صراع متجدد:
لماذا تفجرت أزمة تنظيم أهل السنة والجماعة في ولاية غلمدغ الصومالية؟

صراع متجدد:

لماذا تفجرت أزمة تنظيم أهل السنة والجماعة في ولاية غلمدغ الصومالية؟



دخلت العلاقة بين تنظيم أهل السنة والجماعة ذي التوجهات الصوفية وحكومة إقليم غلمدغ وسط الصومال دورة جديدة من الصراع بعد هدوء نسبي استمر لأكثر من عام. وقد جاء تجدد الصراع كمحصلة لعدد من العوامل أبرزها عجز حكومة ولاية غلمدغ والحكومة الفدرالية الصومالية عن التوصل لتسوية سياسية ملائمة مع تنظيم أهل السنة والجماعة، فضلاً عن تغير المعادلة الأمنية على الأرض في غلمدغ حيث شهدت في الشهور الماضية تمدداً كبيراً لمقاتلي تنظيم الشباب المجاهدين، ما استدعى تكثيف عمليات الجيش الفدرالي الصومالي والضربات الجوية الأمريكية، وهو ما كان سبباً في تعزيز شرعية تنظيم أهل السنة والجماعة. كذلك عزز صعود مكانة ولاية غلمدغ في الاتحاد الفدرالي القائم بين الولايات الصومالية من أهمية السيطرة على حكومة الولاية ولو بالقوة، وهو الأمر الذي شكل محفزاً إضافياً لتنظيم أهل السنة والجماعة.

فالصومال تتقاطع فيه مظاهر غياب الأمن وعجز الدولة عن بسط سيطرتها الفعالة بصورة كاملة. وفي ولاية غلمدغ وسط الصومال، خلق تنامي نشاط تنظيم الشباب المجاهدين في الأشهر الأخيرة فراغاً أمنياً، ووضعاً سياسياً مأزوماً، سمح بتجدد الصراع بين تنظيم أهل السنة والجماعة ذي المرجعية الصوفية، وبين حكومة ولاية غلمدغ، ومن ورائها الحكومة الفدرالية الصومالي.

فعلى الرغم من أن نشاط التنظيم قد دخل في طور من الجمود منذ آخر مواجهاته مع القوات المسلحة التابعة لحكومة الولاية في عام 2019، ساهم التدهور الأمني في الولاية في عودة قيادات التنظيم للنشاط من جديد بحجة حشد المقاتلين لمواجهة تمدد تنظيم الشباب المجاهدين. ومع تصاعد مؤشرات تجدد نشاط تنظيم أهل السنة والجماعة أصدرت قيادة شرطة ولاية غلمدغ في الثامن والعشرين من سبتمبر تحذيرا مشدداً لهم، بعد أن تناولت بعض وسائل الإعلام أنباء أفادت بقيامهم بحشد قوات في مناطق خاضعة للولاية، وقد دعت شرطة الولاية بوقف التحريض على الصراع في الولاية. وقد رصد البيان بصورة مفصلة وصول القياديين بالتنظيم الصوفي معلم محمود الشيخ حسن والشيخ شاكر لمنطقة هورشي بحجة إحياء الذكرى السنوية لوفاة الشيخ يوسف ديريد. وقد طالب بيان شرطة غلمدغ قيادات تنظيم أهل السنة والجماعة بالعودة لقواعدهم الأصلية في مهلة لا تتجاوز اليوم الواحد.

وبحلول الثاني من أكتوبر 2021 كانت الميليشيات التابعة لتنظيم أهل السنة والجماعة قد باشرت تمددها في مدن الولاية لتتمكن من السيطرة على بلدتي غري عيل ومتبان من دون اشتباك مسلح مع عناصر حكومة الإقليم بعد أن قامت الشرطة المحلية بالانسحاب. كما أعلن مقاتلو التنظيم عن إحباطهم هجوماً لقوات الحكومة الفدرالية الصومالية في منطقة بوهول، فضلاً عن قيامهم بالسيطرة على مطار غري عيل وإصدار قرار بمنع هبوط الطائرات العسكرية في المطار. ومن جانبها بدأت حكومة ولاية غلمدغ التي يرأسها أحمد عبدي كاريه في تعبئة قدراتها العسكرية في دوسمريب عاصمة الولاية بعد أن استقبل مطارها عدداً من الطائرات العسكرية التي تقل جنوداً بالجيش الفدرالي الصومالي.

وفي محاولة لتعزيز شرعية تنظيم أهل السنة والجماعة أعلن الشيخ محمد شاكر علي حسن قيادات التنظيم الحرب على تنظيم الشباب المجاهدين من أجل “تحرير الصومال”. وعلى جانب آخر أعلنت قيادات تنظيم أهل السنة والجماعة في الثالث من أكتوبر بداية زحفها على مدينة دوسمريب عاصمة ولاية غلمدغ وذلك بعدما تمكنت من السيطرة على بلدة عيل طيري التي يفصلها عن دوسمريب 30 كيلومتراً لا أكثر.

أزمات مركبة

ويثير تجدد المواجهات بين تنظيم أهل السنة والجماعة، وبين قوات ولاية غلمدغ سؤالاً مهماً حول أسباب تجدد هذه الأزمة في الوقت الحالي الذي تواجه في الحكومة الفدرالية الصومالية وحكومات الولايات جملة من الأزمات المركبة، وتتمثل أهم هذه الأسباب في:

1- العجز عن الاحتواء السياسي لمشكلة تنظيم أهل السنة والجماعة: في ظل ما يتمتع به تنظيم أهل السنة والجماعة من قواعد دعم دينية وعشائرية بين سكان ولاية غلمدغ، لم تتمكن الحكومة الفدرالية الصومالية ولا حكومات الولاية المتعاقبة من تصفية مشكلة التنظيم عبر حله أو حظره أو مواجهته بالأداة الأمنية وحدها. وقد أنتج هذا الوضع سلسلة من المباحثات السياسية التي تعقب الأزمات التي يثيرها التنظيم والتي عادة ما تنتهي بالتوصل لاتفاق تسوية هش، سرعان ما تفرض مستجدات الواقع إعادة التفاوض بشأنه.

ففي أغسطس 2015 توصلت رئاسة من ولاية غلمدغ وقيادة تنظيم أهل السنة والجماعة إلى اتفاقية شاملة لتقاسم السلطة وقعت في مدينة عدادو التي كانت مقراً مؤقتاً لحكومة الولاية، وقد قضى الاتفاق بانضمام تنظيم أهل السنة والجماعة إلى حكومة الولاية، ما يعني إنهاء تمرده فوراً، مقابل تمثيله على نحو ملائم من خلال مقاعد في حكومة الولاية مجلسها التشريعي، مع تولي عناصر من الجناح المسلح للتنظيم مناصب في قوات الولاية. ومع انهيار التوافق، اضطر الجانبان للتفاوض مجدداً في إبريل من عام 2017 برعاية الحكومة الفدرالية الصومالية عبر مفاوضات مطولة جددت التوافق الهش بين الجانبين.

وقد أطلق تنظيم أهل السنة والجماعة في يوليو من عام 2019 موجة جديدة من التمدد العسكري مكنته من السيطرة على مساحات كبيرة ومواقع استراتيجية متعددة من ولاية غلمدغ، بحيث تمكن من السيطرة على مطار مدينة عدادو ليمنع هبوط الطائرات العسكرية التابعة للقوات المسلحة الصومالية فيه، وهو الإجراء الذي أعقب سيطرة قوات التنظيم على مطار مدينة دوسمريب كذلك. وقد جاء هذا التصعيد بعد فشل سلسلة من اللقاءات التي جمعت رئيس الحكومة الفدرالية آنذاك حسن علي خيري وزعيم أهل السنة الشيخ محمود معلم حسن.

لكن وفق المسار الطبيعي للعلاقة بين التنظيم الحكومة الصومالية، تم التوصل إلى اتفاق بعد مباحثات مكثفة عقدت في مدينة دوسمريب أسفر عن تنازل زعيم التنظيم آنذاك معلم محمود شيخ حسن عن قيادته مسلماً إياها إلى الشيخ عبد الرزاق الأشعري، وذلك بعد اجتماع قادة الجماعة وحكومة ولاية غلمدغ بوزير الداخلية في الحكومة الفيدرالية آنذاك عبدي محمد صبري.

وفي نوفمبر 2019 استسلم مقاتلين من تنظيم اهل السنة والجماعة مدينة غري عيل في إقليم غل غدود بولاية غلمدغ لقوات الحكومة الفيدرالية في مدينة غري عيل، وذلك بعد مفاوضات بين قائد مقاتلي التنظيم في المدينة ومسؤولين عسكريين في الفرقة ال 21 من الجيش الصومالي، وقد جاء هذا الانسحاب من مدينة غري عيل الاستراتيجية في أعقاب الانسحاب من مدينة متبان المهمة كذلك. ومنذ ذلك الحين دخل التنظيم في مرحلة من الكمون، قبل أن يجدد نشاطه في نهاية سبتمبر 2021 ليبدأ دورة جديدة من الصراع مع حكومة ولاية غلمدغ والحكومة الفدرالية الصومالية، في مؤشر كاشف عن الطبيعة الهشة غير المستدامة للتوافقات السياسية بين الطرفين.

2- تنامي نشاط تنظيم الشباب المجاهدين في غلمدغ: يؤسس تنظيم أهل السنة والجماعة شرعيته على تاريخه الممتد في قتال تنظيم الشباب المجاهدين منذ عام 2008، وهو المجال الذي حقق فيه تفوقاً نسبياً أعاق تمدد التنظيم الإرهابي في غلمدغ لسنوات. وجاء التطور النوعي لنشاط تنظيم الشباب المجاهدين في غلمدغ منذ بداية العام الجاري، ليساهم في تجديد شرعية تنظيم أهل السنة والجماعة ورفع الطلب الشعبي على عودته للنشاط في مدن الإقليم لحمايتها من نشاط تنظيم الشباب.

وعلى الرغم من أن القوات الأمنية الصومالية قدر بدأت في تنفيذ عملية موسعة لتأمين مدينة دوسمريب في الحادي والثلاثين من يناير 2021 تمهيداً لاستضافة المؤتمر التشاوري بين رئيس الجمهورية ورؤساء الولايات لحل أزمة الانتخابات، تعرضت المدينة لقصف مدفعي في الثاني من فبراير بعد سقوط أكثر من عشر قذائف هاون على المدينة، وهو الهجوم الذي نفذته عناصر تابعة لتنظيم الشباب المجاهدين. وبعد يوم واحد من انتهاء أعمال المؤتمر التشاوري، شهدت المدينة في السابع من فبراير تفجير ناتج عن زرع قنبلة على جانب الطريق في منطقة عيل ديري أودى بحياة أربعة عشر جندياً ومسؤولاً حكومياً من بينهم رئيس جهاز المخابرات في ولاية غلمدغ.

وفي ابريل 2021 احتدمت المواجهات بين مقاتلي تنظيم الشباب والقوات المسلحة الصومالية في محيط مدينة دوسمريب في أعقاب محاولة للفرقة الحادية والعشرين من الجيش الصومالي لطاردة عناصر تابعة لتنظيم الشباب في منطقتي عيل طيري وسينقابو مما أسفر عن مقتل ضابط صومالي وثلاثة من مقاتلي التنظيم الإرهابي، قبل أن تتجدد المواجهات المسلحة بين الجيش الصومالي وعناصر تنظيم الشباب في الرابع من يوليو 2021 في الضاحية الجنوبية لمدينة دوسمريب بعد أن أعلن الجيش الصومالي تصفيته خمسة عشر عنصراً من عناصر تنظيم الشباب.  

وقد أفرز تصاعد نشاط تنظيم الشباب في غلمدغ العديد من مظاهر الاضطراب، بعد أن أدى الفراغ الأمني الناتج عن العمليات المكثفة لتنظيم الشباب إلى انتشار عصابات تمارس السطو مستترة بارتداء الزي العسكري الحكومي الأمر الذي أثر على القطاع التجاري في الولاية بصورة كبيرة. كما شهد شهر أغسطس ذروة جديدة لنشاط تنظيم الشباب، ففي الحادي والعشرين من أغسطس تعرضت مدينة دوسمريب عاصمة ولاية غلمدغ لقصف ليلي بمدافع الهاون استهدف مطار المدينة الذي تحول إلى هدف رئيسي لعمليات القصف التي يشنها مقاتلو تنظيم الشباب بصورة دورية.

3- تكثيف الاعتماد على قوات خارجية بدلاً من قوات الولاية: أثبتت قوات ولاية غلمدغ خلال الأشهر الأخيرة عجزاً كاملاً عن التصدي لتمدد نشاط الشباب المجاهدين، الأمر الذي فرض توسع عمليات كل من القوات المسلحة الصومالية من جانب والقيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) من جانب آخر.  فقد شنت طائرات أمريكية مسيرة أولى الغارات الجوية في عهد الرئيس الأمريكي جو بايدن على موقع لمقاتلي تنظيم الشباب في ولاية غلمدغ بوسط الصومال وفق ما أكدته سيندي كينج المتحدثة باسم وزارة الدفاع الأمريكية في العشرين من يوليو. وبدورها أعلنت الحكومة الصومالية أن تنظيم الشباب المجاهدين قد تكبد خسارة كبرى، كاشفة عن الموقع التفصيلي للضربة الجوية الأمريكية بين مدينة قيدعد ومدينة حررطيري الساحلية بولاية غلمدغ. قبل أن يؤكد السكرتير الصحفي لوزارة الدفاع الأمريكية جون كيربي قيام القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) بشن ضربة جوية ثانية في الثالث والعشرين من يوليو استهدفت تنظيم الشباب في غلمدغ كذلك.

وعلى الرغم من أن هذا التمدد للقوات الفدرالية الصومالية بإسناد أمريكي قد ساهم نسبياً في احتواء نشاط تنظيم الشباب في غلمدغ، شكل ذريعة إضافية لتنظيم أهل السنة والجماعة لإقناع قطاعات من سكان الولاية بدعم تمردهم على حكومة الولاية العاجزة عن التصدي لتنظيم الشباب، والتي باتت تستعين بقوات “أجنبية” بصورة كبيرة. وقد شكل إصرار تنظيم أهل السنة والجماعة في أزمات سابقة على وقف انتشار القوات الفدرالية الصومالية في ولاية غلمدغ واحداً من المطالب الأساسية للحركة والتي عادة ما تلقى قبولاً كبيراً من أبناء العشائر المختلفة في الولاية.

4- تصاعد الأهمية الرمزية لغملدغ ولمدينة دوسمريب: خلال الأزمة السياسية الممتدة التي تعاني منها الصومال بسبب تعذر إجراء الانتخابات الفدرالية، لعبت رئاسة ولاية غلمدغ دوراً مهماً في الوساطة بين الفرقاء، خاصة مع اتساع التباين في مواقف رئيس الجمهورية ورئيسي ولايتي بونتلاند وجوبالاند. وقد أسفر هذا الموقف عن استضافة مدينة دوسمريب عاصمة غلمدغ ثلاث جولات من اللقاءات التشاورية المباشرة التي جمعت رئيس الجمهورية ورؤساء الولايات بين شهري يوليو وسبتمبر 2020 أفضت إلى توقيع اتفاق السابع عشر من سبتمبر الذي يعد أحد المرجعيات المهمة للخروج من الأزمة السياسية التي لا تزال قائمة. كما استضافت دوسمريب جولة تشاورية رابعة لم تحرز نجاحاً كبيراً في فبراير من عام 2021.

ولم ينته دور رئاسة غلمدغ عند هذا الحد، حيث لعب رئيس الولاية أحمد عابدي كاريه دوراً رئيسياً في جهود الوساطة بين رئيس الجمهورية محمد عبد الله فرماجو، ورئيس الوزراء محمد حسين روبلي التي تفجرت في سبتمبر من عام 2021 بسبب إقالة الأخير لرئيس المخابرات فهد ياسين. وقد أسفرت وساطة رئيس غلمدغ عن عقد مشاورات مطولة بين الجانبين لم تؤد إلى إنهاء الأزمة، لكنها عززت المكانة المركزية لولاية غلمدغ ورئيسها.

وقد أغرت هذه المكانة المتنامية لغلمدغ في الاتحاد الفدرالية الصومالي تنظيم أهل السنة والجماعة لمحاولة استعادة السيطرة على عاصمة الولاية من جديد لما يعنيه ذلك من تمكين التنظيم من ممارسة نفوذ سياسي واسع قد يمتد ليشمل الصومال ككل، خاصة في ظل المشكلات التي تعترض إتمام إجراءات الانتخابات التشريعية في الولاية، ما يعني أن الباب لا يزال مفتوحاً للتنظيم لممارسة كافة أشكال الضغط التي تمكنه من الوصول لرئاسة الإقليم والهيمنة على مجلسه التشريعي ومن ثم حكومته.

آفاق خطرة

وإجمالاً، يحمل مستقبل الصراع القائم بين تنظيم أهل السنة والجماعة وحكومة ولاية غلمدغ في الصومال آفاقاً مستقبلية خطرة، يعزز من فرصها عوامل متعددة تتضمن استمرار الأزمة السياسية الناتجة عن تأخر إجراءات استكمال الانتخابات الفدرالية، وتصاعد الأزمة في مقديشيو بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وغموض مستقبل مكافحة الإرهاب في الصومال بعد “شرعنة” نموذج التفاوض مع الإرهاب في أفغانستان، فضلاً عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي بلغت مستوى حاد من التدهور في عموم ولايات الصومال. لكن في الوقت نفسه لا يزال الباب مفتوحاً أمام تسوية سياسية -هشة كسابقاتها- تؤجل وصول الصراع لنقطة اللاعودة، وهو الأمر الذي قد يساعد على تحقيقه الطبيعة الملتبسة لتنظيم أهل السنة والجماعة بما يحمله من أبعاد متعددة بعضها أيديولوجي وبعضها الآخر سياسي.