تجنّب الأزمة:
لماذا تصرّ إيران على إبقاء خيار المفاوضات؟

تجنّب الأزمة:

لماذا تصرّ إيران على إبقاء خيار المفاوضات؟



ما زالت إيران مصرّة على مواصلة المفاوضات مع القوى الدولية للوصول إلى تسوية لأزمة الاتفاق النووي، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء أربعة اعتبارات رئيسية، تتمثل في إنضاج الصفقة النووية داخلياً، وتجاوز عقبة انتخابات التجديد النصفي لأعضاء الكونجرس الأمريكي، وتزايد أهمية الصفقة مع تصاعد تأثيرات الحرب الأوكرانية، وتجنب تداعيات الفشل بما يؤدي إلى تعقيد الأزمة.

رغم كل المؤشرات السلبية التي تحاصر المفاوضات التي أُجريت بين إيران والقوى الدولية، خلال المرحلة الماضية، للوصول إلى تسوية لأزمة الاتفاق النووي؛ فإن إيران ما زالت مصرّة على استمرار إجراء تلك المفاوضات، وعدم الإعلان عن فشلها، في الوقت الذي بدأت فيه الولايات المتحدة الأمريكية في توجيه رسائل بأنها باتت مقتنعة بأن إيران “عاجزة” عن اتخاذ قرار بشأن الاتفاق، وأنها لم تَعُدْ ترى أن إجراء مزيدٍ من المفاوضات يمكن أن يساعد في تحقيق توافق والوصول إلى صفقة.

وبدا ذلك جلياً في تفاعل طهران وواشنطن مع المقاربة الجديدة التي تبناها مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، في المقالة التي نشرها في صحيفة “فايننشال تايمز” (26 يوليو الفائت) التي تضمنت عرضاً متوازياً بين رفع العقوبات الأمريكية والعودة الإيرانية للالتزام ببنود الاتفاق النووي. إذ قال وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان (29 يوليو الفائت)، إن “الجهاز الدبلوماسي الإيراني سيتابع المفاوضات من أجل رفع العقوبات، لكننا نريد الوصول إلى اتفاق جيد وقوي ومستدام”. فيما قال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس، في اليوم نفسه، إن “طهران لم تُظهر الإرادة السياسية خلال الشهور الماضية لتخطِّي مأزق المحادثات الهادفة لإحياء الاتفاق النووي”، مشيراً إلى أن “الإدارة الأمريكية تستعد لمختلف السيناريوهات في العملية التفاوضية”.

دوافع عديدة

يمكن تفسير إصرار إيران على المضيّ قدماً في خيار المفاوضات، رغم أنها لم تحقق نتائج إيجابية خلال الفترة الماضية، وكان آخرها المفاوضات غير المباشرة التي أُجريت في الدوحة برعاية أوروبية (يومي 28 و29 يونيو الفائت)، في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها في:

1- إنضاج الصفقة على المستوى الداخلي: لا يمكن استبعاد عدم قدرة حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي حتى الوقت الحالي على تمرير الصفقة على المستوى الداخلي؛ إذ إن هناك اتجاهاً يتزايد تأثيره تدريجياً رافضاً للاتفاق، وداعياً لعدم استكمال العمل به. فضلاً عن أن موقف المرشد الأعلى للجمهورية حتى الآن يبدو غامضاً، حيث لا يبدي رأيه باستمرار في تطورات المفاوضات. وقد بدا لافتاً أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت تركز على تلك النقطة، في إشارة منها إلى أن مسؤولية عدم إحراز تقدم حتى الآن في المفاوضات التي بدأت في 6 أبريل 2021، تقع على عاتق طهران.

ففي هذا السياق، قال بريت ماكجريك، منسق شؤون الشرق الأوسط في البيت الأبيض، وفقاً لموقع “أكسيوس”، في يوليو الجاري، إن “الإيرانيين ليست لديهم القدرة على اتخاذ قرار بشأن الصفقة”، مشيراً إلى أنهم يريدون من الولايات المتحدة الأمريكية تقديم مزيد من المحفزات لكي تساعد الداعمين للصفقة في الداخل على تمريرها لدى المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي. ويعني ذلك أن إصرار حكومة رئيسي ووفد التفاوض الإيراني على انتزاع مزيد من التنازلات في الاتفاق النووي، ولا سيما ما يتعلق بالحصول على ضمانات بعدم الانسحاب الأمريكي من جديد من الاتفاق النووي، وشطب الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية؛ يعود في المقام الأول إلى رغبتهم في “تحصين” الصفقة داخلياً، وتحييد أي تأثير للاتجاه الرافض لها، والذي يمكن أن يؤدي إلى عرقلة استمرار العمل بها في المرحلة القادمة.

2- تجاوز عقبة انتخابات الكونجرس: ربما ترى حكومة رئيسي ووفد التفاوض النووي أن جزءاً من التشدد الذي تتسم به السياسة الأمريكية حالياً إزاء المفاوضات يعود إلى اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي التي سوف تتم في منتصف نوفمبر القادم، خاصة فيما يتعلق برفض إمكانية الوصول إلى حلول وسط للخلافات العالقة. وفي رؤيتها، فإن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تريد عبر هذا التشدد منع تعرض الحزب الديمقراطي لهزيمة محتملة في الانتخابات، وتعزيز شعبية الرئيس التي تعرضت للتدهور خلال المرحلة الماضية.

ومن هنا، فإن اتجاهاً في إيران بات يرى ضرورة استمرار المفاوضات إلى ما بعد انتخابات التجديد النصفي، حيث يمكن أن تكون الضغوط التي تتعرض لها الإدارة الأمريكية أقل، بشكل يمكن أن يدفعها إلى تعزيز فرص الوصول إلى صفقة نووية عبر “الالتقاء مع الإيرانيين عند منتصف الطريق”. وربما من هنا، يمكن تفسير العرض الذي قدمه وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان، خلال حديثه مع صحيفة “لاريبوبليكا” الإيطالية (13 يوليو الجاري)، والذي يتمثل في تأجيل البت في القضايا الخاصة بالقائمة السوداء مع إنجاز صفقة بين الطرفين تشمل ضمانات تحفظ مصالح الشركات الإيرانية. ويعني ذلك، أن إيران بدورها تريد أن تساعد إدارة الرئيس الأمريكي على تمرير الصفقة داخلياً في ظل العقبات التي تعترض ذلك، ليس فقط داخل الحزب الجمهوري، وإنما حتى داخل الحزب الديمقراطي.

3- تزايد أهمية الصفقة مع تصاعد الحرب الأوكرانية: لا يمكن الفصل بين اهتمام إيران بمتابعة وقراءة تطورات الحرب الروسية في أوكرانيا عن إدارتها للمفاوضات مع القوى الدولية، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية. ففي رؤيتها، فإن إطالة أمد الحرب رغم أنه يفرض تداعيات سلبية عليها، كما على الدول الأخرى، فيما يتعلق بارتفاع الأسعار وتفاقم مشكلة الأمن الغذائي، يمكن أن يعزز من أهمية الصفقة، وبالتالي يفرض مزيداً من الضغوط على تلك القوى لإنجازها.

وبعبارة أخرى، فإن إيران ترى أنه مع دخول فصل الشتاء، سوف تتصاعد أزمة إمدادات الطاقة إلى الدول الأوروبية، التي تبذل جهوداً حثيثة في الوقت الحالي من أجل الاستعداد لذلك، عبر محاولة توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها. وفي رؤية طهران، فإن النفط الإيراني قد يكون أحد تلك الخيارات، على نحو ربما يدفع الدول الغربية إلى إبداء مرونة أكبر فيما يتعلق بـ”المطالب الإيرانية”، خاصة الضمانات الاقتصادية التي تريد أن تحصل عليها وتمكن شركاتها من عدم التعرض لخسائر كبيرة كما حدث عندما انسحبت الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق في 8 مايو 2018.

4- تجنّب تداعيات فشل الصفقة: ويبدو ذلك مرتبطاً أيضاً بالمعطيات التي تطرحها الحرب الروسية في أوكرانيا. إذ ترى إيران أن العقوبات التي تفرضها الدول الغربية على روسيا كانت مؤثرة، رغم كل الجهود التي تبذلها الأخيرة لمواجهتها. وفي رؤية طهران، فإنه ليس من الوارد تحمل تبعات رفع مستوى العقوبات المفروضة عليها في المرحلة القادمة، خاصة أن فشل الصفقة سوف يحول تلك العقوبات من أمريكية إلى دولية، لأن الدول الغربية سوف تتجه في الغالب إلى تفعيل ما يُسمى “آلية سناب باك” وتعني عودة فرض العقوبات من داخل مجلس الأمن والتي عُلقت بموجب القرار 2231 الذي صدر في 20 يوليو 2015، أي بعد أسبوع واحد من الإعلان عن الاتفاق النووي في نسخته الأولى.

ضغط مستمر

في ضوء ذلك، يمكن القول -في النهاية- إن إيران سوف تمارس ضغوطاً مستمرة خلال المرحلة القادمة، من أجل مواصلة إجراء مزيد من المفاوضات، حيث ترى إيران أن “الاستغراق في التفاصيل” يمكن أن يفرض بدوره تداعيات إيجابية على الأرض، ويضع الدول الغربية أمام خيار صعب، في الوقت الذي تسعى فيه إلى تقليص أزمة ارتفاع أسعار الطاقة على المستوى العالمي. ومن هنا، ربما يمكن تفسير أسباب التحركات المتزايدة من جانب الوسطاء، سواء سلطنة عُمان التي تسعى إلى إنجاز صفقة لتبادل السجناء بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، أو قطر التي تحاول استضافة جولة جديدة من المحادثات غير المباشرة بين طهران وواشنطن على أراضيها خلال المرحلة القادمة.