تكشف مؤشرات عديدة عن اتجاه تركيا نحو تعزيز حضورها في لبنان، ومنها تقديم مساعدات عسكرية (في 11 سبتمبر الجاري) لقوات الأمن الداخلي اللبنانية، فضلاً عن المساعدات الإغاثية والتنموية والصحية التي تقدمها المؤسسات والجمعيات التركية للبنان بشكل دوري. ومن شأن هذه الخطوات أن تحقق مكاسب لتركيا، يتمثل أبرزها في تدعيم النفوذ بمنطقة المشرق العربي، بالإضافة إلى موازنة حضور خصوم أنقرة الإقليميين والدوليين في الإقليم.
اهتمام متزايد
تسعى تركيا بصورة جلية نحو تطوير علاقاتها مع لبنان، وهو ما اتضح في عام 2018 عندما تعهدت تركيا في مؤتمر روما بتوسيع مساعداتها العسكرية للمؤسسات الأمنية اللبنانية، وتقديم معدات عسكرية تبلغ قيمتها نحو 7 ملايين دولار إلى “الفوج النموذجي” اللبناني.
في المقابل، قدمت تركيا مساعدات طبية لإغاثة مصابي انفجار “عكار” الذي وقع في أغسطس الماضي شمال لبنان. كما أكد “ياسين أقطاي”، في أغسطس 2020، عشية زيارته للبنان في أعقاب تفجير مرفأ بيروت، عن استعداد بلاده لإعادة بناء مرفأ بيروت الذي تعرض للتفجير، مما أسفر عنه دمار بشري ومادي هائل في أبنية سكنية ومؤسسات تجارية. كما أعلن رئيس مجلس الأعمال التركي-اللبناني “عبدالقادر أق قوش”، في يوليو الماضي، عشية زيارته بيروت، عن استعداد بلاده لإعادة بناء ميناء بيروت بنظام البناء والتشغيل والتحويل.
كذلك دخلت تركيا في يناير الماضي على خط المواجهات التي شهدتها مدينة طرابلس اللبنانية بين المتظاهرين وقوى الأمن، حيث أبدت استعدادها لترميم المباني التي تضررت نتيجة الاشتباكات، وفي الصدارة منها مبنى يعود للعهد العثماني في المدينة. وتُمثل مدينة طرابلس ذات الأغلبية السنية منصة هامة لتركيا، حيث نجحت الجمعيات الخيرية المنتشرة في المدينة، والمدعومة تركياً، في توفير بيئة خصبة لتعظيم الوجود التركي.
علاوةً على ما سبق، تتجه تركيا إلى الارتقاء بمستوى علاقاتها الاقتصادية مع لبنان، وهو ما اتضح في نتائج اللقاءات المشتركة التي جمعت مسؤولي البلدين مؤخراً، والتي كان أبرزها ملتقى الأعمال التركي-اللبناني في يوليو الماضي، بموازاة لقاء رئيس الحكومة المكلف -آنذاك- “سعد الحريري” الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” في أنقرة في 26 يونيو الماضي. ووفقاً لبيانات مجلس الأعمال التركي-اللبناني، بلغ حجم الصادرات التركية إلى لبنان في أول شهرين من العام الجاري نحو 200 مليون دولار، ومن المحتمل أن يصل مع نهاية العام إلى مليار دولار.
أهداف متنوعة
1- تعزيز النفوذ التركي في حوض شرق المتوسط: لا تنفصل المساعي التركية لتوثيق العلاقة مع لبنان عن محاولاتها تعزيز النفوذ التركي تدريجياً في لبنان ومنطقة حوض شرق المتوسط على حساب النفوذ الغربي، ولا سيما الفرنسي، بشكل قد يدعم دورها أيضاً كوسيط لتسوية الصراعات الداخلية اللبنانية من جهة، وموازنة نفوذ خصومها الإقليميين والدوليين في الإقليم من جهة أخرى. كما تحاول تركيا استثمار حالة الفراغ السياسي في لبنان للتمدد سياسياً بمنطقة المشرق العربي، فتثبيت الحضور التركي في لبنان يُضيف إلى رصيد أنقرة حيال أية ترتيبات للملف السوري، كما يفتح الباب لإمكانية بناء علاقات مصلحية مع إسرائيل.
2- الدخول في مشاريع الطاقة: يمثل متغير الطاقة عاملاً مهماً في محاولات تركيا لتعزيز حضورها في لبنان، ولا سيما في ظل تصاعد الرفض لتحركاتها للتنقيب عن مكامن الطاقة شرق المتوسط من جهة، وتنامي التعاون العربي-العربي في مشاريع الغاز، أو ما يطلق عليه “مشاريع أنابيب السلام” التي تسهم في تعزيز المصالح المشتركة بين الدول العربية من جهة أخرى، وهو ما عكسه الاتفاق الموقّع مطلع سبتمبر الجاري بين مصر والأردن وسوريا ولبنان، والذي يستهدف إيصال الغاز المصري إلى لبنان عبر الأراضي السورية والأردنية.
وراء ما سبق، تعي تركيا أن لبنان يمكن أن يكون نقطة استناد استراتيجية لتوفير منافذ لها على منطقة شرق المتوسط، لفرض مصالحها ولتأمين مشاريع التنقيب التركية قبالة سواحل قبرص واليونان، والتي تواجه معارضة دولية وإقليمية شديدة. هنا، يمكن فهم العرض الذي قدمه وزير خارجية تركيا للحكومة اللبنانية عشية زيارته بيروت في أغسطس الماضي، لترسيم الحدود البحرية بين أنقرة وبيروت، وكذلك عرضه بناء خط مشترك تركي لبناني لتصدير النفط والغاز إلى أوروبا، في محاولة لمحاصرة موسكو التي تسعى للهيمنة على ملف الغاز السوري واللبناني.
3- موازنة النفوذ الإيراني في لبنان: على الرغم من سعي تركيا إلى تحييد خلافاتها مع إيران حول الصراع في سوريا، والعمليات العسكرية التركية في العراق، فضلاً عن تحول أنقرة إلى رئة اقتصادية لطهران في ظل استمرار العقوبات الأمريكية عليها، وهو ما يفسر أسباب ارتفاع مستوى العلاقات الثنائية بين الطرفين على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، بالتوازي مع اتساع نطاق تلك الخلافات؛ إلا أن ثمة تنافساً بينهما بشأن الإمساك بمفاصل دول المشرق العربي، وبخاصة لبنان. وفي الوقت الذي نجحت فيه إيران في توظيف علاقاتها الأيديولوجية والسياسية مع “حزب الله” في لبنان، تسعى تركيا إلى موازنة الحضور الإيراني من خلال دعم التيارات السنية في الشمال اللبناني.
4- حصول الشركات التركية على عوائد اقتصادية: تسعى تركيا التي تعاني من أزمة اقتصادية حادة، إلى فتح آفاق أوسع للشركات التركية المتعثرة في الأسواق الخارجية. وفي هذا السياق، تسعى أنقرة إلى زيادة فرص الشركات التركية في نشاطات إعادة إعمار مرفأ بيروت، بما يزيد من نفوذ تركيا اقتصادياً في لبنان. كما قد يحقق الانخراط الاقتصادي التركي في لبنان عدة مكاسب إضافية، ومنها منح صانع القرار التركي مساحة أكبر من المناورة في عمليات التنقيب شرق المتوسط عن مكامن الطاقة، وثانيها إنقاذ الشركات التركية المتعثرة، والتي تعرضت لمخاطر كبيرة بسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تشهدها تركيا، والتي زادت وطأتها في ظل تفشي جائحة كورونا.
امتلاك التأثير
ختاماً، يمكن القول إن لبنان يمثل هدفاً للسياسة الخارجية التركية، وقد تزايد حجم الاهتمام التركي بعد أحداث سوريا في عام 2011، وبدء التنقيب عن مكامن الطاقة والغاز في شرق المتوسط في مرحلة لاحقة. لذلك تسعى تركيا من خلال امتلاك تأثير داخل لبنان إلى الحصول على أوراق مساومة مع القوى الدولية والإقليمية التي يمثل لبنان بالنسبة لها أهمية كبيرة.