برزت الكثير من المؤشرات على سعي تركيا لتطوير منتجاتها من الطائرات المسيرة، حيث أعلنت شركة “بيرقدار للصناعات العسكرية” في 29 أغسطس الحالي عن تسليم الجيش التركي أول دفعة من الجيل الجديد من الطائرات المُسيرة المقاتلة، محلية الصنع، “أكنجي”. وتحاول تركيا إلى التطوير المستمر في قطاع الطائرات المسيرة لتعزيز القدرات الهجومية والدفاعية المتكاملة إضافة إلى تعظيم حضورها في سوق الصادرات التسليحية، خاصة أن المسيرات التركية نجحت في اختراق أسواق معتبرة. وتتميز الطائرة “أكنجي” بأنها أكثر تطورا من المُسيرة “يرقدار تي بي – 2″، حيث يمكنها مهاجمة أهداف في الجو وعلى الأرض، وهي تعمل جنبًا إلى جنب مع الطائرات المقاتلة، وتحلق على ارتفاع أعلى، وتبقى في الجو لفترة أطول من الطائرات بدون طيار الموجودة في تركيا. 

وفي تصريحات له عشية تدشينه المُسيّرة “اكنجي”،اعتبر الرئيس رجب طيب أردوغان “أن طائرة أكنجي سوف تضع تركيا بين ثلاث أهم دول في العالم تصنع المسيرات بمواصفات متقدمة”. وأَضافإن “من يرغب في تحريك حجر من مكانه بمنطقتنا عليه أولا الحصول على موافقة تركيا”، مُعتبرًا أنه “دون تركيا لا يمكن تحقيق السلام”.

جهود متوازية

في إطار سعيها إلى تحديث منتجاتها وترسانتها العسكرية من الطائرات المسيرة، اعتمدت أنقرة على مجموعة من الإجراءات تمكنها من ذلك، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

1- زيادة نسبة المساهمة المحلية في الصناعات الدفاعية من 20 إلى 80%. وفي ميزانية العام 2021 خصصت تركيا نحو 17,300 مليار دولار سنوياً للجيش والهيئات التابعة له. ونتيجة لهذا الانفاق الهائل على القطاع العسكري، تلقى برنامج الطائرات بدون طيار في تركيا دفعة كبيرةخلال الأعوام الثلاثة الماضية، حيث تضاعف أسطول البلاد من طائرات بيرقدار من 32 طائرة عام 2017 إلى قرابة 94 طائرة قبل نهاية عام 2019 نصفها على الأقل طائرات مسيرة مسلحة، وفي الوقت نفسه نما حجم أسطول طائرات “أنكا” إلى 30 طائرة على الأقل.

2- التطوير المستمر في برامج إنتاج الطائرات المسيرة: وفي هذا السياق، أشار سلجوق بيرقدار المدير الفني لشركة “بايكار” المصنعة للمسيرات بتاريخ 29 أغسطس الحاليإلىالسعي نحو تطوير نسخة من المسيرة “ـكنجي” لتكون قادرة على الإقلاع والهبوط العمودي من حاملة الطائرات التركية عام 2022، وتنفيذ أول إقلاع لمشروع الطائرة الحربية بدون طيار بحلول عام 2023.كما تمكنت الهيئة التركية للصناعات الجوية والفضائية من إنتاج مسيرة جديدة مسلحة تعمل بمحركين من طراز “العنقاء”، ثم أخرى أكثر تطورا من طراز “أق صونغور” القادرة على حمل قنابل بأوزان كبيرة جداً مقارنة بغيرها من المسيرات. وبالتوازي مع ذلك تعمل أنقرة على برنامج لصناعة طائرة حربية تقليدية من خلال شركة “توساش”، فيما تعمل شركة “بايكار” على برنامج منفصل لصناعة طائرة حربية بدون طيار.

3- تعزيز التعاون مع القوى الدولية والإقليمية المعنية بمكونات الطائرات المسيرة: يعتبر التعاون العسكري مع الدول الغربية من أهم المصادر التي تحصل منها تركيا على بعض المكونات الدقيقة والمحركات العسكرية التي تدخل في صناعة الطائرات المسيرة، فعلى سبيل المثال حصلت شركة صناعة الطيران التركية على ترخيص من شركة “جنرال داينمكس” الأمريكية المختصة بصناعة المسيرات الهجومية، فيما أسس سلجوق بيرقدار عام 2005 شركة “بايكار ماكينا” لتصنيع المسيرات، ليفوز فى عام 2009، بأول عقد لإنتاج وبيع مسيرة مسلحة من طراز “بيرقدار تى بى 2″، التى تم اختبارها عام 2015.

في المقابل اتجهت تركيا إلى تعزيز تعاونها مع القوى الإقليمية، وفي الصدارة منها باكستان حيث وقعت شركة الصناعات الجوية والفضائية التركية “توساش” في أغسطس الجاري اتفاق تعاون مع مجلس الهندسة والعلوم الوطني الباكستاني “نيسكوم” لتطوير الطائرة المسيرة العنقاء”. كما قامت قبل عامين بتوقيع إتفاقية مع أوكرانيا، تساعد تركيا بموجبها الثانيةعلى تطوير صناعاتها العسكرية مقابل الحصول على منتجات أوكرانيا الإلكترونية وكذلك المحركات التي تساعد أنقرة على تطوير صناعاتها في مجال الطائرات المسيرة، وبرز ذك في طراز المسيَّرة آكينشي التي تم تهجينها بمحركات أوكرانية الصنع.

دوافع محركة

هناك العديد من الأسباب التي ربما تكون قد دفعت أنقرة لوضع تصنيع الطائرات المسيرة في قلب اهتماماتها الإستراتيجية، ويمكن بيان ذلك على النحو التالي:

1- محدودية الكلفة الاقتصادية مقارنة بالأسلحة التقليدية: على الرغم من أن الدرونز- الطائرات المسيرة- تعد سلاحا فعالا على المستوى الاستراتيجي والتشغيلي إلا أنها في المقابل غير مكلفة بالمقارنة مع الأسلحة التقليدية وفي مقدمتها الطائرات النفاثة. ومع تصاعد أزمة الاقتصاد التركي، والتدهور الحادث في سعر صرف العملة التركية، وارتفاع أرصدة الديون الخارجية، تبقى الطائرات المسيرة أداة إستراتيجية يمكن من خلالها تعزيز القدرات العسكرية التركية من دون تحميل أعباء على الموازنة العامة للدولة.

2- تعظيم النفوذ في الشرق الأوسط ووسط آسيا:إن التطور التركي في قطاع الطائرات المسيرة من شأنه رفع القدرات العسكرية لتركيا ومن ثم زيادة ثقلها ونفوذها الإقليمي والدولي، وتحديداً في منطقة الشرق الأوسط ووسط آسيا، لا سيما في إطار التنافس مع دول الإقليم، أو فيما يتعلق بعلاقاتها ببعض القوى الدولية مثل فرنسا وروسيا والولايات المتحدة التي أبدت قلقها إزاء انخراط تركيا في مناطق الصراعات خلال الفترة الأخيرة، خاصةً في أذربيجان وليبيا وسوريا والعراق.

لذلك، فإنحرص أنقرة على تطوير الحضور في قطاع الطائرات المسيرة لا ينفصل عن هدفها الخاص بتعزيز نفوذها الإقليمي والدولي، وترسيخ مكانتها كقوة متنامية. لذلك اتجهت تركيا إلى استثمار قوتها في مجال الطائرات المسيرة لبسط حضورها في المناطق التي تحمل أولوية للإستراتيجية التركية، وظهر ذلك في نشر طائرات مسيرة في قبرص الشمالية في إطار تعزيز نفوذها بمنطقة شرق المتوسط بسبب توترات عديدة بين تركيا واليونان وحلفائها حول ملف التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي.

كما دعمت تركيا حلفائها في سوريا وليبيا وأذربيجان بالطائرات المسيرة، وذلك بهدف تعظيم النفوذ على الساحة الإقليمية والدولية، وظهر ذلك في إعادة الرئيس التركي في 29 أغسطس الحالي التذكير بالدور الذي لعبته المسيرات التركية في حسم كثير من المعارك في سوريا وليبيا وأذربيجان، معتبراً أن الصناعات الدفاعية “زادت من قوة تركيا وتأثيرها في المنطقة والعالم”، وقال: “من يرغب في تحريك حجر من مكانه بمنطقتنا عليه أولاً الحصول على موافقة تركيا”.

3- مساومة القوى الغربية علي القضايا الخلافية المحورية: تعتقد تركيا أن الطائرات المسيَّرة التركية يمكن أن تصبح أداة للقفز على الملفات الخلافية مع واشنطن والقوى الغربية، خاصة أن الطائرات المسيرة التركية أثبتت نجاحاً في مواجهة الأسلحة الروسية في مناطق الصراعات، وفي مقدمتها سوريا وأذربيجان. في هذا السياق تراهن تركيا من خلال توظيف طائراتها المسيرة في تقديم نفسها كشريك رئيسي في جهود الولايات المتحدة والغرب لاحتواء روسيا في أوروبا الشرقية وخارجها.وفي الأشهر الأخيرة حققت تركيا نجاحاً مفاجئاً للولايات المتحدة بعد اختراق أسواق أوروبا الشرقية الحديقة الخلفية لموسكو، وظهر ذلك في اتجاه بولندا وأوكرانيا وألبانيا إضافة إلى المجر وبيلاروسيا ولاتفيا نحو توقيع عقود مع أنقرة لشراء المسيرات التركية من طراز “بيرقدار” و”العنقاء”.

4- إثبات الجدارة في سوق صادرات الأسلحة العالمية: أثبتت المسيرات التركية جدارتها في العديد من ساحات القتال، كما تحولت إلى واحدة من أهم منتجي المسيرات المسلحة البارزين مثل الولايات المتحدة وإسرائيل والصين في فترة قصيرة أقل من 10 أعوام، وهو الأمر الذي وفر بيئة مواتية لتعزيز صادرات تركيا من السلاح.ورغم أن صادرات تركيا من الأسلحة تصل بالكاد إلى ما يقرب من 1% من حجم صادرات الأسلحة العالمية، إلا أن النجاحات التركية في قطاع الدرونز ساهم في زيادة حصتها التصديرية من السلاح. ويبدو أن الدرونز بمختلف أنواعها سوف تواصل لعب دور رأس الحربة في هذه الجهود، ويؤكد ذلك تصريحات الرئيس التركي عشية إدخال طائرات أكنجي للخدمة العسكرية، حيث قال “قمنا بتصدير المسيرة بيرقدار تي بي 2 إلى أوكرانيا وقطر وأذربيجان، وتم إبرام اتفاقيات تصدير جديدة.. مصممون على الارتقاء بتركيا إلى مصاف الدول الرائدة في تكنولوجيا الطائرات الحربية بدون طيار”، وتابع “العديد من الدول تنتظر دورها للحصول على الطائرات المسيرة التركية”.

توظيف مزدوج

في الختام، تكشف المعطيات الراهنة أن تُواصِل تركيا تطوير قدراتها في قطاع الطائرات المسيرة، ليس فقط بغرض تحديث ترسانتها العسكرية، لكن بهدف توظيف نجاحاتها في هذا القطاع لبسط نفوذها الإقليمي والدولي من جهة، وتعظيم صادراتها العسكرية من جهة أخرى.