لا تزال حالة عد الاستقرار في تونس مستمرة على الرغم من تشكيل حكومة جديدة برئاسة “نجلاء بودن”. ومن المؤشرات الدالة على ذلك تصاعد بعض الاحتجاجات الشعبية في بلدة “عقارب” الواقعة على بعد 20 كم جنوب ولاية “صفاقس” (ثاني أكبر مدينة تونسية) على مدار اليومين الماضيين، حيث شهدت شوارع هذه الولاية خروج المواطنين للتظاهر والاشتباك مع قوات الأمن التونسية، مما أدى إلى مقتل أحد المتظاهرين في 9 نوفمبر 2021.
الوعاء الضاغط
كما تزامن مع تصاعد حدة هذه الاحتجاجات بعد أن وقعت العديد من الاشتباكات بين قوات الأمن والمتظاهرين، دعوة “الاتحاد العام التونسي للشغل” لإضراب عام في القطاعين العام والخاص في بلدة عقارب، بدءاً من 10 نوفمبر الجاري، وفي ذلك مؤشر هام على التصعيد وحالة عدم الاستقرار الداخلي نتيجة تفاقم للمشكلات الاجتماعية الداخلية، وعلى رأسها مشكلة تكدس القمامة، على نحو غير مسبوق في عددٍ من الولايات ومن بينها “صفاقس”.
ومع استمرار تطبيق الإجراءات الاستثنائية في البلاد، دعا بعض المكونات الثورية إلى تنظيم مسيرات احتجاجية في 14 نوفمبر الجاري احتجاجاً على استمرار الحالة الاستثنائية في البلاد، والدفاع عن الشرعية الدستورية والبرلمانية، والتضامن مع السلطة القضائية. وتمثلت مطالب هذا الحراك في: إعادة البرلمان، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني، وإنهاء تعليق الدستور، خاصة وأن تلك الإجراءات أدت إلى عزلة البلاد دولياً، واشتراط القوى الدولية عودة الشرعية الدستورية أولاً قبل إنهاء هذه العزلة.
عوامل متعددة
ويمكن تفسير تصاعد الاحتجاجات الشعبية في ولاية صفاقس التونسية، من خلال جملة من العوامل التي يمكن إبراز أهمها في الآتي:
1- تفاقم أزمة البيئة: يتمثل السبب الرئيسي وراء خروج المتظاهرين في بلدة “عقارب” بولاية صفاقس التونسية في رفض مواطني هذه البلدة تنفيذ القرار الصادر عن “وزارة البيئة” بإعادة فتح أحد المصبات (المكبات) الخاصة بتجميع القمامة هناك، بعد أن تكدست شوارع الولاية بالقمامة على مدار 40 يوماً قرب المستشفيات والمدارس والمتاجر، بشكل أصبح يُهدد البيئة الداخلية، ويستند المواطنون في رفضهم إلى القرار الصادر عن القضاء التونسي بإغلاق مصب (مكب) القمامة ببلدة “عقارب” الصادر في يوليو 2019، وتم إغلاقه بالفعل في سبتمبر الماضي، بعد أن تزايدت شكاوى المواطنين هناك بسبب انتشار الأمراض نتيجة تكدس آلاف الأطنان من القمامة في هذا المكب بشكل أصبح يمثل كارثة بيئية خطيرة، وطالبوا بإيجاد مكان آخر لاستيعاب النفايات الزائدة بعدما بلغ المكب الرئيسي طاقته القصوى؛ إلا أن الحكومة رأت ضرورة إعادة فتح هذا المصب لحل مشكلة تراكم القمامة في شوارع الولاية، مما أثار غضب المواطنين هناك، حيث تحاول الحكومة الحالية برئاسة “بودن” حل هذه المشكلة بعد تراكم القمامة في شوارع الولايات التونسية خلال الفترة الأخيرة.
2- تصاعد الاشتباكات بين قوات الأمن والمتظاهرين: مع تزايد أعداد المتظاهرين وانتشرت المظاهرات على نطاق واسع داخل ولاية صفاقس احتجاجاً مقتل أحده المتظاهرين مختنقاً بسبب إطلاق الغاز المسيل للدموع بكثرة لتفريق المتظاهرين، وهو ما دفع المتظاهرين لإحراق أحد مراكز الحرس الوطني بالولاية؛ إلا أنّ السلطات الأمنية نفت اتهامات المتظاهرين لهم بالتسبب في مقتل أحد المتظاهرين. وفي ظل تناقض روايتي المواطنين والأجهزة الأمنية خرج العديد من المواطنين للتظاهر ضد استخدام الحكومة المقارَبة الأمنية في التعامل مع مشكلاتهم المحلية، وهو ما زاد من حدة التوتر في الولاية، حيث اندلعت المزيد من الاشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن.
3- مزاعم مؤامرة داخلية: اعتبر رئيس الدولة “قيس سعيد” أن ما يحدث في ولاية “صفاقس” ما هو إلا مؤامرة داخلية يُنفذها معارضوه للضغط عليه بسبب الإجراءات الاستثنائية المفروضة منذ ثلاثة أشهر، حيث اتهم أطرافاً داخلية (لم يسمها) بالتحريض على عدم رفع القمامة من شوارع “صفاقس”، وهو ما دفع الرئيس “سعيد” للإعلان عن أن صفاقس أصبحت منكوبة بيئياً، كما أشار إلى أن هذه الأطراف تحاول تقسيم الدولة التونسية الموحدة إلى مقاطعات، واتهم المسؤولين السابقين بالتسبب في هذه الكارثة البيئية لسنوات عدة فهي ليست وليدة اليوم فقط، وفي ذلك إشارة هامة إلى إدراك رئيس الدولة لتزايد الرفض الشعبي الداخلي بسبب استمرار تطبيق الإجراءات الاستثنائية.
4- استمرار الحالة الاستثنائية: ساهمت الإجراءات الاستثنائية التي لا تزال مطبقة في البلاد منذ يوليو الماضي، في إثارة غضب قطاعات واسعة من المواطنين داخل المجتمع التونسي، وكذلك توجيه عددٍ من الأحزاب السياسية والنقابات المجتمعية والعمالية وعلى رأسها الاتحاد التونسي العام للشغل الدعوة لرئيس الدولة إلى وضع خطة تشاركية لصياغة الإصلاحات السياسية الواجب تنفيذها، مع وضع خطة زمنية محددة لإنهاء الإجراءات الاستثنائية الحالية، كما أن دعوة الرئيس “سعيد” لإجراء حوار وطني عبر استفتاءات شعبية بطريقة إلكترونية لاقت انتقادات شديدة داخل المجتمع، حيث تم اعتبارها مجرد استشارة وليست حواراً وطنياً، ويحمل ذلك تأكيداً على رغبة رئيس الدولة في الاستئثار بعملية الإصلاح السياسي دون مشاركة من الأحزاب والقوى السياسية الفاعلة في البلاد والتي تتهم الرئيس “سعيد” بالمساهمة في زيادة حدة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية بسبب استمرار الإجراءات الاستثنائية التي يصعب معها إجراء إصلاحات اقتصادية ملموسة.
5- عدم كفاية الإجراءات الحكومية: ومما ساهم في التصعيد الحالي من قبل المواطنين في عدد من الولايات التونسية في الوقت الراهن، محدودية قدرة السياسات والإجراءات الحكومية التي تم اتخاذها خلال الفترة الأخيرة على تلبية احتياجات المواطنين من الخدمات العامة وتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية، وحتى مع تصاعد الأزمة البيئية في “صفاقس” لم يفلح الاجتماع الذي تم عقده بين رئيس الدولة “سعيد” ورئيسة الحكومة “نجلاء بودن” ووزير الداخلية “توفيق شرف الدين” في احتواء غضب المتظاهرين في “صفاقس” عبر اتخاذ إجراءات فورية لوضع حد للأوضاع غير المستقرة هناك، وما حدث هو استخدام المقاربة الأمنية التي أدت إلى تفاقم الأوضاع بدلاً من حلها.
وأيضاً ساهم عدم وفاء الحكومة بالتزاماتها السابقة الخاصة بالاستجابة لمطالب المواطنين في “الكامور” بولاية تطاوين طبقاً لاتفاق “الكامور” الموقع قبل خمس سنوات ولم يتم تنفيذه حتى الآن؛ في دفع تنسيقية اعتصام الكامور لدعوة المواطنين هناك لتجديد تظاهراتهم، ومطالبة الحكومة الحالية برئاسة “بودن” بتنفيذ الاتفاقات السابقة، وتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين هناك، وخاصة فيما يتعلق بتحقيق التنمية الاقتصادية وتوفير فرص عمل للشباب، واتهموا رئيس الدولة بعدم الاستجابة لمطالبهم. ويعبر ذلك كله عن تأزم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في البلاد، في ظل الحالة الاستثنائية وعدم قدرة الحكومة الجديدة حتى الآن على وضع حلول سريعة لحل تلك المشكلات الداخلية.
الوعاء الضاغط
خلاصة القول، تكشف الاحتجاجات الشعبية الحالية في صفاقس عن عدم قدرة الحكومة الجديدة برئاسة “بودن” على إجراء إصلاحات اقتصادية واجتماعية ذات أثر ملموس بين أفراد المجتمع التونسي، وهو ما يمثل اختباراً حقيقياً للحكومة الحالية التي ستوضح هذه المشكلات قدرتها الحقيقية على التعاطي معها.