توتر متصاعد:
لماذا تعوّل تركيا على توظيف القوة الصلبة ضد الأكراد؟

توتر متصاعد:

لماذا تعوّل تركيا على توظيف القوة الصلبة ضد الأكراد؟



واصلت تركيا استخدام القوة الخشنة في إدارة المواجهات مع المليشيات الكردية في الإقليم، على نحو بدا جلياً في التحركات العسكرية المكثفة التي تقوم بها في الفترة الحالية ضد مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في شمال سوريا، بالتزامن مع الغارات الجوية التي شنتها، في 13 يناير الجاري، ضد أهداف تابعة لـ”حزب العمال الكردستاني” في شمال العراق.

ويأتي التوظيف التركي للأداة العسكرية بعد مقتل 21 جندياً تركياً في شمال العراق في أقل من شهر، وهو ما دفع أنقرة إلى توجيه تهديدات، في 18 يناير الجاري، بالاجتياح البري لمناطق شمال سوريا. وربما يشير ذلك إلى تبني تركيا مقاربة جديدة تقوم على أن السياقات الإقليمية والدولية الحالية تشجع على استخدام القوة الخشنة ضد الأكراد، لا سيما في ظل انشغال القوى المعنية بالأزمات المتفاقمة في غزة وأوكرانيا.

سياقات محفزة

يتزامن الاستخدام التركي المكثف للقوة الصلبة ضد الأكراد مع سياقات إقليمية ودولية ترى أنقرة أنها تشجع على استخدام الخيار العسكري، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1- انشغال الدول الغربية بالحرب في غزة: لا ينفصل اتجاه تركيا لتوظيف القوة الصلبة ضد الأكراد عن محاولتها توظيف انشغال الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. وتعد الدول الغربية الداعم الأهم للأكراد في شمال سوريا، إذ ترى أن المليشيات الكردية طرف مهم في الحرب ضد تنظيم “داعش”. كما تعتبر واشنطن “قسد” من أهم شركائها المحليين في سوريا. وهنا، يمكن فهم المناورات العسكرية المشتركة التي أجرتها الولايات المتحدة في منتصف ديسمبر 2023 مع “الوحدات الكردية” وقوات “قسد” في شمال شرق سوريا.

بيد أن واشنطن باتت أكثر اهتماماً في التوقيت الحالي بتطورات الأوضاع في غزة، خاصة مع استمرار العمليات العسكرية التي تشنها إسرائيل داخل القطاع، بالتوازي مع تفاقم حدة التصعيد مع حزب الله في جنوب لبنان والمليشيات الموالية لإيران في العراق وسوريا، فضلاً عن المليشيا الحوثية في البحر الأحمر.

2- تزايد الاهتمام الروسي بالأزمة الأوكرانية: جاءت العمليات العسكرية المكثفة التي أطلقتها تركيا في الأيام الأخيرة ضد الأكراد على ضوء توظيف الاهتمام الروسي بالأزمة الأوكرانية، خاصة مع اتساع نطاق المواجهات على جبهات القتال بين موسكو وكييف، بالإضافة إلى استمرار الدعم الغربي للأخيرة، وهو ما يثير قلق موسكو.

وتجدر الإشارة إلى إعلان وزارة الدفاع الروسية، في 17 يناير الجاري، عن وجود مرتزقة فرنسيين يقاتلون إلى جانب الجيش الأوكراني. كما وقعت كييف ولندن، في 12 يناير من الشهر نفسه، خلال زيارة رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك لأوكرانيا، اتفاقاً أمنياً ثنائياً مدته عشرة أعوام، ينص على زيادة المساعدات العسكرية البريطانية المقدمة لأوكرانيا للعام 2024/2025 لتصل إلى 2.5 مليار جنيه استرليني، بالإضافة إلى تسليم آلاف الطائرات المسيّرة، وصواريخ بعيدة المدى ووسائط دفاع جوي، ووسائل أمن بحري، وهو ما قد يؤثر على مسارات الحرب في أوكرانيا.

3- الاستعداد لجولة جديدة من مفاوضات أستانة: يأتي الاستخدام المكثف للقوة الخشنة ضد الأكراد مع انشغال القوى المنخرطة في الأزمة السورية بالاستعداد للجولة الحادية والعشرين من مسار أستانة، والمقرر لها في 24 و25 يناير الجاري. وتراهن تركيا على الجولة الجديدة من أستانة للوصول إلى توافق بين الحكومة والمعارضة في سوريا باعتباره السبيل لإنجاح مسار الحل السياسي. كما تسعى لتوظيف أستانة للضغط على الدول الضامنة، وخاصة روسيا، لدعم جهودها في محاربة الأكراد، خاصة بعد اتهام الحكومة التركية للقوات الروسية الموجودة في سوريا بغض الطرف عن وجود “العمال الكردستاني” وأذرعه في غرب الفرات، خاصة في تل رفعت ومنبج.

4- استباق إجراء الانتخابات البلدية: تستعد تركيا لإجراء الانتخابات البلدية في 31 مارس القادم، حيث يسعى الرئيس رجب طيب أردوغان وحزب “العدالة والتنمية” إلى تحقيق نتائج بارزة فيها، على غرار استعادة رئاسة بلديات العاصمة وبعض المدن الرئيسية، وهو ما قد يكون له دور في إلقاء الضوء على التهديدات التي تفرضها تحركات المليشيات الكردية في العراق وسوريا على مصالح وأمن تركيا، من أجل تعزيز القاعدة الشعبية قبل إجراء الانتخابات.

وقد كان لافتاً أن الرئيس أردوغان أعلن، في 18 يناير الجاري، عن اختيار مرشح ينتمي لتيار اليمين المتطرف هو تورغوت ألتينوك، رئيس بلدية منطقة كيسيورين، للمنافسة على رئاسة بلدية أنقرة أمام مرشح حزب الشعوب الديمقراطي، منصور يافاش.

اعتبارات مختلفة

ثمة العديد من الاعتبارات التي تقف وراء استخدام أنقرة القوة الصلبة في مواجهة الأكراد، في الصدارة منها ارتفاع الخسائر البشرية في صفوف الجيش التركي خلال المواجهات مع الأكراد، وتتمثل آخر المؤشرات الدالة على ذلك في مقتل 9 جنود أتراك، في 13 يناير الجاري، خلال اشتباكات مع مسلحين من “حزب العمال الكردستاني” قرب قاعدة تركية في شمال العراق.

ولم تكن هذه الخسائر هي الأولى من نوعها، ففي أواخر ديسمبر الفائت، قتل 12 جندياً تركياً في هجومين منفصلين على قاعدتين عسكريتين تركيتين في شمال العراق. كما أعلنت مليشيا “قسد”، في 6 أكتوبر الماضي، عن قتل 5 جنود أتراك في عمليات شنتها رداً على هجمات بطائرات مسيرة نفذتها تركيا على المناطق الخاضعة للمليشيات الكردية في شمال شرق سوريا.

إلى جانب ذلك، يرتبط توظيف القوة الخشنة بسعي تركيا لتفكيك المشروع الكردي في الإقليم، سواء من خلال منع الأكراد في العراق وسوريا من إقامة دولة أو إفشال آلية نظام الإدارة الذاتية التي يتبناها أكراد سوريا في شمال شرق البلاد، باعتبار أن ذلك يمثل تهديداً للأمن القومي التركي، إذ قد تدفع هذه التجارب نحو دعم طموحات أكراد تركيا للانفصال أو على الأقل المطالبة بحكم ذاتي لمناطق جنوب شرق تركيا التي يمثل السكان الأكراد غالبيتها.

فضلاً عن ذلك، تمثل المصالح الاقتصادية أحد الأهداف الرئيسية وراء التحركات العسكرية التركية في الشمال السوري وشمال العراق، حيث تتواجد العديد من الشركات التركية في الأولى، خاصة بعد سيطرة الجماعات المحلية الموالية لتركيا على مفاصل السلطة في جانب واسع من مناطق شمال سوريا.

كما تسعى تركيا إلى تعزيز حضورها في الشمال العراقي، لضمان تطوير روابطها الاقتصادية مع إقليم كردستان العراق، على غرار مسعاها إلى استكمال خط السكة الحديدية الرابط بين الموصل وأراضيها، ومشروع الربط الكهربائي، بالإضافة إلى استثمار وجودها في شمال العراق لموازنة النفوذ الإيراني في العراق من جهة، وكذلك الاستمرار في الضغط على السلطة المركزية في بغداد لحماية المصالح التركية في العراق من جهة أخرى.

ختاماً، يمكن القول إن إصرار أنقرة على استخدام الخيار العسكري في إدارة المواجهات مع عناصر مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في الشمال السوري جنباً إلى جنب مع كثافة العمليات العسكرية ضد معاقل “حزب العمال الكردستاني” في شمال العراق، يشير إلى أن تركيا أنهت العمل بخيار التفاوض أو التفاهم مع المليشيات الكردية، لا سيما وأنها تبدو حريصة على استثمار السياقات الإقليمية والدولية الراهنة لخدمة أهدافها في الفترة الحالية.