تنويع الخيارات:
لماذا تسعى تركيا للاتفاق مع الصين على بناء محطة نووية؟

تنويع الخيارات:

لماذا تسعى تركيا للاتفاق مع الصين على بناء محطة نووية؟



تسعى تركيا لتنفيذ برنامجها النووي السلمي الذي سيوفر لها إمدادات ضخمة من الطاقة الكهربائية، إذ أعلنت مؤخراً عن قرب الاتفاق مع شركات صينية لبناء المحطة الثالثة التي تقع على الحدود مع بلغاريا، وهو ما يرجع إلى سعي أنقرة لتنويع الدول العاملة في برنامجها للطاقة النووية، والاستفادة من الدعم المحتمل لبناء تلك المحطة تحت مظلة مبادرة “الحزام والطريق”، وقد يسفر التعاون في ذلك المجال الحيوي عن جذب الدعم الصيني لتعزيز محورية تركيا للربط بين الشرق والغرب، علاوة على أن تركيا تتحسب من الضغوط الغربية التي سترفض التواجد الروسي على الحدود مع أوروبا.

كشف وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار، في 14 سبتمبر 2023، أن بلاده تقترب من إبرام اتفاق مع الصين لبناء محطة جديدة للطاقة النووية، لافتاً إلى أنه تم إجراء محادثات مع شركة صينية لفترة طويلة جداً، وأن تلك المحادثات يمكن الانتهاء منها في غضون بضعة أشهر، لافتاً إلى أنّ مسؤولين صينيين تفقدوا مؤخراً الموقع المحتمل للمحطة المستقبلية، والتي تقع بالقرب من الحدود مع بلغاريا واليونان.

وقد أشارت العديد من المصادر التركية إلى أن الاتفاق المحتمل بين تركيا والصين سيتم بموجبه التعاون لبناء المحطة النووية الثالثة في غرب تركيا، علماً بأن المحطة الأولى تقوم روسيا بإنشائها في ولاية “مرسين” جنوبي تركيا على ساحل البحر الأبيض المتوسط، والمحطة الثانية سيتم إنشاؤها في إقليم “سينوب” على ساحل البحر الأسود، ولكنها لا تزال في مرحلة التخطيط) انظر شكل رقم 1)، حيث تبحث أنقرة مع روسيا وكوريا الجنوبية إنشاء تلك المحطة.

شكل رقم (1): مواقع محطات الطاقة النووية المخطط بناؤها في تركيا

(Source: The Investigation on Economic and Ecological Impacts of Tendency to Electric Vehicles Instead of Internal Combustion Engines, January 2019, Duzce University Journal of Science and Technology)

دوافع الاختيار

يرجع اختيار تركيا الشركات الصينية لبناء محطة الطاقة النووية الثالثة لعدد من الاعتبارات، يتمثل أهمها في التالي:

1- تنويع الدول العاملة في برنامج الطاقة النووية التركي: ترى أنقرة أهمية تنويع الدول التي تقوم ببناء محطاتها النووية، وذلك لعدم الانكشاف على دولة بعينها في ذلك القطاع الحيوي المقدر له توليد 20 جيجاواط من الكهرباء في 2050 بتركيا، خاصة روسيا التي توترت علاقاتها معها عدة مرات ولأسباب مختلفة خلال العقد الماضي. ويُشار في هذا الصدد إلى أن أنقرة تبحث مع شركات من كوريا الجنوبية بناء المحطة الثانية، بما يعكس ضمنياً عدم رغبتها في أن تضطلع موسكو ببناء المحطتين الثانية والثالثة.

يدلل على ذلك أن أنقرة أجرت مفاوضات مع العديد من الشركات غير الروسية لبناء المحطة النووية الثانية، أو الاعتماد على مفاعلات نووية صغيرة في برنامج الطاقة النووية التركي، وذلك على النحو التالي:

أ- مارس 2010: اتفقت الشركة الكورية للطاقة الكهربائية مع شركة توليد الكهرباء التركية على إعداد عرض لبناء المحطة الثانية في “سينوب”.

ب- أبريل 2012: وقعت كندا مع شركة توليد الكهرباء التركية اتفاقاً لإجراء دراسة لبناء المحطة الثانية بقدرة 3000 ميجاواط.

ج- مايو 2013: تلقت تركيا عرضاً من تحالف ياباني فرنسي لبناء المحطة الثانية بقدرة توليد كهرباء 4600 ميجاواط.

ديسمبر 2022: أشار “جاستن فريدمان” كبير مستشاري التنافسية التجارية في الطاقة النووية بوزارة الخارجية الأمريكية، إلى أن بلاد تجري محادثات مع تركيا لشراء مفاعلات نووية صغيرة، لافتاً إلى أن هناك مجالاً لشراء ما يصل إلى 35 مفاعلاً معيارياً صغيراً معروفاً باسم SMRs””.

2- الاستفادة من الدعم المقدم تحت مظلة مبادرة “الحزام والطريق”: يأتي اختيار بكين في إطار مخططها لدعم مبادرة “الحزام والطريق” الصينية عبر بناء نحو 30 مفاعلاً في الدول الموجودة في المبادرة (وفق ما ذكره “وانغ شوجون” عضو اللجنة الدائمة للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني في يونيو 2019)، حيث تسعى بكين لتسويق نشاط إنشاء المحطات النووية خارج حدودها، ولا سيما مع احتمالية توليدها نحو تريليون يوان للشركات الصينية المعنية ببناء تلك المحطات بحلول 2030 (وفق ما ذكره “وانغ شوجون”).

أحد مستهدفات أنقرة من اختيار الصين لبناء المحطة النووية هو توفير التمويل اللازم من خلال الصناديق والبنوك الداعمة لمبادرة “الحزام والطريق”، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك تركيزاً صينياً على أنقرة لكونها حلقة ربط مهمة مع الجانب الأوروبي، ويدلل على ذلك عدد وحجم الاستثمارات التي حصلت عليها تركيا من البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية منذ عام 2016 (انظر شكل رقم 2)، وبالتالي قد يضطلع البنك أو غيره من الجهات الداعمة للمبادرة بدعم جزء من محطة الطاقة النووية الثالثة، بينما تقوم بكين عبر شركاتها وبنوكها بدعم جزء، مع إمكانية الحصول على دعم من المجتمع الدولي تحت مظلة التحول نحو الطاقة النظيفة، مما يقلص حصة مساهمة الدولة التركية في تمويل تلك المحطة.

شكل رقم (2): أكبر 4 دول حصلت على دعم مالي في قطاع الطاقة من البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية خلال الفترة (2016-2022)

(Source: AIIB SUSTAINABLE DEVELOPMENT BONDS: LIST OF DISBURSED PROJECTS SINCE 2016, The Asian Infrastructure Investment Bank)

3- جذب الدعم الصيني لتعزيز محورية تركيا للربط بين الشرق والغرب: من المتوقع أن يسفر ترسية بناء المحطة النووية الثالثة على شركات صينية عن تحفيز بكين لدعم تركيا كمحور للربط بين الشرق والغرب، وقد يتجسد ذلك بشكل واضح في دعم “الممر الأوسط” (انظر شكل رقم 3)، وهو الذي سيشكل بديلاً مهماً لبعض المشاريع الإقليمية والدولية الساعية لنفس الهدف، الأول الممر الشمالي الذي يمر عبر روسيا، وهو الذي تراجع الاعتماد عليه بسبب العقوبات على موسكو، إضافة إلى ممر آخر يمر عبر إيران ومنه للعراق وسوريا، والثالث ممر الهند-السعودية-إسرائيل الذي تم طرحه في سبتمبر 2023، والذي سيعزز من التواجد الهندي في الشرق الأوسط على حساب الصين، وبالتالي فإن توقيت إعلان تركيا عن قرب الاتفاق مع الصين لبناء المحطة النووية الثالثة قد تكون له دلالة على محاولات تركية للاستفادة من توجهات الصين المستقبلية تجاه المنطقة، واحتمالية إعادة صياغتها لمخططاتها والركائز التي ستعتمد عليها لتعزيز تواجدها في الشرق الأوسط.

شكل رقم (3): مسار “الممر الأوسط” المقترح لربط الصين بأوروبا

(Source: www.portseurope.com)

يعزز من الطرح السابق ما صرح به الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” بعد قمة مجموعة العشرين التي عُقدت في سبتمبر 2023، والتي أطلقت فيها السعودية ممر (الهند-الإمارات-السعودية-الأردن-إسرائيل-أوروبا)، بأنه لا يمكن أن يكون هناك ممر بدون تركيا، وأن الطريق الأنسب للتجارة من الشرق إلى الغرب يجب أن يمر عبر أراضيها. ويُشار في هذا الصدد أيضاً إلى “طريق التنمية” الذي اقترحه العراق في مايو 2023، والذي يربطه بأوروبا عبر تركيا، والذي تدعمه بكين، وهو ما أكدته وزارة النقل العراقية عندما ذكرت في أغسطس 2023 أن الصين قدمت عرضاً فنياً لمشروع طريق التنمية الاستراتيجي.

4- التحسب من الضغوط الغربية الرافضة للتواجد الروسي: ترى أنقرة أن ضلوع موسكو في بناء المحطتين الثانية والثالثة، اللتان تقعان في مناطق استراتيجية (على البحر الأسود) أو على حدود الدول الأوروبية، قد تمثلان تهديداً لدول الاتحاد الأوروبي، وبالتالي قد تتحسب أنقرة من ممارسة ضغوط عليها في هذا الشأن، كما أنها لا تريد إثارة حفيظة الدول الأوروبية لكونها ترغب في الانضمام للاتحاد الأوروبي. وبالرغم من أن تواجد الصين أيضاً قد يمثل مشكلة للجانب الأوروبي، إلا أن ذلك التواجد قد يتم تقبله نسبياً ولا سيما في ضوء استمرار العلاقات الاقتصادية بين الصين والدول الأوروبية، وذلك مقارنة بتواجد روسيا في مشاريع حيوية على الحدود مع الكتلة الأوروبية.

إن الضغوط الممكن فرضها على تركيا قد تماثل التحذيرات السابقة للولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل من التعاون مع الصين في تطوير وإدارة ميناء “حيفا”، لا سيما وأنه كانت هناك خطط لنشر قوات بحرية أمريكية متطورة في الميناء (وفق ما ذكرته لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ الأمريكي في يونيو 2019)، وتتحسب واشنطن من رصد تحركات أسطولها في البحر المتوسط من قبل الشركة الصينية التي ستدير الميناء، وهو ما دفع تل أبيب لإرساء عقد تطوير وإدارة الميناء على مجموعة “أداني” الهندية في يوليو 2022 بالتعاون مع شركة “غاودت” الإسرائيلية، وبالتالي فإن هذا النموذج قابل للتكرار مع تركيا فيما يتعلق بالمحطة النووية الثالثة، وبالتالي لا يستبعد دخول شركات غربية على خط إقامة تلك المحطة بدلاً من الصين وروسيا.

ترتيبات جديدة

في الختام، إن طموح أنقرة لأن تصبح مركزاً إقليمياً للطاقة يدفعها للتعاون مع كافة الشركاء المحتملين لتحقيق ذلك الهدف، ويرتبط سعيها لتوليد الكهرباء من الطاقة النووية لتقليص الاعتماد على الغاز الطبيعي والنفط اللذين يمران عبر أراضيها، بما يزيد من عملية ضخه لدول الجوار، إلا أن تواجد الصين وروسيا في تلك المنطقة له حسابات أخرى لدى الدول الغربية، بما يجعل مشاريع أنقرة في مجال الطاقة النووية عليها قيود، وبالتالي فإن تنفيذ المحطتين الثانية والثالثة النوويتين قد تكون لهما ترتيبات أخرى غير تلك التي تقوم روسيا ببنائها قبالة البحر الأبيض المتوسط، من ضمنها إمكانية ضلوع الشركات الغربية في بناء تلك المحطات، حتى لو بالتعاون مع الصين، أو وضعها تحت رقابة مشددة لضمان عوامل الأمان ضد أي تسريبات أو حوادث محتملة.