رفض الاصطفاف:
لماذا تعارض تركيا عضوية السويد وفنلندا في الناتو؟

رفض الاصطفاف:

لماذا تعارض تركيا عضوية السويد وفنلندا في الناتو؟



سارعت تركيا إلى إبداء معارضتها لإعلان السويد وفنلندا نيتهما تقديم طلب رسمي للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”. ورغم تأكيد “الناتو” على استمراره في دعم سياسة “الباب المفتوح” التي تتضمن إتاحة الفرص لضم دول شرق أوروبا إليه؛ إلا أن أنقرة عارضت هذه الخطوة، واعتبر الرئيس التركي في تصريحات له في 13 مايو الجاري أن انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي “ناتو” سيكون “خطأ”، وأضاف أن بلاده “ليس لديها رأي إيجابي”، مشيراً إلى أنه لا يرغب في “تكرار الخطأ نفسه الذي ارتُكب عندما انضمت اليونان إلى الحلف”.

وقد تزامنت التصريحات التركية مع مواقف غربية مغايرة، وداعمة للسويد وفنلندا، حيث أعلن الأمين العام لــ”الناتو” ينس ستولتنبرغ عن استعداده لاستقبال البلدين بحرارة، ووعد بعملية انضمام “سلسة وسريعة”. ومن جهته قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إنه يدعم تماماً اختيار فنلندا الانضمام للحلف. كما أعلنت المسؤولة العليا عن الشؤون الأوروبية في وزارة الخارجية الأمريكية “كارين دونفريد” عن استعداد بلادها لدعم طلب استكهولم وهلسنكي للانضمام إلى الحلف.

الرفض التركي لا يمكن فصله عن رؤية أنقرة للتداعيات التي يمكن أن تفرضها هذه الخطوة، سواء على موقعها من الأزمات الإقليمية المختلفة، أو على العلاقات الثنائية مع السويد وفنلندا، وكذلك على مستقبل التشابكات مع القوى الغربية، التي تبدو مقبلة على استحقاقات صعبة بسبب استمرار القضايا الخلافية، ناهيك عن التوتر الكامن تحت السطح بين أنقرة والحلف ذاته، والذي اتهمته تركيا مراراً بعدم الوقوف إلى جانبها لمواجهة التهديدات الإرهابية والحدودية التي واجهتها في السنوات الماضية، وفي الصدارة التهديدات القادمة من سوريا، وكذلك خلافاتها مع موسكو عقب إسقاط الطائرة الروسية في عام 2015 قرب الحدود السورية التركية.

اعتبارات متنوعة

يمكن تفسير الرفض التركي للحاق فنلندا والسويد بحلف الناتو، ومعارضة المواقف الغربية الداعمة للدولتين، في ضوء اعتبارات رئيسية تتمثل في:

1- تحييد الغضب الروسي تجاه أنقرة: يفرض التحالف القائم بين تركيا وروسيا خيارات محدودة على أنقرة، تدفعها دائماً إلى معارضة توسع الناتو على حدود موسكو. وقد كان قرار أنقرة بمعارضة خطوة لحاق فنلندا والسويد بحلف الناتو مثالاً على ذلك. وترتبط أنقرة مع موسكو بعلاقات عسكرية واقتصادية، فإلى جانب حصول تركيا على منظومة S400 الدفاعية من موسكو، تشترك تركيا وروسيا في روابط ومشاريع تجارية واستثمارية عديدة، فضلاً عن مشاريع الطاقة التي تعتبر حجر الأساس في العلاقات الثنائية بين البلدين.

بالتوازي مع ما سبق، فإن أنقرة تخشى من تصاعد فرص التدخل العسكري الروسي في المنطقة حال انضمام السويد وفنلندا للناتو، حيث حذرت موسكو مراراً البلدين من الإقدام على تلك الخطوة، مؤكدة أنها لن تمر مرور الكرام؛ بل ستردّ عليها بـ”إجراءات تقنية وعسكرية”. هنا، فإن أنقرة ترى أن ضم البلدين في هذا التوقيت ربما يشعل حرباً جديدة بين الناتو وموسكو، وقد تصل ارتداداتها السلبية إلى تركيا لا محالة.

2- إرباك الحسابات التركية والتأثير على مصالحها الإقليمية: ربما يؤدي دخول السويد وفنلندا حلف شمال الأطلسي “الناتو” إلى إرباك حسابات تركيا، والتأثير على مصالحها الإقليمية، وفي مقدمتها منطقة القوقاز وشرق أوروبا. ورغم أن السويد وفنلندا تتبنّيا ظاهرياً سياسة حيادية، إلا أنهما لم تترددا عن توجيه الانتقادات لأنقرة، وآخرها إدانة قرار الرئيس التركي في أكتوبر 2021 بطرد سفراء عشر دول أوروبية من تركيا بعد دعوتهم إلى الإفراج عن الناشط الحقوقي والمعارض التركي عثمان كافالا.

في هذا السياق، فإن أنقرة تخشى أن تصبح مواقف فنلندا والسويد داخل الناتو “معادية لها” على غرار اليونان التي انضمت إلى الحلف بموافقة تركية، وهو ما تحوّل لاحقاً إلى موضع جدل كبير في الداخل التركي، واعتبار موافقة الحكومة التركية آنذاك على لحاق اليونان بالناتو كان “قراراً خاطئاً” اضطر أنقرة إلى أن تدفع ثمناً باهظاً، حيث تعمل أثينا بشكل ممنهج ضد المصالح التركية، وآخرها جهودها لتحشيد دول “الناتو” ضد التحركات التركية شرق المتوسط للتنقيب عن مكامن الطاقة.

3- المواقف الداعمة لحزب العمال الكردستاني ومنظمة جولن: تدرك أنقرة أن كلاً من فنلندا والسويد لا تمثلان دولاً حليفة أو تجمعها معهما علاقات استراتيجية، بل تعتبرهما ما يمكن تسميته “بيوت ضيافة للمنظمات الإرهابية”، حيث تتهم أنقرة كلاً من استكهولم وهلسنكي “بإيواء إرهابيين من حزب العمال الكردستاني، ومنظمة جولن” اللتين تعتبرهما تركيا كيانات إرهابية.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن توجّهات السويد وفنلندا تجاه حزب العمال الكردستاني ومنظمة “خدمة” التي تتهمها تركيا بتدبير انقلاب صيف 2016، تثير حفيظة تركيا، وهو الأمر الذي يفسر الفتور التركي تجاه لحاق البلدين بالناتو، رغم الدعم الذي حظيت به الدولتان من معظم أعضاء الأطلسي والأمين العام للحلف. وهنا، فإن نشاط خصوم النظام التركي في السويد وفنلندا يمكن أن يتسبب في إصرار تركيا على رفض طلب لحاقهما بالناتو، وظهر ذلك في تصريحات أطلقها نائب رئيس حزب “العدالة والتنمية” الحاكم في تركيا، إيفكان علاء، في 14 مايو الجاري، حيث قال إن “موقف تركيا من عضوية السويد وفنلندا في الناتو واضح ومفهوم للغاية. يجب أن تعيد هاتان الدولتان النظر بوضوح شديد في علاقتهما مع العناصر الإرهابية لحزب العمال الكردستاني، ووضع حد لها”. وأضاف أن “وزيراً سويدياً حضر مؤخراً حدثاً نظمه حزب العمال الكردستاني”، مضيفاً: “نتوقع منهم (السويديين والفنلنديين) أن يأخذوا مخاوفنا الأمنية على محمل الجد، بينما نحن نتعامل مع القضايا الأمنية لتلك الدول”.

4- حسم الملفات الشائكة مع القوى الرئيسية بالناتو: لا ينفصل الرفض التركي للحاق السويد وفنلندا بعضوية حلف شمال الأطلسي “الناتو” عن سعيها لتعزيز فرص حل القضايا الشائكة، ليس مع السويد وفنلندا فحسب، وإنما مع القوى الرئيسية في الحلف التي تدعم عضوية البلدين، خاصة أن القانون الداخلي للناتو يُتيح لكل دولة حق الاعتراض “الفيتو” على انضمام أي دولة جديدة، وفي حال استخدمت تركيا هذا الحق فبإمكانها بالفعل منع انضمام فنلندا والسويد. في هذا السياق، فإن إعلان أردوغان رفضه عضوية السويد وفنلندا في الناتو، يُشير إلى رغبته في انتزاع تنازلات من البلدين بشأن استعدادهما للتخلي عن استضافة أعضاء من حزب العمال الكردستاني، الذي تصنفه واشنطن وأنقرة حركة إرهابية، وكذلك تسليم أنقرة العناصر التابعة لحركة “خدمة”، وتستضيفها هلسنكي واستكهولم.

بالتوازي مع ذلك، فإن تركيا قد تربط التراجع عن موقفها المناهض لعضوية السويد وفنلندا بحل القضايا الشائكة مع القوى الغربية في الحلف، وانتزاع تنازلات بشأن قضايا أخرى، وفي الصدارة منها الضغط على واشنطن التي أعلنت ترحيبها بانضمام البلدين، بشأن التعامل مع الأكراد في سوريا، أو صفقة شراء مقاتلات إف-35 الأمريكية، وتمرير صفقة مقاتلات F16. كذلك، ربما تسعى تركيا إلى توظيف موقفها المضاد لعضوية السويد وفنلندا للتأثير على مواقف الدول الأوروبية داخل الحلف الداعمة لليونان، والمناهضة للتحركات التركية شرق المتوسط.

مساران محتملان

يبدو أن التصعيد التركي الحالي ضد عضوية السويد وفنلندا داخل الناتو سوف يستمر بالمستوى نفسه، على الأقل في المدى القريب، بحيث يظل في حيز الخطاب السياسي التركي للضغط على السويد وفنلندا من جهة، والشركاء في الناتو من جهة أخرى.

في هذا السياق، فإن ثمة مسارين محتملين، السيناريو الأول: أن التصعيد التركي ضد عضوية البلدين يظل مرشحاً للتطور في ظل رعاية هلسنكي واستكهولم لخصوم النظام التركي، ومعارضة الشركاء في الناتو للمصالح الإقليمية التركية. والسيناريو الثاني: هو تراجع الموقف التركي حال القفز على القضايا الخلافية، ويبدو هذا السيناريو هو الأقرب، لاعتبارين يرتبط أولهما بتجاوب وزير الخارجية التركي مع نظيريه السويدي والفنلندي عشية اجتماع لهما على هامش اجتماع لحلف الأطلسي في برلين في 14 مايو الجاري، حيث أعلن عن أن بلاده مستعدة لمناقشة فنلندا والسويد في شأن ترشحهما لعضوية حلف شمال الأطلسي. كما أشار المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين في تصريحات له، في 15 مايو الجاري، إلى أنّ بلاده “لا تغلق الباب، لكنها تثير هذه القضية بشكل أساسي من باب الأمن القومي لتركيا”. ويعود ثانيهما إلى مخاوف أنقرة من أن تقود ممانعتها ضد عضوية السويد وفنلندا إلى إظهارها كدولة موالية لروسيا، فضلاً عن أن هذا الموقف قد يضر بصورة أنقرة داخل الناتو.

مفاعيل جديدة

ختاماً، وفي ضوء ذلك، يبدو أن عضوية السويد وفنلندا داخل حلف الناتو سوف تواجه تحديات عديدة في ظل رفض أنقرة، ناهيك عن استمرار القضايا الخلافية بين أنقرة وشركائها الغربيين، وبخاصة الولايات المتحدة، وعدم حسم التوترات مع الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو. ولذا، فإن القرار التركي الرافض لعضوية السويد وفنلندا سوف يفرض مفاعيل جديدة على الأرض، تؤثر -من دون شك- على مستوى التعاون بين تركيا من جهة والسويد وفنلندا من جهة أخرى، إضافة إلى انعكاسات الرفض التركي على واقع العلاقة مع دول الناتو.