قنصلية أربيل:
لماذا تعزز قطر من وجودها في كردستان العراق؟

قنصلية أربيل:

لماذا تعزز قطر من وجودها في كردستان العراق؟



أعلن السفير القطري في العراق “خالد بن حمد السليطي”، في 10 مايو 2023، عن اقتراب افتتاح قنصلية لبلاده بشكل رسمي في مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق، وذلك خلال اجتماع له مع مسؤول دائرة العلاقات الخارجية في حكومة إقليم كوردستان “سفين دزيي”، مشيراً إلى أن الهدف هو تعزيز العلاقات القطرية مع إقليم كردستان الذي يتمتع باستقلال ذاتي منذ تسعينيات القرن الماضي. وفي ضوء ذلك، فإن تلك الخطوة تحمل دلالات أخرى، تتعلق برغبة الدوحة في ترسيخ وجودها داخل الإقليم العراقي، وتعزيز العلاقات بشكل خاص في مجال النفط، ورفع مستوى التعاون في المجال الاقتصادي بين الدوحة وأربيل، وتكثيف التعاون المشترك في المجال الأمني، وسد احتياجات الدوحة من العمالة الوافدة والمواد الغذائية.

خلال السنوات الماضية تم الإعلان أكثر من مرة عن نية الجانبين القطري والكردي لفتح قنصلية للدوحة في أربيل، وكانت البداية عام 2008، حينما طرح المشاركون في فعالية نظمها “مركز دراسات الجزيرة” بالعاصمة القطرية الدوحة، وبمشاركة أكاديميين وخبراء وإعلاميين من قطر وكردستان العراق، فكرة فتح قنصلية عامة لقطر في أربيل بهدف تطوير وتعزيز العلاقات بين الدوحة والإقليم الكردي، ولكنها واجهت بعض العقبات جراء رفض الحكومة العراقية لهذا الأمر، وفقاً لما أعلنه مستشار الحزب الديمقراطي الكردستاني، الكاتب “كفاح محمود سنجاري” (المشارك الرئيسي في هذه الندوة 2008، وفي ندوة أخرى نظمها مركز الجزيرة عن المسألة الكردية في نوفمبر 2017).

تحركات مستمرة

وفي ضوء ذلك، فإن هناك بعض التحركات التي تؤكد رغبة الجانبين القطري والكردي في تعزيز علاقاتهما بالمناحي كافة، السياسية والاقتصادية والأمنية، وصولاً إلى المضي قدماً في افتتاح القنصلية القطرية بأربيل في هذا التوقيت، وهذه التحركات يمكن إبرازها على النحو التالي:

1- مساعٍ قطرية للاستثمار في كردستان العراق منذ 2019: بعد أن افتتحت ثلاث دول خليجية قنصليات لها في أربيل، هي: الإمارات في 2012، والكويت في 2015، والسعودية في 2016؛ وتسعى قطر للسير على خطي نظرائها الخليجيين، ففي أواخر سبتمبر 2019 أعلن سفير الدوحة لدى العراق “خالد السليطي” خلال اجتماع مع رئيس إقليم كردستان “نيجيرفان بارزاني” في العاصمة أربيل وبمشاركة وفد من رجال الأعمال والمصرفيين القطريين، عن عزم بلاده لفتح قنصلية لها في الإقليم الكردي، لتعزيز العلاقات الثنائية، والنهوض بالأوضاع السياسية والاقتصادية، ولتشجيع عمل القطاع الخاص ورجال الأعمال القطريين للاستثمار في مختلف مدن كردستان العراق.

2- مباحثات قطرية كردية متبادلة: في أكتوبر 2021، أجرى رئيس إقليم كردستان العراق “نيجيرفان بارزاني”، مباحثات مع أمير قطر “تميم بن حمد” ورئيس الوزراء القطري السابق “خالد بن خليفة آل ثاني”، تناولت سبل دعم وتعزيز وتقوية علاقات التعاون الثنائية، وخاصة في مجالات الاقتصاد والتجارة والزراعة والسياحة، والرحلات الجوية، بالإضافة إلى بحث خطوات فتح قنصلية قطرية في أربيل، ووقتها أعلن السفير العراقي في قطر “عمر برزنجي” الموافقة على افتتاح قنصلية للدوحة بالإقليم الكردي، مشيراً إلى أن الشروع في عملية التنفيذ مجرد “مسألة وقت فقط”، ثم أجرى أمير قطر في مايو 2022 مباحثات مع “بارزاني” على هامش منتدى دافوس الاقتصادي العالمي، تناولت تعزيز العلاقات بين الدوحة وأربيل.

3- موافقة الحكومة العراقية على افتتاح قنصلية قطر في أربيل أكتوبر 2022: بعد أشهر قليلة من اللقاء الذي جمع أمير قطر ورئيس كردستان العراق في منتدى دافوس بسويسرا، فقد أعلن رئيس الوزراء العراقي السابق “مصطفى الكاظمي” موافقته على افتتاح قنصلية عامة لدولة قطر في مدينة أربيل، وذلك خلال الجلسة الاعتيادية لمجلس الوزراء العراقي التي انعقدت مطلع أكتوبر الماضي، وخرج عنها الموافقة على جملة من التوصيات، من بينها “إقرار توصية وزارة الخارجية العراقية بشأن فتح قنصلية عامة قطرية لدى جمهورية العراق في محافظة أربيل، استناداً إلى أحكام المادتين (25، و26) من قانون الخدمة الخارجية (45 لسنة 2008)، واتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لعام 1963”.

مغزى التوقيت

ورغم التحركات السالف ذكرها إلا أن الطرفين لم يتمكنا من فتح القنصيلة حتى الوقت الراهن، وقد يرجع ذلك إلى عدد من التطورات التي شهدتها قطر خلال السنوات السابقة، من أبرزها المقاطعة الخليجية التي نجم عنها مقاطعة (مصر، والسعودية، والإمارات، والبحرين) لقطر في 5 يونيو 2017، حتى تمت إعادة العلاقات وإنهاء الأزمة في “قمة العلا” في يناير 2021، أما الأمر الثاني فقد يكون لانشغال الدوحة بتنظيم مونديال 2022 الذي انعقد في الفترة (نوفمبر – ديسمبر الماضي)، هذا بالإضافة إلى بعض الأوضاع الأمنية غير المستقرة التي وقعت على حدود الإقليم الكردي، وصولاً إلى تفشي فيروس كورونا أواخر عام 2019، الذي نجم عنه تراجع الحركة التجارية بين الدوحة وأربيل إلى مستوى كبير، جراء توقف عملية تصدير السلع والبضائع من الإقليم إلى الأراضي القطرية.

يمكن القول إن هذه التطورات والتغييرات السياسية قد تكون من ضمن أسباب تأخر افتتاح قنصلية قطر في أربيل حتى الآن، ولكن مع وصول حكومة عراقية جديدة برئاسة “محمد شياع السوداني” تجري مفاوضات مع المسؤولين بالإقليم الكردي لدعم الاستقرار والأمن في المناطق الحدودية ومعالجة الأوضاع الأمنية؛ فإنه من المتوقع أن يدفع ذلك الدوحة إلى فتح القنصلية في القريب العاجل كما أعلن السفير القطري في العراق “السليطي” خلال اجتماعه مع رئيس كردستان العراق في 10 مايو المنقضي.

دوافع الدوحة

وفي ضوء ذلك، فإن مساعي قطر لافتتاح قنصلية في أربيل يحمل عدة أهداف، يمكن توضيحها على النحو التالي:

1- تكثيف الحضور الدبلوماسي القطري في كردستان: لطالما شددت الدوحة خلال السنوات الماضية على ضرورة تعزيز الأمان والاستقرار السياسي في العراق عامة وإقليم كردستان بشكل خاص، لدفعها من أجل تعزيز التعاون مع الإقليم في مختلف المجالات، كالاقتصاد والتجارة والزراعة والسياحة وغيرها، وهذا الأمر سيتطلب حضوراً دبلوماسياً قوياً للدوحة في الإقليم الكردي على غرار باقي دول مجلس التعاون الخليجي التي تتمتع بعلاقات جيدة ومتنامية مع الإقليم. ومن ثم فإن الدوحة أدركت أن تحقيق أهدافها في الإقليم الكردي يدفعها أولاً لفتح قنصلية قطرية بأربيل تسهم بشكل رئيسي في تطوير العلاقات السياسية مع الإقليم، بما ينجم عنه وجود “دور متوازن ومحوري” للدوحة للتأثير في الملف السياسي بالعراق الذي تم استغلاله على مدار السنوات الماضية من قبل بعض القوى الإقليمية والدولية، كإيران وتركيا وأيضاً الولايات المتحدة الأمريكية.

2- توسيع الشراكة الاقتصادية بين قطر وكردستان العراق: تعي الدوحة جيداً أن كردستان العراق يتمتع بموقع جغرافي مميز يجعله مقصداً سياحياً لبعض المواطنين بمختلف المحافظات العراقية خاصة الجنوبية والوسطى، كما أنه غني بمختلف المعادن والثروات النفطية، وعليه فإن هذه المزايا مجتمعة تجعل الإقليم الكردي “بيئة جاذبة للاستثمارات”. ولذلك فإن الدوحة تريد استغلال ذلك للتغلغل والحضور بقوة داخل الإقليم، من خلال دفع شركاتها لإقامة مشاريع استثمارية وأنشطة اقتصادية متعددة بمختلف الأراضي العراقية عامة والإقليم الكردي بشكل خاص، وهو الأمر الذي تعمل عليه الدوحة منذ فترة، حتى وصل حجم التبادل التجاري بين العراق وقطر إلى 145.3 مليون دولار، ويحظى “كردستان العراق” بنسبة كبيرة، وفقاً لما أعلنه سفير دولة قطر لدى العراق “خالد بن حمد السليطي” في سبتمبر 2021، مبيناً أن قطر لديها 304 شركات بالأراضي العراقية تعمل بمختلف الأنشطة الاقتصادية، وعليه فإن الهدف من هذه القنصلية إزالة أي عراقيل أمام رجال الأعمال القطريين لتوسيع استثماراتهم في شمال العراق، وهي الرغبة التي لطالما أعلن عنها بعض رجال الأعمال في الدوحة.

3- تعزيز التعاون في مجالات الطاقة المختلفة: يعد إقليم كردستان العراق من أكثر المناطق الغنية بالنفط والغاز في العراق، فوفقاً للإحصاءات الأخيرة فإن احتياطي النفط بالإقليم يبلغ ما يقرب من 45 مليار برميل، وهناك توقعات بأن ترتفع إلى 60 مليار برميل، في حين أن احتياطي الإقليم من الغاز الطبيعي يبلغ 5.6 تريليونات قدم مكعب، ولذلك فإنه فرصة للدوحة لتكثيف آفاق التعاون مع الإقليم بمجال الغاز الطبيعي ومشاريع الطاقة المتجددة، خاصة في ظل التأثيرات السلبية التي شهدها سوق النفط العالمي جراء الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في فبراير 2022، وهو الأمر الذي لطالما كان محور نقاش في المباحثات التي جمعت الجانبين الكردي والقطري خاصة في السنوات الثلاث الأخيرة، كان آخرها في فبراير 2022، إذ ناقش رئيس حكومة الإقليم “مسرور البارزاني” خلال زيارته للدوحة، مباحثات مع وزير الطاقة القطري “سعد بن شريدة الكعبي”، تطرقت إلى “ضرورة تعزيز آفاق التعاون في مجال الغاز الطبيعي ومشاريع الطاقة المتجددة، والتعاون الإقليمي في هذا القطاع بين الجانبين”.

4- تأمين الاحتياجات القطرية من العمالة الوافدة والمواد الغذائية: تهدف الدوحة من وراء تعزيز وجودها الدبلوماسي في كردستان العراق إلى سد احتياجاتها من المنتجات الزراعية، وهو ما دفعها في يوليو 2017 إلى إرسال وفد تجاري واستثماري برئاسة نائب رئيس مجلس التجارة القطري “محمد بن أحمد الكواري” لزيارة محافظة السليمانية شرق إقليم كردستان العراق، لإجراء مباحثات مع المسؤولين بالمحافظة من أجل تعزيز التعاون في القطاع الزراعي وذلك بعد مناشدة الإقليم للدولة الخليجية لمساعدة مزارعيه في تسويق بعض محاصيلهم الصيفية وتصديرها إلى الأسواق الخارجية.

ولذلك، اتفق وقتها الطرفان على تصدير فاكهة الإقليم إلى الدوحة، ومن وقتها وتعتمد الأخيرة على غالبية المنتجات الزراعية من الإقليم الكردي بواسطة رحلات جوية شبه يومية، وعليه فهي تريد تأمين احتياجتها الغذائية خاصة بعد الأزمات التي شهدها العالم والتي أثرت على الأمن الغذائي بالمحيطين العربي والدولي. وفي الوقت ذاته، تجدر الإشارة إلى أن الدوحة مساحتها صغيرة ولكنها ذات ثقل سياسي واقتصادي بالمنطقة، وتعتمد في أوقات عدة على استقدام العمالة من الخارج للعمل في المشاريع القطرية المتعددة، ولذلك فقد تُقدم خلال الفترة المقبلة على تعزيز التعاون مع كردستان العراق بهذا المجال بما يعود بالنفع على كلا الجانبين.

5- مساعدة الإقليم الكردي على تعزيز الأوضاع الأمنية: بين فترة وأخرى تشهد كردستان العراق ضربات سواء من تركيا أو إيران لاستهداف بعض قوى المعارضة الكردية لهذه البلدان، وهو الذي نجم عنه في بعض الأوقات حالة من عدم الاستقرار بالإقليم، دفع الحكومة العراقية ورئاسة إقليم كردستان للتأكيد على رفضهم للهجمات التركية والإيرانية التي تنتهك السيادة العراقية، وفي ضوء ذلك فإن الدوحة تعي أن الحفاظ على استثماراتها ومشاريعها الاقتصادية بالإقليم يتطلب منها تكثيف التعاون السياسي مع السلطات بكردستان العراق، والعمل على مساندة الأخير في الحفاظ على أمنه واستقراره بما يضمن وضع حد لبعض هجمات القوى الإقليمية، والتصدي لأية محاولات لعودة تنظيم “داعش” إلى شمالي العراق مرة أخرى، إضافة لمكافحة جرائم المخدرات وغسيل الأموال والاتجار بالبشر والتعاون المشترك لتوفير الحماية الأمنية للموانئ والمطارات.

شراكة استراتيجية

خلاصة القول، إن الهدف من افتتاح قنصلية لقطر في أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق خلال الفترة المقبلة، يهدف إلى رفع مستوى العلاقات بينهما إلى “مستوى الشراكة الاستراتيجية”، لتعزيزها في مختلف المجالات خاصة الاقتصادية والتجارية والسياسية وأيضاً الأمنية، كما أنه يعكس إدراك الدوحة أن الوقت الراهن هو الأنسب لوجود تمثيل دبلوماسي لها في الإقليم الكردي، يسهم في الحفاظ على مستوى التطور والتعاون الذي شهدته العلاقة بين الإقليم وقطر خلال السنوات السابقة.