على الرغم من تركيز إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، منذ اليوم الأول لها في البيت الأبيض، على قضايا الداخل الأمريكي، ولا سيما مع إخفاقات الإدارة السابقة للرئيس دونالد ترامب في التعامل مع جائحة كوفيد-١٩، وعلى العلاقات مع القوى العظمى، وخاصة الصين، التي تؤثر سياساتها الداخلية والخارجية على الداخل الأمريكي بصورة كبيرة، فإنها عملت، خلال الأشهر السبع الأولى لها، على إبقاء منطقة الشرق الأوسط بعيدة عن ما أطلقت عليه اتجاهات عديدة “نقطة الغليان”. ويرتبط ذلك بتحولات السياسة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، وقضاياها وأزماتها، ومساعي الإدارة للعودة للاتفاق النووي لعام ٢٠١٥، والذي انسحبت منه الإدارة السابقة، وعلى إثره تنصلت طهران من التزاماتها المنصوص عليها فيه.
تباينات متعددة:
تتفق كافة الإدارات الأمريكية، الديمقراطية والجمهورية، على رفض امتلاك إيران للسلاح النووي باعتبار ذلك “خطاً أحمر” تلتزم جميع الإدارات الأمريكية بتطبيقه. لكن ذلك لا ينفي أن ثمة تباينات حول آليات تحقيق ذلك. وفي هذا السياق، يرى فريق الرئيس بايدن أن مهاجمة طهران بسبب أنشطتها النووية ستؤدي، على الأرجح، إلى تأخير “الساعة النووية” الإيرانية، وليس تدمير بنيتها التحتية. ولهذا السبب، ولعدم الرغبة في تكرار نتائج الحروب في أفغانستان والعراق، تواصل إدارة بايدن تفضيل الدبلوماسية التي تضم قدراً متساوياً من الإغراءات والعقوبات.
وتعارض الإدارة الأمريكية الحالية نهج إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، التي كانت تعتقد أن استراتيجية “الضغوط القصوى” على إيران في أعقاب الانسحاب الأمريكي الأحادي من الاتفاق النووي في ٨ مايو ٢٠١٨ ستجبر طهران على الموافقة على اتفاق نووي جديد من شأنه وضع مزيد من القيود سواء على برنامجها النووي أو برنامجها للصواريخ الباليستية أو دعمها للميليشيات المسلحة في منطقة الشرق الأوسط. لكن في حقيقة الأمر، اتجهت طهران، على العكس من ذلك، إلى التنصل من الالتزامات المنصوص عليها في الاتفاق، عبر زيادة قدراتها على تخصيب اليورانيوم، وتعزيز دورها المهدد للاستقرار في المنطقة. ولهذا، أعلن الرئيس بايدن، منذ بداية حملته الانتخابية، عن تبنيه نهجاً مغايراً يهدف إلى عودة طهران وواشنطن للالتزام بالاتفاق الذي تؤيده الدول الكبرى التي توصلت إليه مع إيران في يوليو ٢٠١٥.
وتسعى الإدارة الأمريكية عبر تفعيل الاتفاق النووي إلى إفساح الطريق أمام مزيد من التركيز الاستراتيجي على منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والتهديد الذي تشكله الصين، لما يفرضه من تأثيرات على النفوذ الأمريكي، ومستويات معيشة المواطنين الأمريكيين، ولاسيما مع بروز اتجاهات أمريكية تشير إلى تراجع الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط بالنسبة للمصالح والأمن القومي الأمريكي.
ولهذا، استؤنفت المفاوضات بين إيران وبريطانيا والصين وفرنسا وألمانيا وروسيا بمشاركة غير مباشرة من الولايات المتحدة الأمريكية في فيينا في أبريل الماضي بهدف تعزيز فرص عودة إيران والولايات المتحدة الأمريكية للالتزام مرة ثانية بالاتفاق النووي لعام ٢٠١٥.
مؤشرات مختلفة:
انطلاقاً من ذلك، انتهجت الإدارة الأمريكية سياسة تقوم على تهدئة الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، والتي سيكون لتأزمها تأثيرات على فرص نجاح مباحثات فيينا التي ربما تجري الجولة القادمة منها في سبتمبر القادم، ويتمثل أبرز مؤشرات تلك التهدئة فيما يلي:
1- التركيز على الأداة الدبلوماسية: كشفت تقارير عديدة عن أن إدارة الرئيس جو بايدن ترفض أى مخططات إسرائيلية لشن عمليات عسكرية ضد البرنامج النووي الإيراني، حيث حثت وزارة الخارجية الأمريكية إسرائيل على الاعتماد على الدبلوماسية وليس التهديدات أو التحركات العسكرية لوقف برنامج إيران النووي، وذلك بعد تهديدات وزير الدفاع الإسرائيلي بيني جانتس بالعمل العسكري ضد إيران لسياساتها التي تهدد الأمن الإسرائيلي، ولاسيما في ظل معارضة قادة إسرائيل جهود الرئيس الأمريكي لإحياء الاتفاق النووي، بدعوى أنه لا يمكن الوثوق بالتزام إيران بالاتفاق.
2- رفع العقوبات عن مسئولين إيرانيين: رفعت وزارة الخزانة الأمريكية، في 10 يونيو الماضي، العقوبات التي كانت مفروضة على ثلاثة مسئولين إيرانيين سابقين وشركتين، كانوا متورطين في السابق في تجارة المنتجات البتروكيماوية الإيرانية. وتوقع المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس، بعد قرار وزارة الخزانة، سحب أفراد وشركات إيرانية أخرى من لائحة العقوبات الأمريكية في الأشهر والسنوات المقبلة. وقد أشارت تقارير صحفية أمريكية، في 26 يونيو الماضي نقلاً عن مسئولين أمريكيين، إلى أن الإدارة الأمريكية تدرس رفع العقوبات المفروضة على المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي. ولهذا وجّه عدد من المشرعين الجمهوريين رسالة للرئيس جو بايدن لطلب إيضاح حول احتمالات رفع العقوبات عن خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي وآخرين، حيث أشاروا في رسالتهم إلى أن المفاوضين الإيرانيين أبلغوا أعضاء البرلمان الإيراني بأن إدارة بايدن قد وافقت على رفع العقوبات عن خامنئي ومسئولين إيرانيين آخرين من ضمنهم الرئيس رئيسي.
وعلى الرغم من تأكيد وزارة الخارجية الأمريكية أن رفع العقوبات عن مسئولين في مؤسسة النفط الوطنية الإيرانية لا علاقة له بمفاوضات فيينا مع إيران، وإمكانية العودة إلى الاتفاق النووي، فإن ذلك لا ينفي أن هذه الخطوة تعكس رغبة الإدارة الأمريكية في تحفيف العقوبات المفروضة على إيران إذا غيرت من سلوكها، وعادت للالتزام بالاتفاق النووي لعام ٢٠١٥.
ومع ذلك، يتوقع مع التوصل إلى تسوية من شأنها عودة الولايات المتحدة الأمريكية وإيران للاتفاق النووي، أن تستمر مئات العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران التي ترتبط بانتهاكات طهران لحقوق الإنسان، ودعمها لمجموعات مسلحة وميليشيات في عدد من الدول العربية.
3- سحب القوات الأمريكية من العراق: تخطط الإدارة الأمريكية لسحب القوات الأمريكية من منطقة الشرق الأوسط، في ظل استراتيجية جديدة لإعادة انتشار القوات الأمريكية لمواجهة التهديدات الأكثر أهمية للأمن والمصالح القومية الأمريكية. وفي هذا الإطار، شرعت إدارة جو بايدن في سحب القوات الأمريكية من أفغانستان لإنهاء أطول حرب في التاريخ الأمريكي، وخلال زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي لواشنطن، في 26 يوليو الفائت، تم الاتفاق على سحب القوات الأمريكية المقاتلة بنهاية العام الحالي مع الاستمرار في تقديم دعم استشاري ولوجيستي للقوات العراقية. وترى بعض التحليلات الغربية أن أحد أهداف ذلك يرتبط بمحاولة “تحييد” الميليشيات المسلحة المدعومة من قبل إيران، والتي شنت العديد من الهجمات العسكرية ضد القوات والمصالح الأمريكية في العراق.
4- تجميد التصعيد في جنوب لبنان: تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية، بمساندة من فرنسا، لمنع تطور التصعيد بين إسرائيل وحزب الله اللبناني، الذي اندلع في الفترة من 4 إلى 6 أغسطس الجاري، بعد القصف المتبادل بينهما في أعقاب شن الأولى غارات رداً على صواريخ الكاتيوشا التي أطلقت من المنطقة الواقعة على تخوم منطقة العمليات المشتركة للجيش اللبناني وقوات اليونيفيل في جنوب الليطاني. وتشير التقديرات إلى أن الإدارة الأمريكية لا ترغب في إحداث انقلاب في الوضع السائد حالياً في الجنوب اللبناني قبل عودة مفاوضات فيينا المقرر لها في سبتمبر القادم، حيث تتجنب توفير الذرائع لطهران للهروب من الاستحقاقات المرجوة من تلك المباحثات.
ختاماً، في الوقت الذي تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى تهدئة الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط بما يُهيِّئ المجال أمام عودة إيران للاتفاق النووي لعام ٢٠١٥، مع قرب موعد الجولة القادمة من مباحثات فيينا، فإنها ستستمر في الضغط على إيران، بحيث لا ينظر إلى الخطوات الأمريكية على أنها توجه رسائل تفهمها الأخيرة على نحو خاطئ، لاسيما بعد أن وجهت واشنطن اتهامات لطهران بالمسئولية عن الهجوم على ناقلة النفط التي تديرها إسرائيل قبالة سواحل عمان في 29 يوليو الفائت، وتعهدت برد جماعي وشيك على ذلك. وخلال توقف المباحثات غير المباشرة في فيينا، أصدرت الإدارة الأمريكية تحذيرات قوية بعد حملة طهران القمعية على الاحتجاجات الشعبية المناهضة للحكومة، ومحاولتها اختطاف صحفية مقيمة في الولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن ردها على هجمات الميليشيات المدعومة من إيران المستمرة على القوات الأمريكية المتمركزة في العراق، وهو الأمر الذي يوضح أن مسار التهدئة له حدود، لاسيما في ظل تصاعد تأثير تيار داخل الكونجرس الأمريكي يعارض سياسات الإدارة الأمريكية تجاه طهران، والتي يرى عدد من المشرعين الجمهوريين والديمقراطيين أنها تدفع إيران إلى تبني سياسة أكثر تشدداً في التعامل مع الملفات الخلافية، ولاسيما ملفها النووي وتدخلاتها المستمرة في أزمات المنطقة.