رفعت “هيئة تحرير الشام” مستوى التصعيد ضد قوات الجيش السوري والمليشيات الإيرانية الموالية، عبر شن عمليات ذات نمط هجومي، في ظل التحولات التي تشهدها الساحة السورية، وتحديداً بعد محاولات تركيا للتقارب مع النظام السوري، والتخوفات من تسويات في الشمال السوري قد تؤثر على الوضع الميداني القائم منذ اتفاق خفض التصعيد.
وربما تسعى “تحرير الشام” إلى إبراز محورية دورها على الساحة السورية، وتمرير رسائل لتركيا والنظام السوري والأطراف الداعمة له، لتجنب الوصول إلى تسوية أو تفاهمات تتجاوزها، إضافة إلى محاولة توظيف حالة الاستياء بالشمال السوري ضد أنقرة لتوسيع الحاضنة الشعبية.
سياقات حاكمة
شهدت الساحة السورية خلال الفترة الماضية عدداً من التحولات في خريطة التفاعلات التي تجري بين الأطراف الفاعلة، ويتمثل أبرزها في:
1- تصعيد عملياتي لـ”تحرير الشام”: تواصل مليشيا “هيئة تحرير الشام”، التي تفرض سيطرتها على مناطق المعارضة بمحافظة إدلب بالشمال السوري على وجه الخصوص، عملياتها لاستهداف قوات الجيش السوري، والمليشيات الإيرانية الموالية لها، في مناطق خفض التصعيد المتفق عليها بين روسيا وتركيا.
إذ نفذت عمليتين منفصلتين بمحافظتي حلب وإدلب خلال (10–11 يناير 2023)، أسفرتا عن سقوط قتلى وجرحى من الجيش السوري، ومن عناصرها على حد السواء، قبل أن تنفذ هجوماً (14 يناير 2023) على قوات الجيش السوري في محور نحشبا بريف اللاذقية الشمالي.
واتجهت “تحرير الشام” منذ العام الماضي إلى تكثيف عملياتها النوعية ضد قوات الجيش السوري والمليشيات الإيرانية، وكان شهر ديسمبر 2022 الأكثر عنفاً ونشاطاً عملياتياً لـ”الهيئة” خلال العام الماضي، وفقاً لتقديرات سورية.
وتعتمد “تحرير الشام” على عمليات لألوية عسكرية خاصة بها في تنفيذ بعض العمليات النوعية لاستهداف قوات الجيش السوري، إضافة إلى عمليات قصف على مواقع تابعة لها، قبل أن يرد الجيش السوري بعمليات قصف متبادل على المناطق الخاضعة لسيطرتها.
2- تغير الموقف التركي تجاه النظام السوري: تزايدت وتيرة محاولات تركيا للتقارب مع النظام السوري، وهو ما يشير إلى تحولات رئيسية في الموقف التركي تجاه الرئيس السوري بشار الأسد. ففي 28 ديسمبر الفائت، اجتمع وزير الدفاع التركي خلوصي آكار مع نظيره السوري علي محمود عباس في موسكو، في إحدى جولات التقارب بين البلدين، بعد لقاءات على مستوى جهازي الاستخبارات في البلدين، للتمهيد لمرحلة تقارب سياسي تنتهي بلقاء بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والسوري بشار الأسد.
وعلى الرغم من بوادر التقارب بين البلدين، فإن التصعيد العسكري التركي بعمليات القصف على مواقع مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” المعروفة بـ”قسد”، أدى إلى حالة من التوتر الميداني، إذ تشير بعض التقارير الإعلامية إلى أن اجتماع وزيري خارجية البلدين، الذي كان مقرراً منتصف شهر يناير الجاري، قد يُعقد مطلع فبراير المقبل، ولكن يُتوقع أن يسبقه اجتماع بين وزيري دفاع البلدين لتسوية بعض الملفات قبل التقارب الرسمي على المستوى السياسي.
3- معضلة أنقرة في شمال شرقي سوريا: تواجه تركيا خلال الأشهر القليلة الماضية، معضلة رئيسية على الساحة السورية، وتحديداً على مستوى المواجهات مع مليشيا “قسد” بمناطق سيطرتها بشمال شرقي سوريا.
فعلى الرغم من استمرار عمليات القصف الجوي والمدفعي منذ الربع الأخير من العام الماضي، إلا أنها لم تتمكن من إحداث اختراق على مستوى التفاهمات مع الأطراف الفاعلة على الساحة السورية، لتنفيذ عملية برية على مناطق سيطرة “قسد”.
وربما دفع رفض الأطراف المختلفة على الساحة السورية لأي عملية برية تركية، إلى تكثيف محاولات التقارب مع النظام السوري، للوصول إلى تفاهمات حول تأسيس منطقة آمنة خالية من المكون الكردي من خط الحدود التركية بعمق 30 كيلو متر.
4- الانشغال الروسي بالحرب الأوكرانية: انعكست الحرب الأوكرانية على تراجع الملف السوري على أجندة أولويات السياسة الخارجية الروسية خلال العام الماضي، مع استمرار المواجهات في أوكرانيا، وتقديم الدول الغربية دعماً عسكرياً للجيش الأوكراني.
ومع غياب أفق لحل الصراع الروسي-الأوكراني، واحتمالات استمرار العمليات العسكرية، فإن روسيا ربما تسعى إلى الوصول لتفاهمات بين الجانبين التركي والسوري خلال الفترة المقبلة، للتخفيف من وطأة الضغوط المفروضة عليها على الساحة السورية، بما يسمح لها بالتركيز على الملف الأوكراني، وهو ما بدا من خلال استضافة اجتماع وزيري دفاع البلدين، واحتمالات استضافة اجتماع وزيري خارجية البلدين، تمهيداً لتطبيع كامل للعلاقات بين أنقرة ودمشق.
أهداف عديدة
في ضوء السياقات والتحولات التي تشهدها الساحة السورية، يمكن تفسير التصعيد العملياتي لـ”هيئة تحرير الشام” ضد قوات الجيش السوري على النحو التالي:
1- إبراز محورية دور “تحرير الشام”: يشير التصعيد العملياتي لـ”تحرير الشام” خلال الأشهر القليلة الماضية، في ظل سعى تركيا للتقارب مع النظام السوري، إلى محاولة تأكيد “الهيئة” على محورية دورها على الساحة السورية، خاصة وأنها تسيطر على محافظة إدلب، إضافة إلى مناطق أخرى بالمحافظات المجاورة.
2- تمرير رسائل إلى أنقرة: ربما تسعى “الهيئة” جراء التصعيد العسكري في مناطق خفض التصعيد، إلى تمرير رسائل إلى أنقرة، مفادها قدرة “الهيئة” على إرباك التقارب بين تركيا وسوريا، من خلال عدم الوفاء بأي اتفاقات لتسوية ملف الشمال السوري، مثلما حدث في تحديد مناطق خفض التصعيد بين تركيا وروسيا.
كما أن التصعيد العملياتي يأتي في إطار رد فعل على مساعي تركيا للتقارب مع النظام السوري، وهو ما عبر عنه زعيم “تحرير الشام”، أبو محمد الجولاني، في لقاء جمعه بوجهاء محافظة إدلب مطلع شهر يناير الجاري، وبثته “الهيئة” بتاريخ (11 يناير)، حيث اعتبر الجولاني أن “مسار المفاوضات بين أنقرة ودمشق خطير، وانحراف يمس الثورة السورية”، رغم تأكيده على أن “تركيا أحد الداعمين للثورة”.
3- توسيع نطاق الحاضنة الشعبية: قد لا ينفصل ذلك كله عن محاولات “الهيئة”تعزيز الحاضنة الشعبية لها في شمال سوريا من خلال إبراز دورها في حماية المدنيين المعارضين للنظام السوري، والتأكيد على رفض أي تقارب أو تسويات في الشمال السوري من قبل تركيا. وربما تسعى “الهيئة” إلى توسيع هذه الحاضنة حتى خارج محافظة إدلب، لتمتد إلى المناطق التي تخضع لسيطرة مليشيات موالية لتركيا.
4- ضمان تسوية لا تتجاوز “الهيئة”: تحاول “تحرير الشام” عبر التصعيد العسكري الإشارة إلى أنرفض المليشيات المعارضة، وتحديداً “الهيئة”،للتفاهمات بين تركيا والنظام السوري يضعف من احتمالات وقف التصعيد العملياتي ويزيد من إمكانية عودة المواجهات المفتوحة بين الطرفين في الشمال السوري خلال الفترة المقبلة، خاصة أن التصعيد العملياتي يشير إلى امتلاك “الهيئة” القدرة على مواصلة الهجمات والدخول في مواجهات مع قوات الجيش السوري والمليشيات الإيرانية الموالية له.
سيناريو محتمل
يشير النشاط العملياتي لـ”تحرير الشام” في الأشهر القليلة الماضية، واستمراره خلال شهر يناير من العام الجديد، مع النمط الهجومي في العمليات ضد قوات الجيش السوري والمليشيات الإيرانية، إلى اتجاه “الهيئة” نحو سيناريو تصعيد عملياتي قد يستمر خلال الفترة المقبلة، ولكنه يظل محكوماً بالتطورات التي سوف تشهدها الساحة السورية، وحدود التفاهمات بين الأطراف الفاعلة، وتحديداً بعد تحولات الموقف التركي تجاه النظام السوري، وبالتالي تراجع دعم الأطراف الخارجية للمليشيات التي تُصنف بـ”المعارضة” للنظام السوري، حال نجاح التقارب التركي-السوري.