تجددت المظاهرات في الشمال السوري، وتحديداً في مناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام”، المُصنفة إرهابية، وكان أحدثها مظاهرات خرجت في 27 مايو الجاري، بمشاركة نسائية، رفضاً لبعض ممارسات “الهيئة”، وللمطالبة بإسقاط زعيمها أبو محمد الجولاني. ومنذ مطلع شهر مايو الجاري، تتوالى المظاهرات ضد “تحرير الشام”، إذ خرجت أولى الفاعليات المناهضة للتنظيم، بداية من 7 من هذا الشهر، وتكررت لنحو 14 يوماً على مداره.
وكان لافتاً استجابة “تحرير الشام” العنيفة تجاه المظاهرات المتكررة، من خلال حملات اعتقالات لـ”الجهاز الأمني” التابع لـ”الهيئة”، تمكنت عبرها من القبض على العشرات، وفقاً لتقارير إعلامية محلية. ورغم أن المظاهرات التي شهدتها المناطق الخاضعة لسيطرة “تحرير الشام” في الشمال السوري خلال شهر مايو الجاري، ليست الأولى من نوعها، إذ شهدت السنوات الأخيرة انطلاق مظاهرات رافضة لـ”الهيئة”؛ ولكن هذه المظاهرات الأخيرة تأتي في ظل سياقات قلقة في الشمال السوري، على وقع التقارب المحتمل بين تركيا والنظام السوري، وما قد يؤدي إلى تطبيع العلاقات بشكل كامل خلال الفترة المقبلة.
أسباب عديدة
يمكن الإشارة إلى أبرز العوامل التي أدت إلى تفجر الأوضاع في مناطق سيطرة “تحرير الشام” خلال شهر مايو الجاري، وتوالي المظاهرات، وتوسع نطاقها جغرافياً وتعدد الفئات المشاركة فيها، على النحو التالي:
1- ملاحقة عناصر حزب “التحرير”: كانت تحركات “الجهاز الأمني” التابع لهيئة “تحرير الشام”، لملاحقة عناصر حزب “التحرير” الذي يدعو لـ”الخلافة الإسلامية” –وفقاً لتصوراته- وشن حملة اعتقالات موسعة مطلع شهر مايو الجاري، سبباً رئيسياً في انطلاق مظاهرات رافضة لممارسات “الجهاز الأمني”، وبشكل رئيسي من جانب عناصر الحزب وأسر المعتقلين، للمطالبة بوقف الانتهاكات والإفراج عن المعتقلين.
ولكن لم تسفر المظاهرات التي خرجت بداية من 7 مايو الجاري، عن التخفيف من حدة الملاحقات التي ينفذها “الجهاز الأمني”، في ظل عدم الاستجابة للمطالبات بالإفراج عن المعتقلين، بل إن “الجهاز” أمعن في اعتقال مزيد من عناصر الحزب، وهو ما تسبب في استمرار خروج المظاهرات بشكل متوالٍ. ووفقاً لتقارير محلية، فإن “الجهاز الأمني” التابع لــ”تحرير الشام” اعتقل العشرات، أغلبهم من عناصر حزب “التحرير”.
2- انتهاكات متعددة لـ”الجهاز الأمني”: اتسعت الفئات المشاركة في المظاهرات،ولم تتوقف عند عناصر حزب “التحرير” أو أسر المعتقلين، وإنما امتدت إلى مشاركة الأهالي في نطاق نفوذ الحزب، وتحديداً في قرية دير حسان، اعتراضاً على ممارسات “الجهاز الأمني”، خاصة وأنه تدخل بشكل عنيف لفض تجمع الأهالي عقب حملة الاعتقالات التي نفذت في 7 مايو الجاري.
ويشير ذلك إلى أن تحركات “الجهاز الأمني” والتعامل العنيف مع الأهالي، من خلال إطلاق أعيرة نارية في الهواء والانتشار في القرية، وفقاً لتقارير محلية، تسببت في حالة ذعر بين الأهالي، لتنشب مواجهات محدودة مع عناصر “الجهاز الأمني”، أسفرت عن مقتل عنصر وإصابة اثنين آخرين، لينخرط بعض الأهالي في مظاهرات متلاحقة استمرت على مدار الشهر.
واستمرت حملة اعتقالات “الجهاز الأمني” خارج قرية دير حسان، لتمتد لعدد من القرى الأخرى مثل الجانودية بريف إدلب، وساهم في زيادة حدة الاحتقان الشعبي ضد “الهيئة” و”الجهاز الأمني”، تعرض بعض النساء لانتهاكات، وفقاً لروايات بعضهن.
3- تصفية المخالفين لـ”تحرير الشام”: لم تتوقفحملة اعتقالات “الجهاز الأمني” على عناصر حزب “التحرير” وإنما امتدت لتشمل بعض القادة العسكريين السابقين المحسوبين على المعارضة، وتحديداً تنفيذ اعتقالات لعناصر تنظيم “حراس الدين”، الموالي لتنظيم “القاعدة”.
وخلال الأعوام القليلة الماضية، عكفت “تحرير الشام” وزعيمها الجولاني على إبراز حدوث تحولات في فكر وممارسة “الهيئة” والاتجاه إلى الطابع المدني، والتنصل من “المشروع الجهادي”، من خلال تشكيل “حكومة” في إدلب، أو ملاحقة وتصفية الفصائل والتنظيمات الموالية لـ”المشروع الجهادي”، وتحديداً “حراس الدين”، بما يخفف، في رؤيتها، من حدة الضغوط الإقليمية والدولية عليها، ويفسح مجالاً لها لتقبلها كطرف مؤثر وفاعل في الساحة السورية.
هذه التحولات دفعت “الهيئة” إلى التعامل العنيف مع الفصائل غير الموالية لها، بما فاقم من حالة الغضب في الشمال السوري، تجاه ممارسات “الهيئة”، واعتبارها تسعى لتصفية الفصائل المخالفة لها في نطاق نفوذها وسيطرتها، وهو البعد الذي كان حاضراً في المظاهرات التي خرجت خلال شهر مايو الجاري.
4- رفض سيطرة “الهيئة” على إدلب: تمكنت “تحرير الشام” من فرض سيطرتها الكاملة على محافظة إدلب، وأجزاء من ريف حلب وريف اللاذقية وشمال غربي حماة، بفعل استغلال التفاهمات بين تركيا وروسيا وإيران فيما يُعرف بمناطق خفض التصعيد، وهو ما كان مثار رفض من قبل بعض السوريين في تلك المناطق، إلا أن هذا الرفض تجدد خلال شهر مايو الجاري، عبر عدد من المظاهرات، التي امتدت إلى مناطق خارج سيطرة “الهيئة” في محافظة حلب.
وكان أحد مطالب المظاهرات إسقاط الجولاني وسطوة “الهيئة”، ورفض ممارسات “الجهاز الأمني” والانتهاكات ضد السوريين، إضافة للإفراج عن كل المعتقلين في سجون “تحرير الشام”، كما أشارت بعض المظاهرات وتحديداً في مدينة إعزاز بمحافظة حلب، إلى ضرورة سحب العشائر لأبنائهم من “الهيئة”.
ومنذ عام 2019، تتجدد المظاهرات الرافضة لسياسات “حكومة الإنقاذ” في إدلب، التابعة لـ”تحرير الشام”، في ظل نقص الخدمات والأوضاع المعيشية الصعبة، إضافة إلى ارتفاع أسعار المحروقات، بسبب عدم قدرة “الحكومة” التابعة لـ”الهيئة” على تلبية احتياجات السوريين.
5- ضغوط لرفض التقارب مع النظام السوري: امتدت أهداف المظاهرات التي شهدتها مناطق بالشمال السوري، إلى رفض مساعي التقارب مع النظام السوري، وخاصة بعد محاولات تركيا تطبيع العلاقات مع سوريا خلال الفترة الماضية، من خلال لقاءات بين مسئولين في البلدين، بمشاركة إيران، وبرعاية روسية. وتسود تخوفات من اتجاه “تحرير الشام” إلى الموافقة على ترتيبات جديدة فيما يخص مناطق الشمال السوري خارج سيطرة النظام.
هذه التخوفات تعود إلى أن “تحرير الشام” تعتبر الفصيل الأبرز في الشمال السوري، الذي يسيطر منفرداً على مناطق كبيرة، وبالتالي فإن الدخول في التفاهمات مع تركيا حيال الشمال السوري، قد يؤدي إلى إنهاء ما يُوصف بـ”المسار الثوري”.
ورغم تصريحات الجولاني التي أكد عبرها على التمسك بـما وصفه بـ”المسار الثوري”، تعليقاً على التقارب التركي مع النظام السوري؛ إلا أن احتمالات الاستجابة للتفاهمات الجديدة قائمة بالنسبة له، خاصة وأنه رفض سابقاً اتفاق خفض التصعيد بين تركيا وروسيا وإيران والنظام السوري، ولكنه رضخ للضغوط التركية وسمح لدوريات تركية بالانتشار في مناطق سيطرة “الهيئة”، فيما يعرف بخطوط التماس بين فصائل مسلحة تُصنف بالمعارضة من جانب، وقوات الجيش السوري ومليشيات إيرانية موالية من جانب آخر.
استياء مستمر
وأخيراً، فإن حجم التفاعل والمشاركة من قبل السوريين في الشمال السوري في مناطق سيطرة “تحرير الشام” أو خارجها، في المظاهرات التي استمرت منذ مطلع شهر مايو الجاري، يكشف وجود غضب مكبوت تجاه “الهيئة” وزعيمها الجولاني، في ظل انتهاكات “الجهاز الأمني”، وتكرار حملات الاعتقالات للمخالفين لـ”الهيئة”، بما يشير إلى تصاعد التوترات في مناطق سيطرتها خلال الفترة المقبلة، مدفوعة بضغوط اقتصادية وارتفاع الأسعار. وقد يدفع التعامل العنيف من قبل “تحرير الشام” و”الجهاز الأمني”، إلى زيادة الغضب في الشمال السوري خلال الفترة المقبلة، خاصة وأن هناك تحولاً ملحوظاً في إصرار الأهالي على مواصلة التظاهر في فعاليات متكررة، دون النظر إلى احتمالات التعرض للاعتقال أو العنف من قبل هذا “الجهاز”.