئيس هو البحث في اتفاقية تفاضلية لـ”شراء الحبوب”، وتعزيز العلاقة بين الجانبين؛ خاصةً أن وزير الخارجية التونسي كان قد اصطحب معه سلوى بن حديد الزواري، رئيسة ديوان الحبوب الحكومي، التي تم تعيينها في هذا المنصب بقرار مباشر من الرئيس قيس سعيد، في أغسطس الماضي؛ حيث إن ديوان الحبوب، هو الجهة الوحيدة المُخوَّلة لإبرام اتفاقيات شراء الحبوب وتوزيعها.
بل تأتي الزيارة في ظل أزمة الحبوب التي تعيشها تونس، في إطار نقص الإمدادات بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، إلى جانب تراجع الإنتاج المحلي نتيجة الجفاف، وهو ما تسبب في اضطرابات على مستوى تزويد الأسواق بالدقيق. وتحت ضغط الحاجة الملحة لتأمين الاحتياجات التونسية من الحبوب، حيث تستورد تونس ما يزيد على 80% من احتياجاتها من الحبوب؛ نجحت الدبلوماسية التونسية في توقيع اتفاق لتوريد كميات من القمح من روسيا إلى تونس بأسعار مخفضة.
2- تجاوز الأزمة الاقتصادية ورفض شروط صندوق النقد الدولي: حيث فتح رفض الرئيس التونسي إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي، التساؤلات بشأن البدائل التمويلية المطروحة أمام بلد يُعاني من فجوة هائلة في الموازنة، ومن حاجته إلى سداد ديون عاجلة. وبالتالي، تأتي زيارة عمار إلى موسكو، في وقت تتزايد فيه تداعيات الأزمة الاقتصادية في البلاد، كنوع من التلويح التونسي بإمكانية التوجه إلى الشرق.
ولعل ذلك يتكامل مع ما قامت به تونس من خطوة أولى في هذا الاتجاه، اتجاه الشرق، بانضمامها إلى عضوية البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، لتُصبح بدءاً من 7 مايو 2022، العضو رقم 90 فيه. وفضلاً عن أن كلاً من روسيا والصين تمتلكان أسهماً في هذا البنك؛ فإنه يمكن أن يتحول إلى ملاذٍ لتونس، على مستوى تعويض قرض صندوق النقد الدولي، الذي تعثرت المفاوضات بشأنه، حيث إن انضمام تونس لهذه المؤسسة المالية يندرج في إطار “تنويع مصادر تمويل المشاريع التنموية”، بحسب موقع “سبوتنيك عربي”، نقلاً عن وزارة الاقتصاد التونسية، في 15 فبراير الماضي.
3- زيادة حجم التبادل التجاري مع روسيا: فمع ما تحققه تونس من أرقام مهمة على صعيد استقطاب السياح الروس؛ فإنها تحاول الدفع في اتجاه تعزيز التعاون الاقتصادي وزيادة التبادل التجاري مع روسيا. وبحسب السفير الروسي لدى تونس، ألكسندر زولوتوف، خلال مُقابلة مع موقع “سبوتنيك عربي”، في 12 فبراير الماضي، فقد “ارتفع حجم التجارة بشكل ملحوظ، في عام 2022″، مُشيراً إلى أن حجم التجارة “ارتفع بنسبة 63 %، مُقارنة بالعام 2021، ليصل إلى 692 مليون دولار”.
أما وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وخلال المؤتمر الصحفي، في موسكو، مع وزير الخارجية التونسي نبيل عمار، فقد صرح بأن “روسيا تدعم القيادة التونسية في مسعاها لتعزيز اقتصاد البلاد”. وأكد لافروف على أن “مستوى التبادل التجاري مع تونس، خلال 6 أشهر من العام الجاري، بلغ 1.2 مليار دولار”.
أضف إلى ذلك، أن تونس كانت قد شهدت، خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري، بحسب وزارة الصناعة والطاقة والمناجم التونسية، قفزة في الإمدادات النفطية من روسيا، وخاصة منها الموجهة للإنتاج الصناعي، هذا في الوقت الذي يشهد فيه إنتاجها المحلي من الطاقة تراجعاً ملحوظاً، مُقارنة بالسنوات الماضية، حيث تقلص الإنتاج بما نسبته 15 بالمائة، في عام 2022، عن العام الذي سبقه، وكذلك تراجع الغاز المسوق والمسال بنسبة 7 بالمائة.
4- الخلافات المتصاعدة مع الاتحاد الأوروبي: فبرغم أن الاتحاد الأوروبي يُعد الشريك الأول لتونس، ورغم العلاقات الاقتصادية بينهما، تلك التي تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، بتوقيع اتفاق للتبادل التجاري “الحر” بين الجانبين؛ إلا أن الخلافات بينهما قد تصاعدت خلال الأشهر الأخيرة، على خلفية تجدد أزمة المهاجرين غير النظاميين، من تونس ومن ليبيا، باتجاه السواحل الأوروبية.
ومن هنا، يأتي الخلاف بين تونس والاتحاد الأوروبي في ظل عدم وفاء الاتحاد بالتزاماته المالية تجاه تونس، لمساعدتها على مواجهة أزمة المهاجرين، من أفريقيا إلى أوروبا، كأحد العوامل الدافعة لزيارة وزير الخارجية التونسي إلى روسيا، بل والتلويح بالتوجه شرقاً. فقد خيم التوتر على العلاقات بين تونس والاتحاد الأوروبي، خاصة أن السلطات التونسية كانت قد رفضت دخول وفد من البرلمان الأوروبي إلى أراضيها “لتجاوزه الأعراف الدبلوماسية”، بحسب وزارة الخارجية التونسية، وذلك في خطوة عكست عمق الفجوة بينهما، هذا رغم ارتفاع الصادرات التونسية مع بعض الشركاء الأوروبيين، خلال العام الماضي، منها فرنسا بنسبة 9.3 بالمائة، وإيطاليا بنسبة 21 بالمائة، وإسبانيا بحو 33.6 بالمائة، بحسب وزارة التجارة وتنمية الصادرات، في 17 مارس الماضي.
5- توتر العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية: فبالرغم من محاولة تونس، عبر تحركاتها الأخيرة، طمأنة الشركاء التقليديين، الأوروبيين والأمريكان، عبر التأكيد على أنها ستحافظ عليها؛ لكن في ظل تشدد الموقف الأمريكي من المحادثات مع صندوق النقد الدولي، خاصة أنه يمكن ربطه بالتطورات السياسية التي شهدتها البلاد، فضلاً عن الموقف التونسي “المحايد” تجاه الحرب الروسية الأمريكية؛ في ظل هذا يأتي التوجه التونسي ناحية الشرق.
والملاحظ أن انتقاد نبيل عمار لصندوق النقد الدولي، وتصريحه بأنه “يجب أن يكون في خدمة مصالح الدول، وليس العكس”؛ كان قد جاء بعد ساعات من إعلان رئيسة لجنة الشؤون الخارجية، في مجلس الشيوخ الإيطالي، ستيفانيا كراكسي، من واشنطن، بأن “موقف الولايات المتحدة من تونس صعب للغاية، ولا يوجد مخرج في الوقت الراهن”.