يمكن تفسير إصرار واشنطن على فرض قيود مشددة على آليات صرف المستحقات المالية الإيرانية في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في تزايد المخاوف من انتقال هذه الأموال إلى الحرس الثوري، أو توجيهها إلى دعم المليشيات الموالية لإيران في دول الإقليم، فضلاً عن امتلاك أوراق ضغط في مواجهة طهران، وعدم توقيع الأخيرة على اتفاقية “فاتف”.
فرغم أن المفاوضات التي أُجريت بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران بشكل مباشر وغير مباشر، في كل من مسقط ونيويورك، خلال المرحلة الأخيرة، تعثرت بسبب استمرار الخلافات العالقة بين الطرفين حول بعض البنود، إلا أن الاتصالات والمحاولات التي تُبذل من أجل الوصول إلى تفاهمات بين الطرفين ما زالت قائمة بشكل واضح.
فقد قام وزير الخارجية العُماني بدر البوسعيدي بزيارة طهران في 17 يوليو الماضي، تلتها زيارة قام بها وزير الدولة بوزارة الخارجية القطرية محمد الخليفي، بعد نحو أسبوع، حيث سلم الرئيس الإيراني دعوة لزيارة الدوحة. وكان العنوان الرئيسي للزيارتين هو البحث في تجديد الوساطة التي ترعاها كل من مسقط والدوحة بين طهران وواشنطن.
وفي هذا السياق، نشرت وسائل إعلام إيرانية وعُمانية تقارير، في 25 يوليو الجاري، تُفيد بأن الولايات المتحدة الأمريكية -التي منحت إعفاءات للعراق لسداد ديونه لإيران- وافقت على أن يقوم العراق بإيداع جزء من المستحقات المالية الإيرانية نظير واردات الطاقة في حساب في سلطنة عُمان، شرط أن تستخدم هذه الأموال في المجالات التي لا تخضع للعقوبات، لا سيما في المجال الإنساني الخاص بشراء الدواء والغذاء، ويجب أن تتم الموافقة على أي تحويل من جانب وزارة الخزانة الأمريكية. وربما يتم اتباع الآلية نفسها فيما يتعلق بمستحقات إيران لدى كوريا الجنوبية، حيث قد تكون قطر هي الوسيط أو القناة المالية القائمة بين الطرفين.
صفقات محددة
هنا، يمكن القول إن إدارة الرئيس جو بايدن تسعى إلى تحقيق أهداف عديدة عبر هذه السياسة الجديدة التي تتبناها في التعامل مع إيران. يتمثل أبرز هذه الأهداف في إنجاز الصفقة الأهم التي تحظى بأولوية خاصة لدى الإدارة الأمريكية، وهي الصفقة الخاصة بالسجناء الأمريكيين لدى إيران، وهما سياماك نمازي، ومراد طهباز، وعماد شرقي. إذ إن الإدارة تتعرض لضغوط متواصلة من جانب عائلات السجناء وبعض القوى السياسية التي تتهمها بأنها تسعى إلى إبرام صفقة مع إيران حول الاتفاق النووي على حساب السجناء، وأنها لم تبذل من الجهود ما يمكن أن يساعد في ضمان إطلاق سراحهم.
وفي رؤية الإدارة، فإن إنجاز هذا الملف يمكن أن يُعزز موقع الرئيس بايدن قبل اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، في نوفمبر 2024، والتي سيبدأ السباق السياسي فيها قبل ذلك بشهور عديدة، فضلاً عن أن إنجاز صفقة السجناء يمكن أن يعزز من فرص الوصول إلى تسوية أخرى لا تقل أهمية خاصة بالاتفاق النووي.
اعتبارات مختلفة
انطلاقاً من ذلك، أبدت الإدارة الأمريكية مرونة فيما يتعلق بحصول إيران على قسم من مستحقاتها المالية المجمدة في الخارج، حيث اعتبرت أن هذا التنازل المحدود يمكن أن يُساعد في إنجاز الصفقة النووية، ويُعطي مبرراً للتيار المؤيد للصفقة داخل إيران من أجل الدفاع عنها في مواجهة الضغوط والانتقادات التي يتعرض لها من جانب قوى متشددة تمتلك نفوذاً واضحاً داخل مؤسسات صنع القرار.
لكنّ الإدارة في الوقت نفسه تريد وضع ضوابط محددة لآليات إنفاق تلك الأموال. ورغم أن هذه القيود التي فرضت على المستحقات المالية الإيرانية يمكن أن تدفع القوى المتشددة الداخلية في إيران إلى تصعيد انتقاداتها للتفاهمات الحالية التي تجري مع الإدارة الأمريكية، فإن ذلك لا ينفي أن الأخيرة تبدو مصرة على المضيّ قدماً في تنفيذها، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء الاعتبارات التالية:
1- منع إيران من التصرف بحرية في المستحقات المالية: خاصة فيما يتعلق باستخدام قسم من هذه الأموال في تقديم مزيد من الدعم للحلفاء في الخارج، ولا سيما المليشيات الشيعية التي تتهم باستمرار بأنها تنفذ هجمات ضد القوات الأمريكية في العراق وسوريا، فضلاً عن بعض الفصائل السنية مثل حركتي حماس والجهاد الإسلامي. صحيح أن الأموال المفرج عنها ربما لن تكون كبيرة، مقارنة بما أعلنت إيران أنها تمتلكه في الخارج بالفعل، حيث تشير التقديرات إلى أن الأموال التي سيقوم العراق بإيداعها في حساب في مسقط تصل إلى 2.7 مليار دولار، في حين أن إيران أعلنت أن أموالها المجمدة في الخارج تصل إلى 100 مليار دولار. لكن الصحيح أيضاً أن إيران تمتلك خبرة في الالتفاف على القيود المفروضة عليها، وأنها يمكن أن تحاول استخدام هذه الأموال في مجالات بعيدة عن الإنفاق الرسمي الحكومي على المجالات العامة.
ومع أنّ الدعم الإيراني للحلفاء الإقليميين كان يحظى باهتمام خاص من جانب واشنطن باستمرار خلال الفترة الماضية، فإنه لم يصل إلى المستوى الحالي، خاصة بعد أن بدأت إيران في إدارة تصعيدها مع واشنطن حول الاتفاق النووي والعقوبات، عبر تكليف المليشيات الشيعية الموالية لها بشن هجمات مستمرة ضد القواعد الأمريكية في كل من العراق وسوريا. وقد وصلت خطورة هذا التوجه إلى درجة أن الإدارة الأمريكية فكرت، في الفترة الأخيرة، في الوصول إلى تفاهمات مع إيران تكون أكثر شمولاً من الاتفاق النووي، بحيث تتضمن منع إيران للمليشيات الموالية لها من مواصلة شن تلك الهجمات.
2- القلق من انتقال الأموال إلى الحرس الثوري: يبدو أن ثمة مخاوف تنتاب الإدارة الأمريكية من أن هذه الأموال قد تجد طريقها في النهاية إلى خزينة الحرس الثوري، الذي سوف يتصرف فيها بعيداً عن المؤسسات الرسمية للدولة، وبما يخدم مصالحه والعمليات الخارجية التي يقوم بها على المستوى الإقليمي، وهي العمليات التي تصاعدت حدتها في مرحلة ما بعد مقتل القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني في العملية العسكرية الأمريكية التي تم تنفيذها في 3 يناير 2020. ويتزايد القلق الأمريكي إزاء العمليات التي يمكن أن يقوم بها الحرس في ضوء إدراكها أن الأخير يتحفظ دائماً على المحادثات التي تجريها حكومة إبراهيم رئيسي مع الإدارة الأمريكية، بشكل مباشر أو غير مباشر، وأنه ما زال يتخذ من الخطوات ما يفيد بأنه لن يتراجع عن أنشطته التصعيدية ضد واشنطن حتى لو تم التوصل إلى صفقة في المرحلة القادمة.
3- مواصلة امتلاك أوراق ضغط على طهران: ترى الإدارة الأمريكية أن تقديم إعفاءات تساعد إيران في الحصول على قسم من أموالها في الخارج لن يضعف أوراق الضغط التي تمتلكها الأولى في مواجهة الثانية، خاصة أن المستحقات المفرج عنها -كما سبقت الإشارة- ليست كبيرة مقارنة بما تمتلكه إيران بالفعل من مستحقات في المصارف الأجنبية. وبالتالي، تستطيع الإدارة الأمريكية في حالة ما إذا استمر تعثر المفاوضات مع إيران، سواء حول ملف السجناء أو حول الاتفاق النووي، أن تعود مرة أخرى إلى رفع مستوى القيود المفروضة على إيران فيما يتعلق بالحصول على مستحقاتها المالية في الخارج، أو فيما يتصل بمواصلة تصدير النفط بالمخالفة مع العقوبات الأمريكية المفروضة عليها في هذا الصدد.
4- عدم توقيع إيران على اتفاقية “فاتف”: وهو أحد الشروط التي تتمسك بها الدول الغربية عموماً، حيث ترى أنه لا يمكن الوصول إلى صفقة مع إيران يمكن أن يرفع بمقتضاها القسم الأكبر من العقوبات المفروضة عليها، دون أن تنضم إيران لمجموعة العمل الدولية لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب “FATF”. وبالطبع، فإن ذلك يعود إلى أن إيران في هذه الحالة سوف تحصل على قسم كبير من المستحقات المالية في الخارج -لا يقارب بما تحصل عليه حالياً- وأنها يمكن أن توجه جزءاً من هذه المستحقات إلى تنظيمات تتهمها الدول الغربية بأنها إرهابية مثل حزب الله وحركتي حماس والجهاد، إلى جانب المليشيات الشيعية التي قامت بتكوينها وتدريبها في سوريا، فضلاً عن تنظيم “أنصار الله” في اليمن.
مفترق طرق
في ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن التفاهمات التي تجري بين واشنطن وطهران حالياً باتت على مفترق طرق، فإما أن يتم إنجاز صفقة السجناء، وبالتالي تعزيز احتمالات الوصول إلى اتفاق نووي جديد، وإما تتعثر الصفقة الأولى، وتتراجع بالتالي احتمالات الاتفاق الثاني، على نحو سوف يكون له دور، بشكل كبير، في تحديد مستويات واتجاهات التصعيد بين الطرفين خلال المرحلة القادمة.