أوضاع محفّزة:
لماذا تصاعد النشاط العملياتي لـ”داعش” في الجنوب السوري؟

أوضاع محفّزة:

لماذا تصاعد النشاط العملياتي لـ”داعش” في الجنوب السوري؟



يشير تحليل أبعاد النشاط العملياتي لمجموعات تنظيم “داعش” في الجنوب السوري، وفقاً لإجمالي العمليات التي أعلن التنظيم مسؤوليته عنها، إلى زيادة في معدل العمليات خلال الفترة من أبريل إلى يوليو 2022، مقارنة بالنصف الثاني من عام 2021، والتركيز على استهداف الجيش السوري وعناصر من الفصائل التي شاركت في اتفاق التسوية، إذ تمكن التنظيم من إعادة بناء قدراته، إلا أنها تعكس تطور القدرات القتالية العملياتية. ويرتبط زيادة معدل النشاط في الفترة الثانية من النطاق الزمني المُحدد لإجمالي عمليات “داعش”، بتنصيب الزعيم الثالث للتنظيم، الذي يُعتقد مقتله في مواجهات بالجنوب السوري مع بعض المكونات والمليشيات المسلحة. وبشكل عام، فإن التنظيم حاول استغلال الأوضاع المضطربة وتنازع السيطرة لصالح إعادة بناء قدراته واستعادة نشاطه العملياتي.

أعلن تنظيم “داعش” مسؤوليته عن 34 عملية إرهابية في الجنوب السوري، خلال سبعة أشهر موزعة بين عامي 2021 و2022، أسفرت عن 51 قتيلاً وجريحاً، وفقاً لما جاء في صحيفة “النبأ” الأسبوعية التابعة للتنظيم، في عددها رقم “374”، الصادرة بتاريخ 20 يناير 2023. ويشير الإعلان عن عمليات مجموعات “داعش” جنوب سوريا، وتحديد الأبعاد الرئيسية لاتجاهات النشاط العملياتي خلال الفترة الزمنية المُحددة، إلى جملة من الدلالات المرتبطة بعددٍ من السياقات على الساحة السورية.

اتجاهات حاكمة

حدد تنظيم “داعش” في صحيفة “النبأ”، تفاصيل العمليات التي أعلن عنها في الجنوب السوري، والتي يمكن من خلالها تحديد ملامح النشاط العملياتي، كالتالي:

1- النطاق الزمني للنشاط بين عامي 2021 و2022: خصص تنظيم “داعش” النطاق الزمني للنشاط العملياتي في الجنوب السوري، خلال العام الهجري 1443، الذي يمتد لنطاق زمني بين أغسطس 2021، إلى يوليو 2022، بما يشير إلى استعادة التنظيم نشاطه في الجنوب السوري قبل موجة العنف والاغتيالات التي شهدتها عدة مناطق بالجنوب السوري منذ مايو 2022.

وكان لافتاً أن إجمالي العمليات التي أعلن تنظيم “داعش” مسؤوليته عنها في الجنوب السوري، لم يرد تفاصيلها في بيانات وكالة “أعماق” الموالية للتنظيم، التي تتطرق إلى أنشطة التنظيم في نطاقات جغرافية مختلفة على الساحة السورية، ولكن برر التنظيم هذا التأخر في الإعلان عن عملياته جنوب سوريا باتباع “سياسة أمنية وإعلامية خاصة”، مع الإشارة إلى أن “العديد من هذه العمليات ينسبها الإعلام لجهات أخرى”.

2- تذبذب معدل العمليات خلال المدى الزمني المحدد: رغم النشاط العملياتي لتنظيم “داعش” بجنوب سوريا، إلا أن مجموعاته لم تتمكن من مواصلة النشاط العملياتي خلال النطاق الزمني المُحدد من قبل التنظيم، إذ يتضح أن التنظيم نفذ عمليات خلال 7 أشهر فقط خلال العام الهجري 1443، هي أشهر (محرم – صفر – ربيع الأول – رمضان – شوال – ذو القعدة – ذو الحجة)، وبالنظر إلى النطاقات الزمنية لهذه للأشهر السبعة بالتقويم الميلادي، فإن التنظيم لم ينفذ عمليات خلال مدة تقترب من خمسة أشهر تقريباً بداية من 6 نوفمبر 2021 وحتى نهاية مارس 2022، قبل أن يعاود النشاط مجدداً خلال شهر أبريل 2022، وهو الشهر ذاته الذي شهد إطلاق موجة عنف تحت اسم “غزوة الثأر للشيخين”، عقب مقتل زعيم التنظيم “أبو إبراهيم الهاشمي القرشي”، في عملية إنزال أمريكية بسوريا خلال شهر فبراير من العام ذاته.

3- زيادة النشاط العملياتي بداية من أبريل 2022: ويتضح من تحليل النشاط العملياتي لمجموعات “داعش” في جنوب سوريا، وفقاً للبيانات التي أعلن عنها التنظيم في صحيفة “النبأ”، انقسام النشاط العملياتي بين فترتين زمنيتين، الأولى: خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الهجري، والتي توافق الفترة من (9 أغسطس إلى 5 نوفمبر) 2021 تقريباً، والتي سجلت 14 عملية. والثانية: خلال الأربعة أشهر الأخيرة من العام الهجري، والتي توافق الفترة من (2 أبريل إلى 29 يوليو) 2022 تقريباً، والتي سجلت 20 عملية، بما يشير إلى زيادة معدل النشاط خلال الفترة الزمنية الثانية، مع عدم إغفال أن الفترة الزمنية الثانية تمتد لأربعة أشهر مقارنة بثلاثة أشهر في الفترة الأولى.

4- تصدر نمط الاغتيالات للنشاط العملياتي جنوب سوريا: رغم تنوع أنماط النشاط العملياتي لمجموعات “داعش” في الجنوب السوري خلال المدى الزمني المحدد في صحيفة “النبأ”، بواقع أربعة أنماط رئيسية؛ إلا أنه وفقاً للمعلومات المتوفرة فإن تلك المجموعات اعتمدت بشكل أساسي على “الاغتيالات” في عملياتها، بواقع 18 عملية، من إجمالي 34 عملية تم الإعلان عنها، بفارق كبير عن نمطي الاستهداف بالأسلحة البسيطة، بمعدل 7 عمليات، و”التفجيرات” بمعدل 6 عمليات، وأخيراً نمط “الاشتباكات” المباشرة بمعدل 3 عمليات فقط.

5- التركيز على استهداف الجيش السوري والعناصر الموالية: بلغ إجمالي عمليات استهداف قوات الجيش السوري وبعض عناصر المليشيات الموالية له، والتي وافقت على اتفاقات التسوية، في الجنوب خلال المدى الزمني المحدد من قبل “داعش”، نحو 30 عملية، من إجمالي 34 عملية تم الإعلان عنها،بما يشير إلى تركيز التنظيم على استهداف قوات الجيش السوري بشكل رئيسي، فيما تساوت عمليات استهداف الدروز ومن وصفهم بـ”الرافضة” وأحد قيادات حزب البعث وأحد قيادات المصالحات من فصائل التسوية، بواقع عملية واحدة لكل منهم. وتنوعت عمليات استهداف قوات الجيش السوري والعناصر المحلية في الجنوب الموالية له، بين الاغتيالات التي تصدرت نمط الاستهداف، إضافة إلى الاشتباك المباشر من دوريات للأمن العسكري، إضافةً إلى تفجير عبوات ناسفة على الدوريات العسكرية.

دلالات رئيسية

يشير إعلان “داعش” عن عملياته في الجنوب السوري خلال نطاق زمني يمتد لعام كامل، إلى جملة من الدلالات، أبرزها:

1- تمكن داعش من إعادة بناء القدرات التنظيمية: مرت مجموعات التنظيم في جنوب سوريا بعددٍ من التحولات خلال الأعوام القليلة الماضية، وتحديداً مع تراجع التنظيم في سوريا وطرد عناصر من المناطق التي كانت تحت سيطرة “داعش” بحلول عام 2019، وهو العام نفسه الذي سجّلت عمليات التنظيم في جنوب سوريا معدلاً مرتفعاً مقارنة بعام 2020 الذي شهد تراجعاً ملحوظاً في النشاط العملياتي لمجموعات التنظيم في الجنوب، قبل أن يسعى التنظيم لاستعادة نشاطه خلال عام 2021، وتحديداً في النصف الثاني من العام، ليستمر في نشاطه خلال عام 2022.

وتُشير تحولات النشاط العملياتيإلى تمكن التنظيم من إعادة بناء قدراته في الجنوب السوري خلال العامين الماضيين، إذ استمرت عمليات التنظيم في الجنوب السوري بعد انتهاء الفترة الزمنية التي حددها التنظيم في صحيفة “النبأ”، بنهاية شهر يوليو الماضي، وإن كانت العمليات التي أعلنت عنها وكالة “أعماق” الموالية لـ”داعش” محدودة.

ورغم إعلان التنظيم اتّباع سياسة إعلامية تتعلق بعدم الإعلان الفوري عن معدل العمليات في الجنوب السوري، إلا أن النشاط المحدود الذي أشارت إليه وكالة “أعماق” ربما يرتبط بانتفاضة المكونات المحلية، سواء المليشيات المسلحة التي شاركت في اتفاقيات التسوية مع النظام السوري برعاية روسية، أو المليشيات التي رفضت اتفاقيات التسوية، لمواجهة حملات الاغتيالات التي نُسبت لـ”داعش”.

2- تراجع في القدرات القتالية العملياتية: يعكس النشاط العملياتي لمجموعات “داعش” في الجنوب السوري خلال المدى الزمني المُحدد، تراجع القدرات القتالية العملياتية، رغم الإعلان عن تنفيذ 34 عملية، إذ إن التنظيم اعتمد على أنماط عملياتية لا تعكس تطوراً في القدرات القتالية، رغم إعادة بناء القدرات؛ إذ ركز على نمط “الاغتيالات” بمعدلات أكبر من الأنماط الأخرى، وهو نمطٌ لا يعكس قدرات قتالية كبيرة، خاصة وأنه يعتمد على خلايا تخطط لاستهداف بعض الشخصيات سواء من الجيش السوري أو فصائل التسوية أو متعاونين مع الجيش السوري، ربما لعدم قدرة مجموعاته على تنفيذ عمليات نوعية تتسم بالتعقيد في التخطيط واختيار أهداف عالية القيمة أو صعبة الاستهداف مثل التمركزات الكبيرة للجيش السوري، والاكتفاء باستهداف بعض الحواجز الأمنية للجيش السوري، مقارنة بعمليات التنظيم خلال عام 2019، التي اتسمت بالاستهداف المباشر والمتكرر لدوريات الجيش السوري.

 3- استغلال البيئة المحلية المضطربة: تشي خريطة السيطرة والنفوذ بالجنوب السوري منذ عام 2018 و2019، بأنها بيئة مناسبة لمجموعات “داعش” لاستعادة نشاطها العملياتي، إذ تمكّن الجيش السوري ومليشيات إيرانية من التمركز جنوبا، بعد اتفاق التسوية بين الجيش السوري ومجموعات مسلحة تُصنف بـ”المعارضة”، في أعقاب حملات الجيش على الفصائل المسلحة بالجنوب.

ويُوفر رفض بعض الفصائل والمكونات المحلية الانضمام إلى اتفاق التسوية، الذي كان برعاية روسية، إلى وجود مناطق رخوة أمنية بين مناطق تمركز الجيش السوري والمليشيات الموالية له من جانب، والفصائل المسلحة الأخرى بعدة مناطق من جانب آخر، إضافة إلى تمركز بعض مجموعات “داعش” في المناطق التي لا تخضع لسيطرة الجيش السوري، مثل مدينة “جاسم”، التي يُعتقد أنها كانت ملاذ زعيم التنظيم “أبو الحسن الهاشمي القرشي”، بعد ترجيحات بأنه قُتل خلال مواجهات مع أهالي المدنية وفصائل مسلحة أخرى بعضها وافق على اتفاق التسوية مع النظام السوري.

كما أنّ منطقة الجنوب السوري تشهد نشاطاً لعصابات التهريب، وتحديداً العاملة في تجارة المخدرات، وسبق للأردن التحذير من خطورة الانفلات الأمني على الحدود مع سوريا، إضافةً لانتشار مليشيات إيرانية في تلك المنطقة.

4- زيادة النشاط بعد تنصيب الزعيم الثالث: ربما تزايد معدل النشاط العملياتي في الجنوب السوري بداية من شهر أبريل 2022، مقارنة بالنصف الثاني من عام 2021،لارتباط ذلك بتولّي زعيم التنظيم السابق “أبو الحسن الهاشمي القرشي” (الزعيم الثالث لـ”داعش”) خلفاً لـ”أبو إبراهيم الهاشمي القرشي” في مارس 2022، وإطلاق موجة العنف في أبريل 2022. وبالنظر إلى الروايات المتقاربة حول مقتل “أبو الحسن” في مدينة جاسم جنوب سوريا، منتصف أكتوبر الماضي، فإنه ربما دفع إلى تنشيط مجموعات التنظيم في الجنوب لاستعادة النشاط وزيادة معدلاته، باعتباره كان أحد المسؤولين عن مجموعات التنظيم في الجنوب السوري، وهو ما يتوافق مع إعلان المتحدث باسم “داعش” أن الزعيم الثالث للتنظيم كان قريباً من عناصر التنظيم، ويوفر الدعم لهم.

5- الاعتماد على خلايا متفرقة للتنظيم: يُشير تحليل النشاط العملياتي، وأنماط الاستهداف، إلى أن التنظيم يعتمد على خلايا متفرقة في بعض المناطق، وتتمركز في مناطق نفوذ وسيطرة المكونات والمليشيات المحلية التي رفضت اتفاق التسوية، كما تشير بعض التقديرات الغربية إلى روابط بين بعض المجموعات المسلحة التي رفضت اتفاق التسوية وتنظيم “داعش”، وتحديداً عناصر جيش “خالد بن الوليد” التي تسللت لمجموعات أخرى، عقب إطلاق سراح نحو 200 عنصر من هذه المجموعة عام 2019، وبالتالي اعتماد التنظيم على تلك العناصر المنخرطة في بعض المجموعات كغطاء لنشاطها تحت راية “داعش”.

توظيف الاضطراب

وأخيراً، على الرغم من اتجاه بعض المكونات المحلية في الجنوب السوري، التي لم تشارك في اتفاق التسوية مع النظام السوري، إلى مواجهة النفوذ المتصاعد لـ”داعش” في مناطق سيطرتهم، وحملات الجيش السوري لملاحقة خلايا التنظيم؛ إلا أن استمرار الأوضاع المضطربة وتنازع مناطق النفوذ والسيطرة في الجنوب السوري، يمثل عوامل محفزة لمجموعات “داعش” لإعادة بناء القدرات مرة أخرى، حتى مع تلقي ضربات أمنية وتفكيك بعض الخلايا في الجنوب السوري.