في ظل ما تواجهه بعثة الأمم المتحدة في ليبيا من انتقادات، يأتي تعيين الأمريكية ستيفاني خوري نائبة للمبعوث الأممي عبدالله باتيلي للشئون السياسية، في أول مارس الجاري، بما يؤشر إلى محاولة أمريكية لمزاحمة باتيلي في الملف الليبي استناداً إلى عدة عوامل، أهمها تنامي الاهتمام الأمريكي بالساحة الليبية، والعودة النشطة للتحكم أو محاولة التحكم في تفاعلاتها، والدفع في اتجاه تكرار “النجاح النسبي” الذي حققته الأمريكية ستيفاني ويليامز، إضافة إلى العمل على تحريك “الجمود” ومعالجة “الانسداد السياسي” الحاصل في ليبيا، فضلاً عن النظرة الأمريكية إلى ليبيا من منظور المصالح، حيث ثروتها الهائلة من مصادر الطاقة، وكذلك مواجهة التمدد الروسي في الشرق الليبي.
متغيرات دافعة
في مسعى جديد لتحريك الجمود الحاصل على الساحة السياسية الليبية، وفي وقت تتعرض فيه البعثة الأممية للدعم في ليبيا لانتقادات حادة، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرش، عن تعيين الأمريكية ستيفاني خوري، نائبة لرئيس البعثة في ليبيا، عبدالله باتيلي، للشئون السياسية.
ويطرح هذا القرار العديد من الرؤى المتناقضة بشأن تفسير الغرض من تعيين خوري، ما بين أن التعيين يمثل “تجديداً في دماء البعثة الأممية”، وما بين أن التعيين يعتبر تغييراً في الاستراتيجية التي تتبناها الأمم المتحدة تجاه ليبيا.
ورغم هذا الاختلاف ما بين التجديد والتغيير، يبدو أن تعيين خوري نائباً للشئون السياسية يأتي في إطار محاولة الولايات المتحدة الأمريكية تعزيز دورها في الملف الليبي على نحو قد يمثل خصماً من دور باتيلي، بما يشير إلى وجود عوامل دافعة لهذا التوجه، يتمثل أبرزها في:
1- تزايد الاهتمام بالساحة الليبية: تبدو ملامح هذه العودة الأمريكية في الاهتمام بالملف الليبي، من خلال اختلاف نهج إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن عن سابقيه، خاصة باراك أوباما ودونالد ترامب، من منظور أن الأول قرر الانكفاء عن ليبيا، في حين اهتم الآخر بسحب بلاده بعيداً عن “حروب الآخرين”، وفق تعبيره الشهير.
لكن مع وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، والمطالبة الأمريكية من تركيا وروسيا الشروع بسحب قواتهما من ليبيا، بدا أن بايدن اتجه نحو رسم استراتيجية أمريكية جديدة في التعامل مع تفاعلات الساحة الليبية، وهو ما يتضح عبر تعيين الأمريكية ستيفاني خوري، الذي يأتي بعد أن تعالت الأصوات التي انتقدت -ولا تزال- البعثة الأممية للدعم في ليبيا، ورئيسها عبدالله باتيلي، بأنها سبب رئيسي في حالة “التجمد السياسي” التي تمر بها ليبيا.
ومن ثمّ يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية تستشعر ضرورة إيجاد تسوية سياسية بين الأطراف الليبية من خلال محاولة تحريك حالة الجمود السياسي، وبالتالي جاء اختيار ستيفاني خوري، ذات الأصول اللبنانية، والخبرة الطويلة في المنطقة العربية، التي ربما تساعدها على النجاح في جمع الأطراف الليبية على طاولة “مباحثات الانتخابات”، لا سيما وأن باتيلي كان متردداً في عددٍ من القرارات في الفترة الأخيرة.
2- التحضير لاستقالة باتيلي المحتملة: إضافة إلى أن تعيين خوري سوف يزيد من تمكين واشنطن من الملف الليبي، مثلما كان الحال عليه في فترة رئاسة الأمريكية ستيفاني وليامز للبعثة الأممية في ليبيا، قبل أن تنهي مهمتها في نهاية يوليو 2022؛ فإن هذا التعيين يأتي -في الوقت نفسه- كمقدمة تحضيرية لاحتمال تقديم عبدالله باتيلي لاستقالته، بعد فترة وجيزة، خاصة بعد أن فقد ثقة عدد من الأطراف السياسية الليبية، بما أفقد البعثة دورها الداعم لإيجاد تسوية سياسية للأزمة الليبية.
بل إن اللافت أن باتيلي، الذي كان قد تسلم مهام منصبه في منتصف أكتوبر 2022، يواجه عدة انتقادات بـ”الانحياز” إلى صف حكومة “الوحدة الوطنية” التي يترأسها عبدالحميد الدبيبة في طرابلس (غرب ليبيا)، وأن هذه الانتقادات لا تتوقف عند حدود حكومة “الاستقرار” المكلفة من البرلمان، والتي يقودها أسامة حماد، ولكن الأمر يتعدى ذلك إلى عدد من الأحزاب السياسية الليبية، التي ترى أن أداء البعثة الأممية ينذر بعواقب وخيمة، وتطالب الأمين العام للأمم المتحدة بتفعيل أداء البعثة بما يتلاءم مع حجم ما تواجهه البلاد من تحديات.
3- تحريك الجمود ومعالجة الانسداد السياسي: يأتي تعيين ستيفاني خوري، صاحبة التجربة التي تتجاوز 15 عاماً من الخبرة، عبر العمل في دول عربية متعددة، ليؤكد على الانخراط الأمريكي في الأزمة الليبية، والدفع في اتجاه “تغيير الوجوه” للسيطرة على مجريات التفاعلات التي تمر بها الأزمة. واللافت أنّه في الوقت الذي ارتفعت فيه الأصوات التي تتهم البعثة الأممية بالمساهمة في حالة الجمود و”الانسداد السياسي” على الساحة الليبية، صدر قرار الأمين العام للأمم المتحدة بتعيين الأمريكية خوري. وكما يبدو يأتي هذا التعيين كمحاولة لمعالجة وضعية الانسداد والجمود اللذين تتسم بهما الساحة السياسية الليبية، وتوجه تدعمه الولايات المتحدة الأمريكية نحو إيجاد أرضية صلبة للذهاب إلى الانتخابات.
4- العوائد الاقتصادية والثروة النفطية: من شأن الاستقرار في ليبيا أن يحقق عدداً من المصالح الأمريكية، خاصةً فيما يتعلق بإمكانية إحداث زيادة كبيرة في صادرات النفط والغاز الليبيين.
فبحسب تقديرات عديدة، فإن احتياطيات النفط الليبي تصل إلى حوالي 48 مليار برميل، بما يجعلها الأكبر في أفريقيا، هذا فضلاً عن المركز الخامس الذي تحتله ليبيا على المستوى العالمي في احتياطيات النفط الصخري، إضافة إلى ارتفاع احتياطيات الغاز لديها. وبالتالي، تدرك واشنطن أهمية العمل على تحقيق هذا الهدف، خاصة في ظل الرغبة المتنامية من جانب عددٍ من الأطراف الدولية، سواء الأوروبية المتمثلة في إيطاليا وفرنسا، أو روسيا، في الاستفادة من الثروة الليبية الهائلة في مجال الطاقة.
5- تصاعد النفوذ الروسي في الشرق الليبي: بقدر ما يمثل تعيين خوري مؤشراً مهماً على العودة الأمريكية إلى الاهتمام بالملف الليبي، فهو -في الوقت نفسه- بمثابة “إعادة تموضع” ورغبة في تسوية المشهد أمريكياً، خاصة في ظل التمدد الروسي جهة الشرق الليبي، والغرب أيضاً.
ومن الواضح أن التحرك الأمريكي يتواكب مع محاولات روسيا تعزيز حضورها على الساحة الليبية، كنوع من أوراق الضغط على الدول الغربية، وتحديداً الدول الأوروبية، إضافة إلى اتخاذ التواجد في ليبيا كـ”نقطة ارتكاز” في اتجاه تأكيد النفوذ الروسي في منطقة الساحل الأفريقي. إذ تدرك واشنطن مخاطر المحاولات الروسية للانخراط بشكل أكبر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على مصالحها.
ولعلّ هذا نفسه ما دفع الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى تقديم استراتيجية إدارته حيال ليبيا إلى الكونجرس في نهاية مارس 2023، وذلك ضمن ما أطلق عليها “الخطة العشرية لتعزيز الاستقرار في مناطق الصراعات”.
ستيفاني الثانية
في هذا السياق، يمكن القول إن تعيين ستيفاني خوري يأتي كمحاولة أمريكية للتحكم والسيطرة على الوضع السياسي على الساحة الليبية، خاصة بعد الانتقادات المتعددة التي طالت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، ورئيسها عبدالله باتيلي. ومن الواضح أن هذه المحاولة تأتي بعد النجاح “النسبي” الذي حققته من قبل الأمريكية ستيفاني ويليامز، التي كانت نائبة للمبعوث الأممي في ليبيا ثم مبعوثة أممية حتى استقالتها في يوليو 2022.
وإذا كان الاهتمام بالملف الليبي قد عاد مع الرئيس جو بايدن وخطته “العشرية”، فإن تعيين خوري يأتي، في الغالب، دفعاً أمريكياً في اتجاه تقديم باتيلي لاستقالته، وإحلال خوري بديلاً له، وهو المتوقع خلال الفترة الزمنية المقبلة.