هشاشة أمنية:
لماذا تصدر العراق مؤشر الجريمة المنظمة عالمياً؟

هشاشة أمنية:

لماذا تصدر العراق مؤشر الجريمة المنظمة عالمياً؟



أعاد تصنيف العراق ضمن الدول الأكثر معاناة من تفشي الجريمة المنظمة في مؤشر المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية لعام 2023، تسليط الضوء مجدداً على مخاطر وارتدادات هذه الجرائم على الداخل العراقي. وثمة العديد من الأسباب التي تقف وراء ذلك، في الصدارة منها هشاشة الحالة الأمنية في العراق، وعرقلة برامج الحكومات في ملاحقة العصابات الإجرامية نتيجة تنامي الارتباط بين قوى الجريمة المنظمة وهياكل الدولة، وتورط المليشيات والأحزاب في الجريمة المنظمة، بالإضافة إلى اضطرابات دول الجوار الجغرافي، وشبكات اقتصاد الظل لخلايا داعش النائمة.

فقد تزايدت المخاطر الناجمة عن “الجريمة المنظمة” خلال السنوات القليلة الماضية في العراق، في ظل تعدد أنماطها، والتي شملت تهريب المخدرات، وتجارة السلاح، بالإضافة إلى الاتّجار بالعملة. واحتل العراق مرتبة متقدّمة على لائحة الدول الأكثر مواجهة لظاهرة الجريمة المنظمة، ضمن أحدث مؤشّر نشرته “المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية” في ديسمبر الجاري. وحملت هذه الجرائم في طياتها ارتدادات سلبية على الداخل والاقتصاد العراقي، وهو ما استدعى اعتبارها ضمن أنماط التهديدات الأمنية غير التقليدية التي يواجهها المجتمع العراقي، لا سيما أن مؤشر الجريمة المنظمة كشف عن وصول العراق للمرتبة الثامنة عالمياً من بين 193 دولة خلال العام 2023، والمرتبة الثانية قارياً من بين 46 دولة آسيوية، بينما كان العراق وفقاً للمؤشر في الصدارة بين 14 دولة في منطقة غرب آسيا.

أسباب متنوعة

ثمة العديد من الأسباب التي تقف وراء تصاعد الجريمة المنظمة في العراق، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:

1- هشاشة الأجهزة الأمنية وتعدد أنماط تبعيتها: تتسم الحالة الأمنية في العراق بالهشاشة، حيث تعاني الأجهزة الأمنية العراقية من مشكلات هيكلية وتنظيمية لافتة. فضلاً عن غياب المعلومات حول قوى الجريمة المنظمة في ظل احترافية العصابات التي تقوم بهذه الجرائم. وتجدر الإشارة إلى أنه برغم تنوع الهياكل الأمنية التي تضم عدداً واسعاً من المنتسبين إليها، إلا أنها تعاني تداخلاً كبيراً بين الأجهزة الرسمية والمليشيات المسلّحة التي أصبحت رديفة للجيش العراقي، حيث تشاركه ليس فقط موارده المالية، وإنما اختصاصاتها الأمنية والعسكرية، ناهيك عن إدارة هذه المليشيات عدداً هائلاً من المصالح والمشاريع، وهي لا تلتزم بتعليمات الجيش، إذ لا تزال تبعيتها لقادة مؤسسيها الأصليين.

2- عرقلة برامج الحكومات في ملاحقة العصابات الإجرامية: تشير اتجاهات مختلفة إلى أنه لا يمكن فصل تصاعد الجريمة المنظمة في العراق عن الاشتباكات والتفاعلات التي تجري على الساحة السياسية في التوقيت الحالي، وآخرها قرار المحكمة الاتحادية العليا في نوفمبر الماضي بعزل رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، وهو ما عزز من حالة عدم الاستقرار والفوضى السياسية في البلاد. ووفقاً لتقديرات محلية، تسعى أطراف عديدة إلى إحراج الحكومات العراقية طوال السنوات الأخيرة، على غرار ما حدث مع رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، ومن قبله مصطفى الكاظمي، بإظهار حكوماتهم غير قادرة على ملاحقة الجريمة المنظمة والعصابات الإجرامية سواء التي تعمل في تجارة المخدرات والسلاح أو تلك التي تقتل المواطنين على أساس الهوية والمواقف السياسية، وذلك في إطار تقويض الجهود الرامية إلى ضبط الأمن في الشارع الذي شهد انفلاتاً في العديد من الساحات والمواقع خلال الفترة السابقة.

3- تورّط المليشيات والأحزاب في الجريمة المنظمة: يرتبط الصعود اللافت للجرائم المنظمة في العراق -في جانب معتبر منه- بالدور السلبي للمليشيات العراقية، إذ تشير العديد من التقارير السياسية والإعلامية في العراق إلى تورّط تلك المليشيات في جرائم كبرى تشمل تهريب العملة، وتجارة المخدّرات والسلاح، بالإضافة إلى الاتجار بالبشر وتهريبهم، والابتزاز، وتجارة السلع المقلدة، ضمن محور طويل يشمل إيران والعراق وسوريا ولبنان. وتشير بعض الاتجاهات إلى أن مليشيا الحشد الشعبي الموالية لإيران تقوم بدعم الشبكات الإجرامية والانتفاع منها مادياً، وهو ما يجعلها تلعب دوراً معتبراً في تنامي معدلات الجريمة المنظمة، بالنظر إلى ما تملكه من أدوات ونفوذ يجعلها قادرة على اختراق المؤسسات الأمنية والسياسية العراقية.

بالتّوازي، فإن العديد من الأحزاب السياسية في العراق تتحمل جانباً من تفشي الجريمة المنظمة بالنظر إلى تشابك الأحزاب السياسية مع الفصائل المسلحة؛ فالكثير من الأحزاب العراقية لديها أجنحة عسكرية، وهو ما يعقّد مهمة مواجهة الجريمة المنظمة في العراق. ويشار إلى أن بعض الأحزاب السياسية العراقية التي لديها رصيد وافر من المصالح تفسح المجال أمام أجنحتها المسلحة لمزاولة نشاطاتها الإجرامية التي تدر دخلاً هائلاً.

4- اضطرابات دول الجوار الجغرافي للعراق: لا ينفصل التطور الحادث في الجريمة المنظمة داخل العراق عن الاضطرابات التي تشهدها دول الجوار للعراق، حيث تعاني سوريا من فوضى ممتدة منذ العام 2011 انعكست تداعياتها بصورة ظاهرة على العراق، وبخاصة في مجال تجارة المخدرات، بعدما تحولت سوريا إلى مركز رئيس لتجارة حبوب الكبتاغون المخدرة. فعلى سبيل المثال، أعلنت السلطات العراقية في مارس 2023 إحباط محاولة تهريب أكثر من ثلاثة ملايين حبة مخدرة عبر منفذ القائم الحدودي مع سوريا، حيث تحول العراق الذي يتشارك الحدود مع سوريا خلال الفترة الماضية إلى ممر لتهريب الكبتاغون. وفي يوليو الماضي، وفي سابقة هي الأولى من نوعها، ضبطت السلطات العراقية مصنعاً لإنتاج الكبتاغون في محافظة المثنى الحدودية مع السعودية.

في المقابل، يعاني العراق من وقوعه إلى جوار الساحة الإيرانية التي تنشط فيها تجارة المخدرات والعصابات الإجرامية العاملة في مجال تهريب النفط وتصنيع الحبوب المخدرة، بسبب العقوبات الغربية المفروضة عليها، ناهيك عن قرب طهران من أفغانستان التي تُعد مصدراً استراتيجياً لتجارة المخدرات والسلاح.

5- شبكات اقتصاد الظل لخلايا داعش النائمة: على الرغم من نجاحات العراق بمعاونة التحالف الدولي في محاصرة تنظيم “داعش” طوال السنوات التي خلت، والقضاء على مراكز نفوذه في البلاد؛ إلا أن الخلايا النائمة للتنظيم، خاصة في محافظة ديالى، لا تزال تمثل إحدى المعضلات الأمنية للعراق، كونها تعد أحد الأطراف العاملة في مجال الجريمة المنظمة، خصوصاً في مجال تهريب النفط والاتجار بالبشر. ويشار إلى أن هجوماً إرهابياً شهدته مناطق شرق العراقي مطلع ديسمبر الماضي أسفر عن مقتل 11 شخصاً، وتم توجيه الاتهام لخلايا “داعش”.

تداعيات مؤلمة

ساهم تفاقم مستويات الجريمة المنظمة في العراق، في إحداث العديد من الارتدادات السلبية على الواقع العراقي، يتمثل أولها في تزايد الدور السياسي لشبكات الجريمة المنظمة، التي لديها ارتباطات مصلحية مع المؤسسات والهياكل السياسية للبلاد، وقد يتعزز هذا الدور في ضوء رغبة المليشيات والأحزاب التي تملك أجنحة مسلحة في حماية مصالحها ومواردها المالية التي تجمعها من تهريب المخدرات، والاتجار بالبشر، والاستخدام غير المشروع للموارد الطبيعية، بالإضافة إلى عمليات الخطف والابتزاز التي تنامت بشكل كبير خلال الفترة الأخيرة. وأدى الترابط بين الجماعات العراقية العاملة في الجريمة المنظمة والكيانات السياسية إلى تأثير كبير للأولى في الحياة السياسية، حتى تحولت إلى سمة في المشهد العراقي، وذلك من خلال قيام هذه الجماعات بدعم ورعاية وتمويل حملات انتخابية بعينها من أجل استغلال نفوذهم بعد ذلك لتمرير نشاطاتهم الإجرامية.

وثانيها: تقييد الجهود المرتبطة بزيادة الشفافية في النظام المالي العراقي، وتعطيل عملية التحقيق والملاحقة القضائية للمتورطين في الجريمة المنظمة. وتشير بعض التقديرات المحلية في العراق إلى انتشار ظاهرة فقدان السجلات الجنائية من أرشيف وزارتي الداخلية والعدل بشكل مستمر، خاصةً ملفات الاغتيال والمفقودين والمتورطين في تجارة المخدرات والسلاح، بتأثير من مجموعات المصالح التي لديها ارتباطات مع قوى الجريمة المنظمة.

وثالثها: يرتبط باحتمال زيادة الجرائم لمجموعات الجريمة المنظمة والجماعات الخارجة عن القانون في العراق خلال المرحلة المقبلة، وهو ما يعني ضعف القدرة على مواجهة جرائم العنف الطائفي، أو تحييد عمليات تجارة السلاح والمخدرات التي وجدت سوقاً رائجة في الفترة الأخيرة.

ورابعها: قد ينعكس على استمرار حالة الترهل للأجهزة الأمنية العراقية، وضعف قدراتها في مواجهة الجريمة المنظمة التي باتت تتشابك مع قادة المؤسسات الأمنية في إطار شبكة معقدة من المصالح والامتيازات غير المشروعة.

وخامسها: أنه في حالة استمرار العجز عن الحد من الجرائم المنظمة، فقد تتسع فجوة الثقة المجتمعية تجاه القوى السياسية العراقية على اختلاف اتجاهاتها وتوجهاتها، وهو ما يلقي بظلال سلبية على المجتمع العراقي.

آليات المواجهة

ختاماً، يمكن القول إن تفاقم عمليات الجريمة المنظمة في العراق، يُنذر بمخاطر كارثية على أمن واقتصاد العراق، ولذلك يبقى من المهم الحد من النفوذ السياسي للمليشيات، وقطع الأذرع المسلحة للأحزاب العراقية، بالإضافة إلى تقوية الأجهزة القضائية في مواجهة جماعات الجريمة المنظمة. كما يبقى من الضروري إعادة النظر في النهج الأمني لمكافحة الجريمة المنظمة، وذلك من خلال تطوير وتفعيل دور المؤسسات الأمنية وتوحيد أجهزتها.