يبدو أن المفاوضات التي أجريت في الفترة الأخيرة، وما زالت مستمرة، بين إيران والقوى الدولية، قد تطرقت إلى بعض الملفات “غير النووية”، على غرار الحضور الإيراني في منطقة الشرق الأوسط. إذ إن حرص المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، في 10 مارس الجاري، على تأكيد عدم تراجع إيران عن نفوذها الإقليمي يوحي بأن القوى الدولية حاولت ممارسة ضغوط جديدة على إيران في هذا الملف تحديداً، وأنها ربما تكون قد سعت إلى تبني مطالب مقابِلة للمطالب التي طرحتها إيران خلال الفترة الأخيرة، من أجل إنجاز الصفقة وتعزيز فرص استمرار العمل بالاتفاق النووي. ويعود تشديد إيران على رفض هذه الدعوات إلى حرصها على تجنب “السيناريو الأوكراني”، وعدم فقدان ما تعتبره “رصيدها” الإقليمي الذي راكمته على مدى العقود الأربعة الماضية، وإدارة الصراع مع خصومها بعيداً عن حدودها، وتعزيز آليات الردع التي تمتلكها لتجنب الانخراط في حرب مباشرة، والمحافظة على الثوابت الرئيسية للنظام الحاكم.
على غرار ما حدث في عام 2015 عندما توصلت إيران والقوى الدولية إلى الاتفاق النووي في 14 يوليو من هذا العام، وجه المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، في 10 مارس الجاري، رسائل واضحة تفيد بأن إيران سوف تحافظ على نفوذها الإقليمي في المنطقة. لكن اللافت في هذا السياق، هو أن هذه الرسائل جاءت سابقة على إنجاز الصفقة وليست لاحقة لها. إذ قال خامنئي في كلمة خلال استقباله أعضاء مجلس خبراء القيادة: “الحضور في المنطقة يعطينا عمقاً استراتيجياً وقوة وطنية أكبر، فلماذا نتخلى عنه؟”. واللافت في هذا السياق، هو أن إيران أرفقت مثل هذه التصريحات بتحركات على الأرض بدت جلية في الضربات الصاروخية التي شنتها على موقع داخل محافظة أربيل العراقية في 13 مارس الجاري، مع تحذيرات من إمكانية تكرار الخطوة ذاتها في حالة ما إذا استمرت التهديدات التي تتعرض لها إيران عبر الأراضي العراقية.
دوافع عديدة
يمكن تفسير إصرار إيران على تأكيد عدم التراجع عن سياستها، ولا سيما فيما يتعلق بمواصلة دعم نفوذها في المنطقة، في ضوء دوافع عديدة هى:
1- أولوية النفوذ الإقليمي في تجنب الخيار العسكري: يكتسب تعزيز النفوذ الإقليمي أهمية خاصة بالنسبة لإيران منذ تأسيس نظام الجمهورية الإسلامية في عام 1979. لكن ربما يمكن القول إن هذه الأهمية تزايدت في أعقاب اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا بداية من 24 فبراير الفائت. ففي رؤية إيران، فإن أحد أسباب تعرض أوكرانيا للغزو يكمن في فقدانها أدوات الردع التي كان من الممكن أن تُجنّبها مثل هذا السيناريو، ولا سيما القدرات النووية العسكرية التي اتخذت قراراً بتفكيكها في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث كانت قبل ذلك ثالثة أكبر قوة نووية في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا. وهنا، وفي حالة إيران، فإن عدم وصولها بعد إلى المرحلة السابقة التي بلغتها أوكرانيا يعني أن الدور الإقليمي يبقى هو الأداة الرئيسية القائمة لتجنب التعرض إلى “خطر خارجي” على غرار ما حدث مع أوكرانيا.
2- التصعيد في حلب بدلاً من همدان: في إطار هذه المقاربة، فإنه من الأهمية بالنسبة لإيران إدارة الصراع مع القوى المناوئة لها بعيداً عن أراضيها قدر الإمكان، على أساس أن ذلك يرفع كُلفة العمليات العسكرية التي تشنها تلك القوى، وفي الوقت نفسه يقلص مستوى الخسائر التي يمكن أن تتعرض لها إيران جراء ذلك. وقد لخصت إيران تلك المقاربة في عنوان محدود هو “التصعيد في حلب بدلاً من همدان”، بما يعني الانخراط في الصراع المسلح الذي تصاعدت حدته على الساحة السورية منذ مارس 2011، من أجل درء أية مخاطر محتملة قد يفرضها على أمن ومصالح إيران، وإنهاك قدرات الخصوم في مناطق بعيدة عن الحدود الإيرانية.
لكن هذه المقاربة بدا أنها تواجه في المرحلة الحالية تحديات عدة، في ظل الهجمات المتكررة التي تتعرض لها إيران وتستهدف تحديداً منشآتها النووية، والتي تتهم إسرائيل بتنفيذها. وربما يكون الهدف من هذه الهجمات التي ألمحت الأخيرة بالمسئولية عنها هو تجاوز تلك المقاربة وتوجيه رسائل مباشرة لإيران بأن المعركة نقلت إلى داخل أراضيها، بالتوازي مع استمرار التصعيد معها على مستوى الإقليم.
3- رفض تقييد دور “الباسدران”: رغم أن إيران أعلنت من البداية رفضها توسيع نطاق المفاوضات التي تجري في فيينا لتشمل التدخلات الإقليمية، إلا أن ذلك لا يبدو أنه دفع القوى الدولية إلى حصر المفاوضات في البرنامج النووي فقط، حيث تشير تقارير عديدة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تبحث في إمكانية رفع اسم الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية في إطار مساعيها لتعزيز فرص الوصول إلى صفقة نووية، وأنها سوف تربط ذلك بخطوات تتخذها إيران على صعيد تدخلاتها الإقليمية. وربما يكون ذلك هو الذي دفع خامنئي إلى تأكيد أن إيران لن تتراجع عن سياستها في المنطقة، ولا سيما فيما يتعلق بالحفاظ على نفوذها الإقليمي. ورغم أن واشنطن لم تقرر بعد مدى إمكانية إقدامها على تلك الخطوة، فإن قبول إيران بتقليص مستوى تدخلاتها الإقليمية في مقابل ذلك يبقى محل شك، حيث إن ما يمكن أن توافق عليه في هذا الصدد قد يندرج في إطار وقف الهجمات التي تتعرض لها المصالح الأمريكية في بعض الدول مثل العراق وسوريا.
4- المحافظة على الثوابت الأيديولوجية للنظام: يعتمد نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية على مجموعة من المحددات الرئيسية التي لا يمكنه الاستعاضة عنها بسهولة. وربما يتمثل أبرزها في محددين رئيسيين: أولهما، عدم الاعتداد بحدود إيران الحالية، باعتبار أنها “حدود مصطنعة” فرضتها التدخلات الخارجية التي تعرضت لها إيران، والتي كانت للمفارقة سبباً في اتباعها سياسة التمدد في الخارج. وثانيهما، الإصرار على اعتبار الولايات المتحدة الأمريكية “خصماً تاريخياً” لا يمكن، وفقاً لرؤية النظام، أن يتحول، أياً كانت الظروف، إلى “صديق” أو “حليف”. ومن دون شك، فإن ذلك لا يمنع من تأسيس قنوات تواصل أو إجراء مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع واشنطن، طالما أن ذلك يتوافق مع المصالح الإيرانية.
تغييرات صعبة
إن ما سبق -في مجمله- يوحي في المقام الأول بأن النهج الحالي الذي تتبناه إيران على صعيد سياستها الخارجية يدخل في صميم التوجهات العليا لنظام الجمهورية الإسلامية، بما يضفي صعوبات عديدة على إجراء تغييرات بارزة فيه. وهنا، فإن أي محاولة لمقايضة إيران خلال المفاوضات النووية عبر تقديم تنازلات في ملفات معينة مقابل إجراء تغييرات في سياستها الخارجية لن تحقق نتائج بارزة، دون أن ينفي ذلك أن إيران قد تقدم على اتخاذ خطوات تكتيكية لا تتجاوز التوجهات العامة للنظام، بهدف الحصول على أعلى مستوى من العوائد الاقتصادية والاستراتيجية في حالة الوصول إلى صفقة في فيينا.