دبلوماسية الطاقة:
لماذا تسعى تركيا إلى التحول لمركز عالمي لنقل الغاز؟

دبلوماسية الطاقة:

لماذا تسعى تركيا إلى التحول لمركز عالمي لنقل الغاز؟



تبذل تركيا جهوداً حثيثة في المرحلة الحالية من أجل تطوير بنيتها التحتية للطاقة، بهدف إقامة مركز عالمي لنقل الغاز إلى أوروبا، ومناطق أخرى من العالم. وفي هذا السياق، أكد وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار عشية منتدى الأعمال التركي العالمي، الذي انطلق في 15 سبتمبر الجاري بمدينة اسطنبول، أن بلاده تعتزم التحول إلى محور مهم لنقل الطاقة، في الوقت الذي تضع فيه أساس مشروع لتبادل الغاز سيمكّن دول جنوب شرقي أوروبا من الحصول عليه.

وفي سياق هذه الجهود، اتجهت تركيا على مدار الأشهر الأخيرة إلى توسيع نطاق التفاهمات مع الدول المنتجة لمصادر الطاقة بغرض تصدير إنتاجها من الغاز للدول الأوروبية عبر أراضيها، هذا في الوقت الذي تواجه فيه الأخيرة إشكالية ملحة في نقص الطاقة بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية، والعقوبات الغربية التي فرضت على قطاع الطاقة الروسي، في حين أن تركيا تقوم بدور الوسيط في الأزمة الأوكرانية، بما قد يمكّنها من تحقيق أهدافها في أن تصبح مركزاً إقليمياً لتصدير الغاز الطبيعي، ويساندها في ذلك تحسين علاقاتها السياسية والاقتصادية مع بعض دول الإقليم. لكن رغم نجاح بعض جهودها في هذا الشأن، فإن خططها للتحول إلى مركز لتصدير الغاز ربما تصطدم بعراقيل عدة جيوسياسية واقتصادية وأمنية لا يمكن تجاهلها.

دوافع رئيسية

ثمة العديد من الاعتبارات التي تقف خلف محاولات حكومة حزب العدالة والتنمية لتحويل البلاد إلى مركز عالمي لنقل الغاز، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1- التداعيات المحتملة لتأسيس الممر الدولي: أثار إعلانُ الرئيس الأمريكي جو بايدن عشية قمة العشرين التي عُقدت بمدينة نيودلهي الهندية في 9 سبتمبر الجاري، عن الاتجاه نحو تأسيس الممر الاقتصادي الذي يربط بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، انزعاجاً تركياً، بسبب ما اعتبرته اتجاهات عديدة بمثابة استبعاد لأنقرة من هذا المشروع، على نحو دفع الرئيس رجب طيب أردوغان، في 11 سبتمبر الجاري، إلى تأكيد أن “الخط الأكثر ملاءمة لحركة المرور من الشرق إلى الغرب هو الخط العابر من تركيا”. من هنا، يمكن فهم مساعي أنقرة لجهة التحول إلى مركز عالمي لنقل الغاز، وذلك لتحييد التأثيرات المحتملة لهذا الممر حال تنفيذه دون تركيا. وقد انعكس ذلك أيضاً في تصريحات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في 16 من الشهر نفسه، والتي قال فيها أن “ممرات الطاقة والنقل لا يمكن أن تكون فعالة ومستدامة في المنطقة دون مشاركة تركيا”.

2- تراجع فرص بناء خط “إيست ميد”: تُشير بعض التقديرات إلى تراجع فرص بناء خط أنبوب الغاز “إيست ميد”، رغم أنه كان أحد الخيارات المقترحة لتقليص حدة التداعيات التي فرضتها أزمة الطاقة التي تعاني منها أوروبا بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية. ويرتبط تراجع فرص مشروع “إيست ميد” في جانب معتبر منه باستمرار التوترات الكامنة تحت السطح بين تركيا وإسرائيل. فرغم التقارب الأخير بينهما، إلا أن ثمة العديد من القضايا الشائكة بين البلدين، والتي تكرس غياب حالة الثقة الكاملة بينهما. كما أن هناك تحديات جمة تواجه هذا المشروع، فبالإضافة إلى الكلفة الاقتصادية، فإنه سوف يعبر المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص التي تربطها علاقات متوترة مع أنقرة.

3- ارتفاع الطلب الإقليمي على الغاز: أصبح الغاز الطبيعي عنصراً رئيسياً في قطاعات متنوعة في أوروبا ودول عديدة في الشرق الأوسط، وهو ما أدى إلى كثافة استهلاكه بصورة لافتة. وفي الوقت الذي تزداد فيه احتياجات قطاعي الكهرباء والصناعة في أوروبا من الغاز الطبيعي، فإن الارتدادات التي فرضتها الأزمة الأوكرانية قد تزيد الطلب الأوروبي على تلبية احتياجاته من مصادر بديلة من الغاز، والتي يقع معظمها قرب تركيا، وهو ما يفسر حرص تركيا على تعزيز جهودها لإقامة مركز عالمي لتوزيع الغاز على أراضيها.

4- توظيف البنية التحتية التركية: لا تنفصل الجهود التركية لإقامة مركز عالمي لنقل الغاز إلى أوروبا، والتي تفتقر إلى مصادر الطاقة، عن سعيها للاستفادة من شبكة البنية التحتية التي أنشأتها خلال السنوات الماضية لتحقيق هذا الهدف. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار قال، في 15 سبتمبر الجاري، أن بلاده تعتزم توسيع بنيتها التحتية للغاز لتسهيل نقل صادرات الدول المنتجة للغاز. وهنا، فإن بعض الدول أبدت حرصها بالفعل على التعاون مع تركيا في مجال تصدير إنتاجها من الغاز.

5- دعم مشروع التنمية الاقتصادية: يأتي طرح التحول إلى مركز عالمي للغاز في الوقت الذي تسعى تركيا لأن تكون مركزاً حيوياً للنقل عبر مشروع “طريق التنمية” الذي يربط الطريق البري والحديدي الممتد من العراق إلى تركيا، مروراً بعدد من دول الإقليم، وصولاً إلى الدول الأوروبية. ولذلك، يأتي الإعلان عن مساعي تركيا لإقامة مركز عالمي للغاز في إطار إعادة تموضعها على خريطة التجارة والنقل العالمي المتعلق بقطاع الطاقة، فضلاً عن سعيها لممارسة دور إقليمي بارز خلال الفترة الأخيرة.

تحديات محتملة

تُواجه تركيا عدداً من التحديات التي ربما تحول دون إقامة مركز عالمي للغاز، في الصدارة منها التهديدات الجيوسياسية، حيث يواجه نقل غاز دول الإقليم إلى أوروبا صعوبات تنفيذية لا تبدو هينة، نتيجة لرفض بعض القوى السياسية في هذه الدول لمثل هذه الصفقات على غرار العراق مثلاً، حيث تعارض التيارات الشيعية توسيع العلاقات مع تركيا.

وبالتوازي مع ذلك، فإن الخلافات المركبة والمعقدة بين تركيا وبعض دول الإقليم المنتجة للطاقة، واستمرار الشكوك حيال توجهات السياسة الخارجية التركية في المنطقة خاصة إزاء الملفات الإقليمية التي تحظى باهتمام خاص من جانب تلك الدول، تمثل بدورها تحدياً إضافياً أمام تحول تركيا إلى مركز عالمي للغاز.

وعلى صعيد متصل، فإن حالة الشد والجذب التي طرأت على العلاقات مع روسيا قد تمثل بدورها تحدياً مهماً، إذ إن روسيا التي تعد أكبر منتج للغاز الطبيعي في العالم وجّهت انتقادات حادة للسياسة التركية خلال الفترة الأخيرة، خاصة بعد إمداد أوكرانيا بعدد من الطائرات التركية المسيرة التي تستخدمها في نزاعها مع الأولى، بالإضافة إلى إدانة تركيا للتدخل العسكري الروسي في أوكرانيا. كما تزايدت مساحات التوتر بين البلدين على خلفية موافقة تركيا على انضمام السويد وفنلندا إلى حلف “الناتو” وترحيبها بجهود أوكرانيا للانضمام إلى الأخير.