اعتبارات مترابطة:
لماذا تشغل هولندا المستثمر الأول في تركيا؟

اعتبارات مترابطة:

لماذا تشغل هولندا المستثمر الأول في تركيا؟



تواصل هولندا حرصها المكثف على تعظيم استثماراتها في تركيا، والتي تسعى من خلالها إلى تعزيز دورها كطرف أساسي في السوق التركية، خاصةً وأن الأخيرة تعد أهم الأوراق الاستراتيجية للاستثمارات الهولندية في الخارج بالنظر إلى تعدادها السكاني من جهة، وقربها من أسواق الشرق الأوسط ومنطقة آسيا من جهة أخرى. وبرغم اتساع نطاق الخلافات بين البلدين في عدد من القضايا السياسية، لكن كانت هناك مصالح مشتركة تدفعهما نحو تحييد الملفات الخلافية عن الاقتصاد، والعمل على احتواء تلك الخلافات، والبدء في إعادة العلاقات لطبيعتها. ويدلل على ذلك حجم التبادل التجاري الذي ارتفع خلال النصف الأول من العام الجاري إلى نحو 11 مليار دولار، كما بلغت الاستثمارات المتبادلة المباشرة بين البلدين إلى نحو 50 مليار دولار.

مؤشرات رئيسية

تُعد تركيا وجهة مفضلة للاستثمار الهولندي منذ ثلاثينيات القرن الماضي عندما أنشأت شركة فيليبس متجراً لها في الجمهورية التركية الناشئة، ووصل الاستثمار إلى مستويات جديدة منذ ذلك الوقت، الأمر الذي جعل هولندا أكبر مصدر للاستثمار الأجنبي المباشر في تركيا.

وتكشف العلاقات التجارية بين البلدين أن الميزان التجاري كان يصب لصالح تركيا. وهنا، يمكن تفسير حرص تركيا على توفير بيئة جيدة للاستثمارات الأوروبية بشكل عام، والهولندية على وجه التحديد، خاصة أن الشريك الهولندي هو محور هام في تأمين معالجة أزمة الاقتصاد التركي الحالية، لكثافة استثماراته من جهة، ولارتباطه بالاتحاد الأوروبي (الشريك الاقتصادي المهم لتركيا) من جهة أخرى.

كما أن حجم التجارة بين أنقرة وأمستردام يسير بوتيرة متسارعة، في دلالة على استقرار العلاقات التجارية بينهما، حيث ارتفع حجم المبادلات التجارية من 6,6 مليارات دولار في عام 2016 إلى ما يقرب من 11 مليار دولار في العام الجاري. وبالنسبة لحجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في كلا البلدين، فقد كشفت بيانات وزارة الخارجية التركية أن الاستثمارات التركية في هولندا بلغت خلال عام 2020/2021 نحو 16 مليار دولار، بينما بلغت الاستثمارات الهولندية في تركيا خلال الفترة نفسها نحو 27,5 مليار دولار مقارنة بنحو 22 مليار دولار في عام 2016، لتحتل المرتبة الأولى في حجم الاستثمارات الأجنبية في تركيا. بينما حلت الولايات المتحدة الأمريكية في المرتبة الثانية على قائمة الدول الأكثر استثماراً في تركيا خلال الفترة نفسها؛ إذ استثمرت 12.9 مليار دولار. كما يشار إلى أن بريطانيا احتلت المركز الثالث خلال الفترة من عام 2002 وحتى مطلع عام 2021، حيثوصل حجم الاستثمارات البريطانية في تركيا إلى 11 مليار دولار.

نسب الاستثمارات الأجنبية المباشرة لأكبر 12 مستثمراً في تركيا (2003-2020)

بالتوازي مع ما سبق، يوجد في تركيا ما يقرب من 2800 شركة برأس مال هولندي، ويشمل هذا الرقم الشركات العابرة للحدود المسجلة في هولندا، وفي الصدارة منها يونيليفر، ومجموعة إي إن خي المالية، وفيليبس، وشركة شل للنفط، وفيليب موريس.

أهداف مختلفة

يأتي مسعى هولندا لتعزيز استثماراتها في تركيا ارتباطاً برغبتها في تحقيق جملة من الأهداف، التي يتمثل أهمها فيما يلي:

1- محورية موقع تركيا الاستراتيجي: يرتبط حرص هولندا على تعزيز استثماراتها في تركيا بموقع الأخيرة الجغرافي وأهميته الاستراتيجية، حيث تتسم تركيا بقربها من الأسواق في آسيا ومنطقة الشرق الأوسط، وهي أسواق كثيفة الاستخدام لمنتجات الشركات الهولندية التي تعمل بالأساس في القطاعات الخدمية والغذائية. كما أن هولندا تعي أن تركيا هي قاعدة إنتاج ملائمة، وسوق مربحة ومركز تجاري ولوجيستي للوصول إلى مناطق متنوعة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والبلقان والقوقاز وآسيا الوسطى. ولعل هذا ما يفسر تدفق المزيد من الاستثمارات الهولندية إلى تركيا.

2- توافر الامتيازات الاستثمارية والبنية التحتية: لا ينفصل حرص هولندا على زيادة الاستثمارات في تركيا عن الامتيازات التي تقدمها الحكومة التركية للمستثمرين الأجانب، ناهيك عن توافر بنية تحتية محفزة لنمو الاستثمارات الأجنبية، حيث يوجد في تركيا نحو 260 منطقة صناعية تتوزع في جميع المحافظات التركية، وتم تصميمها بشكل يتيح للشركات العمل ضمن بيئة ملائمة للاستثمار.

كما توفر الحكومة التركية العديد من التسهيلات الحكومية والمعاملات في المناطق الصناعية المنظمة، ناهيك عن إنشاء عدد من المناطق الحرة داخل حدودها، وهو ما يوفر بيئة خصبة لنمو فرص التصنيع والتصدير للخارج. ويُشار إلى إنشاء تركيا 19 منطقة حرة على حدود أوروبا والشرق الأوسط، وتحظى هذه المناطق بالعديد من المميزات، منها إعفاءات جمركية وتسهيلات في التصدير والتصنيع وغيرها من المميزات الأخرى.

3- تعزيز العلاقات الاقتصادية مع القوى الشرق أوسطية الرئيسية: إذ تحرص الحكومة الهولندية على توسيع شبكة تجارتها واستثماراتها مع القوى الإقليمية، التي تتوافق معها في الرؤى تجاه الصراعات الدولية. فقد أشار رئيس الوزراء الهولندي مارك روته، في تصريح له في مارس 2022 خلال لقائه الرئيس أردوغان، إلى أن أنقرة تُعتبر من أهم الشركاء التجاريين لهولندا في منطقة الشرق الأوسط، وأضاف: “إن مسألة تحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي ستتصدر الأولويات في مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي”. وتابع أنه “من المهم أن تكون هناك علاقة قوية بين أوروبا والتكتل وتركيا”.

وبرغم الخلافات العالقة بين أنقرة وأمستردام تجاه بعض القضايا السياسية فإن الثانية تعتقد أن تركيا تمثل لاعباً أساسياً على الساحة العالمية، بالنظر إلى دورها النشط في الأزمة الأوكرانية، وكان رئيس الوزراء الهولندي قد أشاد بالجهود الدبلوماسية المكثفة التي تبذلها تركيا لضمان السلام بين أطراف الحرب الروسية الأوكرانية، مؤكداً أنه من المهم لتركيا أن تلعب دوراً نشطاً في حل هذا الصراع.

في المقابل، فإن هولندا تدرك أن ثمة ارتدادات إيجابية لتعزيز العلاقات التجارية مع تركيا، التي تعد واحدة من أهم الأسواق للصادرات الهولندية، حيث ناهزت قيمة التبادل التجاري بين البلدين نحو 11 مليار دولار، كما تقدر قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة عبر الشركات الهولندية في تركيا بــ17 في المائة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية في تركيا. وعلى الجانب الآخر، توفر الاستثمارات التركية في هولندا فرص عمل لـنحو 80 ألف مواطن هولندي من خلال 23 ألف شركة أنشأها رواد الأعمال الأتراك.

4- الحدّ من تأثيرات الأزمة الاقتصادية: تُعاني تركيا أزمة اقتصادية ممتدة كشف عنها تدهور سعر صرف العملية المحلية (الليرة) التي خسرت ما يقرب من 40 في المائة من قيمتها، فضلاً عن ارتفاع أرصدة الديون الخارجية، وتراجع حجم الاستثمار الأجنبي بسبب تصاعد حالة عدم الاستقرار بين تركيا وبعض القوى الغربية. لذا ثمة حرص تركي لافت للحفاظ على الاستثمارات الهولندية العاملة في السوق التركية، حيث تلعب دوراً معتبراً في القفز على التراجع الحادث في مؤشرات الاقتصاد، ناهيك عن أن هولندا تعتبر أكبر شريك استثماري لتركيا في مجالات مثل: الموانئ والخدمات اللوجستية، والعقارات، والبناء، والزراعة، والطيران، والأغذية، والإلكترونيات، وصناعة وتوريد السيارات، بالإضافة إلى السياحة الصحية.

نافذة فرصة

في ضوء ذلك، يمكن القول إن الاستثمارات الهولندية على وجه التحديد في السوق التركية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، تمثل فرصة لتعزيز مواجهة المخاطر التي يعانيها الاقتصاد التركي في المرحلة الحالية، على اعتبار أن ذلك سيزيد من قدرته على التحسن، وجذب شركاء آخرين، ناهيك عن أن الاستثمارات الهولندية تمثل أحد المداخل المهمة التي تساهم في تفكيك القضايا السياسية الخلافية بين أنقرة وأمستردام حيال عدد من القضايا.