أزمة الثقة:
لماذا تعتبر إيران الاتفاق النووي غير مجدٍ؟

أزمة الثقة:

لماذا تعتبر إيران الاتفاق النووي غير مجدٍ؟



تراجعت فرص الوصول إلى اتفاق نووي جديد بين إيران والقوى الدولية، بعد تعثر المفاوضات التي أُجريت على مدار الفترة من أبريل 2021 وحتى أغسطس 2022. إذ لم تسفر تلك المفاوضات عن تسوية الخلافات العالقة بين الطرفين الرئيسيين وهما إيران والولايات المتحدة الأمريكية. ومن هنا، ورغم التقدم الملحوظ في الاتفاق النووي، كان لافتاً أن الطرفين توافقا على “ترحيل” الصفقة المحتملة إلى حين تبلور ظروف ربما توفر مناخاً يساعد في إبرامها في النهاية.

لكن رغم ذلك، بدا لافتاً أن إيران بدأت توجه رسائل جديدة إلى الدول الغربية تفيد بأنها ليست معنية بالوصول إلى هذه الصفقة، وأن الاتفاق النووي الحالي بات غير مُجدٍ. ففي هذا السياق، قال وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، في كلمة ألقاها أمام طلاب في جامعة طهران، في 9 ديسمبر الجاري: “كلما تقدّمنا أكثر، أصبحت خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي) بلا جدوى”.

دوافع عديدة

يمكن تفسير هذا التوجه الجديد الذي باتت تتبناه إيران حالياً في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- ارتفاع مستوى الأنشطة النووية: تمكنت إيران خلال الفترة الماضية من تحقيق تقدم نوعي في الأنشطة النووية التي تقوم بها، وهو ما كشفت عنه الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في التقرير الذي أصدرته في 15 نوفمبر الفائت. إذ أشار هذا التقرير إلى أن إيران أنتجت 4.486 كيلوجراماً من اليورانيوم المخصب بنسب مختلفة ما بين 3.67% و60%، وأن كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 60% وصلت إلى 128.3 كيلوجراماً، وهو ما يكفي، حسب تقارير عديدة، لإنتاج ثلاث قنابل نووية على الأقل.

هنا، فإن هذا التقدم يمكن أن يؤدي إلى إفراغ الاتفاق الحالي من مضمونه فعلاً، خاصة مع الوضع في الاعتبار أن هذا الاتفاق يقضي بأن تحتفظ إيران بكمية من اليورانيوم المخصب بنسبة 3.67% تصل إلى 202.8 كيلوجرام، بما يعني أن ما أنتجته إيران بالفعل من المواد النووية يصل إلى 22 ضعف ما هو منصوص عليه في الاتفاق النووي، الذي يتمثل أحد أهدافه الرئيسية في تحجيم كمية المواد النووية التي تمتلكها إيران، وهو ما تحقق بالفعل في المرحلة الأولى من هذا الاتفاق، عندما قامت إيران بإخراج الجزء الأكبر من الكمية التي تمتلكها من اليورانيوم المخصب إلى روسيا؛ إلا أنها عادت إلى زيادة كمية اليورانيوم المخصب وبنسب مختلفة رداً على الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018، ثم إعادة فرض العقوبات الأمريكية في 7 أغسطس من العام نفسه.

2- تراجع الاهتمام الأمريكي بالاتفاق: كان لافتاً أن اهتمام إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن سواء بالاتفاق النووي الحالي أو بالوصول إلى صفقة جديدة مع إيران، تراجع إلى حدٍّ كبير. فقد بدا واضحاً للإدارة أن اندفاعها المبكر لإجراء مفاوضات جديدة مع إيران، وتوجيه رسائل إيجابية للأخيرة، مع بداية فترة الرئيس بايدن لم يحقق نتائج تُذكر في النهاية، بسبب استمرار إيران في التمسك بمواقفها وشروطها الأساسية، على غرار الحصول على ضمانات بعدم الانسحاب الأمريكي من الاتفاق مجدداً، إلى جانب رفع النسبة الأكبر من العقوبات الأمريكية المفروضة عليها، ولا سيما تلك المتعلقة بالحرس الثوري، وتحديداً رفع اسمه من قائمة التنظيمات الإرهابية التي تصدرها وزارة الخارجية الأمريكية.

وربما يعود ذلك، في قسم منه، إلى أن الإدارة الأمريكية ترى رغم الضغوط التي تتعرض لها من جانب إسرائيل وأطراف داخلية، أنه لا توجد مؤشرات توحي بأن إيران في طريقها نحو العمل على إنتاج القنبلة النووية، بما يعني أنها ما زالت ترى أنها تمتلك من الخيارات ما يمكن أن يساعدها في منع إيران من التوجه نحو هذا المسار.

3- اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية: ترى اتجاهات عديدة في إيران أن اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، التي سوف تجرى في نهاية عام 2024، يضعف من احتمال الوصول إلى صفقة نووية جديدة. إذ إن هذه الصفقة قد تتطلب تنازلات من جانب الإدارة الأمريكية لا تستطيع تمريرها داخلياً على الأقل في المرحلة الحالية، ولا سيما في ظل الضغوط التي تتعرض لها من جانب أقطاب من الحزبين الجمهوري والديمقراطي لإجراء تغيير في سياستها تجاه إيران، خاصة بعد أن اتهم بعض هؤلاء الأقطاب الأخيرة بأنها ضالعة في عملية “طوفان الأقصى” التي شنتها “كتائب القسام” (الذراع العسكرية لحركة حماس) داخل غلاف غزة في 7 أكتوبر الماضي، وأسفرت عن مقتل 1200 شخص.

4- التهديدات الأمريكية بتجميد الأموال الإيرانية: تراقب إيران بحذر الموقف الأمريكي إزاء استكمال الشق المتبقي من صفقة تبادل السجناء التي تم تنفيذ الشق الأول منها في 18 سبتمبر الماضي بالإفراج المتبادل عن السجناء، حيث يتبقى حصول إيران على المليارات الستة التي تمثل مستحقات صادراتها النفطية إلى كوريا الجنوبية، والتي قامت الأخيرة بنقلها إلى سويسرا لتحويلها من الوون إلى اليورو ثم نقلها إلى حسابات في قطر، حيث ستخصص تلك الأموال للإنفاق على شراء سلع غذائية وأدوية.

لكن اندلاع الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة دفع اتجاهات عديدة داخل الولايات المتحدة الأمريكية إلى الدعوة لإعادة تجميد تلك الأموال، على أساس أن إيران سوف تستخدمها في دعم وكلائها في المنطقة، رغم القيود السابق ذكرها. وقد بدا أن الإدارة الأمريكية لا تستبعد هذا الإجراء، على نحوٍ انعكس في تصريحات وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن، في 12 أكتوبر الماضي، والتي ألمح فيها إلى أن “واشنطن تمتلك الحق في تجميد هذه الأموال”.

وهنا، فإن إيران تسعى عبر التلويح بإمكانية مراجعة موقفها من الاتفاق النووي الحالي، إلى توجيه رسائل تحذيرية بأن الإقدام على تجميد هذه الأموال مرة أخرى سوف تكون له تكلفة عالية، على غرار اتخاذ مزيدٍ من الإجراءات التصعيدية على المستوى النووي.

توتر متصاعد

في ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن إيران تستعد -في الغالب- لمرحلة جديدة من التوتر والتصعيد مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. فرغم أن الدولتين لم توجها اتهامات مباشرة للأولى بالضلوع في عملية “طوفان الأقصى”، إلا أن ذلك لا ينفي أن تل أبيب تحديداً قد تبدأ عملية “تصفية حسابات” مع طهران، خاصة في ضوء اتجاه الأخيرة نحو رفع مستوى قدراتها النووية، والتلميح بمواصلة تخفيض التزاماتها في الاتفاق النووي.