تتمثل العوامل المفسرة لتصاعد المواجهات بين الجيش الليبي والجماعات المسلحة في بنغازي في ضوء استغلال الإخوان حالة الغضب والإحباط العامة المرتبطة بكارثة درنة وتوظيف الأحداث في توجيه الرأي العام ضد الجيش والسلطات الليبية في بنغازي والمناطق الشرقية من البلاد، ناهيك عن رغبة المليشيات الموالية للإخوان في استغلال الأحداث لإعادة التموضع في المدينة، علاوة على رغبة الجيش الليبي في تحصين نفوذه وسيطرته العسكرية على المدينة حتى لا تقع تحت سيطرة الإخوان في الوقت الذي تستعد فيه القوى السياسية لترتيب أوراقها والحشد للانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2024.
في 9 أكتوبر الجاري، أعلنت قيادة الجيش الليبي عن اشتباكات مسلحة بين قوات الجيش وجماعات مسلحة في مدينة بنغازي، ثم أعلن الجيش الليبي عن اعتقال قواته وزيرَ الدفاع السابق المهدي البرغثي، وهو ما يثير التساؤلات حول عوامل تصاعد الاشتباكات والمواجهات المسلحة بين قوات الجيش وعناصر مسلحة في بنغازي في هذا التوقيت.
إذ يأتي تصاعد الاشتباكات والمواجهات بين قوات الجيش الليبي وجماعات مسلحة في مدينة بنغازي في الوقت الذي يواجه فيه الجيش تصاعد الاحتجاجات المنددة بإهمال السلطات الليبية في الشرق ومسؤوليتها عن كارثة درنة، ومطالبة العديد من التيارات المناهضة للجيش الليبي في مناطق الغرب الليبي بمحاكمة المسؤولين وتوجيه اتهامات لهم بالفساد والإهمال. كما تتزامن هذه الاشتباكات المسلحة مع محاولات بعض العناصر الإرهابية الهاربة العودة إلى المدينة، وذلك برفقة وزير الدفاع السابق المهدي البرغثي، وبدعم من قبيلة البراعثة ذات النفوذ القبلي الواسع في المدينة.
عوامل عديدة
ثمة جملة من العوامل التي تقف خلف تصاعد المواجهات بين الجيش الليبي والمليشيات الموالية للإخوان المسلمين، حيث يمكن إيجازها في النقاط التالية:
1- مخاوف الجيش من استغلال الإخوان كارثة درنة: حيث يخشى الجيش الليبي بقيادة المشير حفتر من أن تستغل الأطراف المناوئة للجيش الليبي مثل الإخوان المسلمين الغضب الشعبي في المنطقة الشرقية عقب كارثة درنة التي أخرجت الأصوات المعارضة للعلن. وقد كشفت التطورات بالفعل عن محاولات الإخوان استغلال الكارثة، حيث وجه العديد من الشخصيات المنتمية للإخوان المسلمين اتهامات بالفساد للسلطات الليبية في منطقة الشرق الليبي وإهمالها تطوير وصيانة السدود مما أسفر عن كارثة درنة التي راح ضحيتها المئات من الضحايا. ومن ثم تأتي تحركات الجيش الليبي للرد على المحاولات الإخوانية التي تستهدف الجيش والسلطات والنخبة السياسية الموالية للجيش الليبي في الشرق الليبي.
2- استثمار المليشيات كارثة درنة لإعادة التموضع في بنغازي: حيث تصاعدت هذه الاشتباكات عقب تسلل بعض الخلايا والعناصر الإرهابية إلى مدينة بنغازي، وأسفرت المواجهات بين لواء طارق بن زياد وكتيبة 166 و20/20 التابعة للجيش الليبي مع المليشيات عن تطهير منطقة السلماني المعروفة بكثافتها السكانية وحي 602 من هذه العناصر التي تخفت وسط الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت من مختلف مناطق ليبيا في سياق حملة “فزعة خوت” للتعبير عن تضامنها مع ضحايا مدينة درنة والجبل الأخضر إثر فاجعة العاشر من سبتمبر الماضي. وقد أشارت بعض التقارير إلى انتماء هذه المليشيات للإخوان المسلمين، وأشارت إلى انخراط فلول تنظيم مجلس شورى ثوار بنغازي الإرهابي المرتبط بتنظيم القاعدة، والذي غادر بنغازي عقب تحريرها من قبل الجيش الوطني عام 2017، بعد فترة طويلة من المواجهات الدموية بين الجانبين في عام 2014.
3- تعزيز الحضور العسكري للجيش الليبي في المدينة: يبدو أن الجيش الليبي يسعى لتعزيز حضوره في مدينة بنغازي الاستراتيجية في سياق محاولات الإخوان والمليشيات تأليب القبائل وتحريك الاحتجاجات ضده جراء كارثة درنة، وقبيل الانتخابات الرئاسية المزمع عقدها خلال العام المقبل (2024)، حيث يولي الجيش أهمية خاصة لاستمرار سيطرته على المدينة وعدم إتاحة الفرصة للمليشيات الموالية للإخوان للسيطرة عليها، لأن خروج الجيش من هذه المدينة سيعني بلا شك تراجع نفوذه وسيطرته، وربما يؤثر بشكل كبير على شعبيته وشرعيته السياسية وإنجازاته العسكرية التي منحته تأييداً واسعاً من جانب الكثير من القبائل والجماعات السياسية، وهو ما يراهن عليه الجيش في حالة ترشيح قيادة عسكرية أو قيادة من الشرق الليبي في الانتخابات المقبلة.
انعكاسات محتملة
من المتوقّع أن يكون لتصاعد المواجهات المسلحة بين الجيش الليبي والمليشيات الموالية للإخوان المسلمين في بنغازي انعكاساتها على الوضع الأمني في البلاد، وذلك على النحو التالي:
1- تصاعد المواجهات بين الجيش والقبائل: وخاصة القبائل الموالية للإخوان في بنغاري،حيث نددت قبيلة البراعثة باعتقال قوات الجيش للمهدي البرغثي، الذي عاد إلى المدينة بعد كارثة درنة، وقالت القبيلة إن عودة البرغثي إلى المدينة جاءت بعد تشاور مع بعض أعيان القبيلة بعد أن أعلنت المؤسسة العسكرية أنه لا مانع لديها من عودة كل من يرغب في العودة من المخالفين لها إلى مدينة بنغاري، واتّهمت القبيلة الجيش بأن القيادة العامة للجيش استخدمت السلاح بدون مراعاة للتراتبية العسكرية، ووصفت عملية الاعتقال بالإجراءات التعسفية التي اتخذتها القيادة العامة، وحذرت من استخدام القوة ضد المواطنين، وهددت بأن اللجوء إلى العنف سيواجه بالعنف، وحذّرت من اتجاه الأوضاع في بنغازي خاصة وبرقة عامة نحو الانهيار.
2- تصاعد الاحتجاجات المعارضة للجيش في الشرق الليبي: حيث يُشير مراقبون إلى حالة الاحتقان بالمنطقة الشرقية بسبب فيضانات درنة وما تلاها من تعمد الجيش اتخاذ إجراءات مشددة لتعزيز سيطرته على الوضع الأمني، في الوقت الذي أشارت فيه بعض التقارير إلى اجتماعات لقوى المجلس الوطني الانتقالي للتخطيط لتغيير يقود إلى إسقاط الجيش، لذلك تشهد المدن المجاورة مثل أجدابيا والبيضاء انتشاراً أمنياً مكثفاً في سياق التصدي لأي محاولة تمرد أو تسلل من قبل مسلحين مناهضين للجيش.
3- تنفيذ عمليات تخريبية وإرهابية ضد الجيش الليبي: فمن المتوقع أن يؤدي اعتقال وزير الدفاع السابق، المهدي البرغثي، إلى ردود أفعال انتقامية من جانب المليشيات الموالية للبرغثي والموالية للإخوان المسلمين، وخاصة في ظل حالة الانقسام السياسي التي تشهدها البلاد، والاتهامات والتحقيقات الجارية مع مسؤولين من الشرق الليبي بتهمة الفساد والإهمال. وهذا السيناريو ليس ببعيد عن سجل تنظيم مجلس شورى ثوار بنغازي الإرهابي الموالي لتنظيم القاعدة، بينما يعتبر المهدي البرغثي من أبرز القيادات التي انقلبت على الجيش وتحالف مع تيار الإسلام السياسي، وتورط في الهجوم الإرهابي على قاعدة براك الشاطئ بجنوب وسط البلاد، والذي أسفر عن مقتل 146 قتيلاً من قوات الجيش الليبي.
سيناريوهات خطرة
وإجمالاً، تنطوي الاشتباكات والمواجهات المسلحة الجارية بين الجيش الليبي والجماعات المسلحة في بنغازي على العديد من التداعيات والانعكاسات المحتملة على الوضع الأمني في بنغازي وليبيا بشكل عام، حيث يُثير تضامنُ بعض القبائل مع المليشيات الموالية للإخوان مع مجلس ثوار بنغازي القلقَ من تصاعد المواجهات بين الجيش وهذه القبائل، خاصىة بعد تهديدها بالتصعيد بعد اعتقال البرعثي، علاوة على المخاوف من اتجاه هذه القبائل المتحالفة مع الإخوان إلى تأجيج الحملات والدعاية ضد الجيش على خلفية كارثة درنة، ناهيك عن أن سجل تنظيم مجلس ثوار بنغازي في تنفيذ عمليات إرهابية سابقة ضد الجيش يشير إلى أن تنفيذ عمليات إرهابية وتخريبية ضد قوات الجيش ليس سيناريو مستبعداً في ظل حالة الانقسام والاستقطاب السياسي المتنامي بعد كارثة درنة، ومحاولة بعض التيارات السياسية توظيفه في السياق السياسي الذي يسبق الانتخابات الرئاسية المزمع عقدها في العام المقبل.