دوافع أمنية:
لماذا تسعى الجزائر إلى التوسط في الأزمة التونسية؟

دوافع أمنية:

لماذا تسعى الجزائر إلى التوسط في الأزمة التونسية؟



في محاولة للانخراط في الأزمة التي ظهرت مؤخراً بين الرئيس التونسي قيس سعيّد، والاتحاد العام التونسي للشغل؛ قام الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون بتوجيه الدعوة إلى الرئيس التونسي للمشاركة في احتفالات الجزائر بـ”عيد الاستقلال”، في 5 يوليو الجاري، وقد تزامنت دعوة الرئيس سعيّد مع دعوة رسمية إلى الأمين العام لاتحاد الشغل نور الدين الطبوبي. ورغم أن بيان الرئاسة الجزائرية لم يذكر فحوى اللقاء الذي جمع الرئيس تبون بالطبوبي، في 6 يوليو الجاري، واكتفى بالإشارة إلى أن مراسم الاستقبال جرت بحضور كل من الأمين العام للاتحاد العام للعمال الجزائريين سليم لبطاشة، بالإضافة إلى مدير ديوان رئاسة الجمهورية عبدالعزيز خلف؛ إلا أن الواضح هو ارتباط اللقاء بالأزمة السياسية التي تواجهها تونس، ورغبة الرئيس الجزائري في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء، ومحاولة القيام بـ”وساطة” لتسويتها.

تحركات متعددة

محاولة الوساطة الجزائرية تبدو بشكل لافت من خلال تصريحات الرئيس تبون خلال وداع الرئيس سعيّد، التي قال فيها: “أتمنى كل الخير للأشقاء في تونس، وأتمنى أن يلقى الدستور المقبل إقبالاً كبيراً من التونسيين”. وقد انعكس الموقف الجزائري الرسمي تجاه الأزمة السياسية الممتدة في تونس، في بعض التحركات التي يتمثل أهمها في:

1- الدخول على خط التفاعلات السياسية: بعد إعلان الرئيس التونسي قيس سعيّد قرارات 25 يوليو 2021، وما تلاها من إجراءات شملت تجميد البرلمان، ورفع الحصانة عن أعضائه، وغيرها؛ سارعت الجزائر إلى الاقتراب مما يحدث على الساحة التونسية. وقد تبدى ذلك في الاتصالات التي تمت بين الرئيسين تبون وسعيّد، إضافة إلى الزيارات المتكررة لوزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة إلى تونس.

هذه السرعة التي اعتمدتها الجزائر في نشاطها الدبلوماسي وتحركها تجاه الجارة تونس، تعكس مدى الاهتمام الذي توليه لها، لعدة اعتبارات أهمها الروابط التاريخية، فضلاً عن مكانة تونس المحورية في السياسة الخارجية للجزائر، حيث تُعد الخاصرة الآمنة والمنفذ المستقر في ظل محيط إقليمي مضطرب على كافة الأصعدة.

وما التحرك الجزائري في استضافة الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل، في الوقت الذي تمت فيه دعوة الرئيس قيس سعيّد لزيارة الجزائر، إلا محاولة للدخول على خط التفاعلات السياسية الجارية على الساحة التونسية.

2- تقديم مساعدات للاقتصاد التونسي: اتخذت الجزائر خطوات عديدة لدعم الاقتصاد التونسي، على غرار منح قروض من دون فوائد، وتقديم مساعدات لوجستية في مجالات التدريب ومحاربة الإرهاب، وكذلك مساعدات صحية لمواجهة فيروس كورونا، فضلاً عن ملف الغاز والتوافد السياحي من الجزائر إلى تونس.

وفيما يتعلق بالملف الأخير، يأتي قرار الجزائر، في 6 يوليو الجاري، بإعادة فتح الحدود البرية مع تونس، بعد أكثر من عامين على إغلاقها، منذ مارس 2020. وبحسب بيان الرئاسة الجزائرية، فإن الرئيس تبون قرر استئناف فتح الحدود البرية أمام المسافرين بين الجزائر وتونس.

3- مراعاة تأثير الأحزاب الإسلامية بالجزائر: يؤشر السعى الجاد من الجانب الجزائري للدخول على خط الأزمة السياسية في تونس، ونشاط الدبلوماسية الجزائرية في هذا المجال بشكل واضح؛ إلى احتمال أن تكون هناك ضغوط من إخوان الجزائر على الرئيس تبون، الذي أتاح المجال أمام الأحزاب السياسية الإسلامية للمشاركة في العملية السياسية وتحقيق نتائج إيجابية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، للضغط على الرئيس التونسي بشأن تسوية الأزمة مع حركة النهضة، أو في الحد الأدنى تخفيف الضغوط عليها، والعفو عن أعضائها ومنع تقديمهم إلى المحاكمة.

محددات رئيسية

عبر هذه التفاعلات، وفي إطار الاهتمام بما يجري على الساحة التونسية، تنطلق الرؤية الرسمية الجزائرية من عددٍ من المحددات التي يمكن تناولها على النحو التالي:

1- محاولة تجنب مقاطعة الاستفتاء: منذ أن نشر الرئيس قيس سعيّد، في أوائل يوليو الجاري، مشروع دستور جديد لتونس في الجريدة الرسمية (يتكون من عشرة أبواب، ومائة واثنين وأربعين فصلاً)، حدث انقسام واسع في الساحة السياسية، بين داعٍ لتمريره باعتباره فرصة لإصلاح الوضع التونسي، وبين مُطالب بمقاطعة الاستفتاء لإسقاط هذا المشروع الجديد.

وكان الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يُعتبر أكبر منظمة نقابية في تونس، قد أعلن أن مشروع الدستور الجديد، الذي سيُطرح للاستفتاء، يتضمن صلاحيات واسعة للرئيس وتحجيماً لباقي هيئات وهياكل الدولة؛ الأمر الذي رفضه الاتحاد، وانسحب من الحوار الذي دعا إليه الرئيس.

لكن بعد التزامن الحاصل في زيارة كل من سعيّد والطبوبي إلى الجزائر، واجتماع الرئيس تبون بكل منهما، حدث تغير مهم في موقف اتحاد الشغل؛ حيث قررت الهيئة الإدارية للاتحاد “عدم مقاطعة الاستفتاء”، وترك حرية المشاركة والاختيار والتصويت على مشروع الدستور الجديد للقواعد النقابية.

2- القلق من انفلات الأوضاع في تونس: وهو ما يمكن رصده عبر عدد من المؤشرات التي تعكس الاهتمام الجزائري غير المسبوق بالوضع على الساحة التونسية، ففضلاً عن محاولة الوساطة بين الرئيس سعيّد واتحاد الشغل، قام وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة بزيارات متعددة إلى تونس؛ بما يعني أن الجزائر تخشى من أي أوضاع غير مستقرة في تونس يمكن أن تنعكس سلباً على الداخل الجزائري.

فضلاً عن ذلك، تبدي الجزائر قلقاً من أية احتمالات مرتبطة بإمكانية استغلال بعض التنظيمات الإرهابية الأوضاع السياسية غير المستقرة في تونس، والتسلل إليها من ليبيا، وبالتالي التأثير سلباً على الأمن القومي الجزائري، خاصة مع دعوات بعض المليشيات المسلحة التابعة لإخوان ليبيا، والتي تتمركز في الغرب الليبي، إلى التعبئة والاستعداد للتحرك إلى تونس.

3- تصعيد التنافس مع المغرب: فالجزائر ترغب في الحفاظ على التقارب مع تونس في مواجهة خلافاتها المستمرة مع المغرب، في عدد من القضايا، وفي مقدمتها القضايا الإقليمية. مثل هذا التقارب التونسي-الجزائري يمكن ملاحظته في الآونة الأخيرة من خلال مشاركة الرئيس التونسي في الاحتفال الجزائري بـ”عيد الاستقلال”، فضلاً عن محاولة الجزائر القيام بدور الوسيط بين الرئيس سعيّد والأمين العام لاتحاد الشغل التونسي.

وفي المقابل، يهيمن “الصمت السياسي” على العلاقات التونسية-المغربية، وهو الصمت الذي يتصل بإشكالية “الجمود الدبلوماسي” بين البلدين في السنوات الأخيرة. ورغم الأزمة المتصاعدة بين الأطراف السياسية التونسية، لم تشهد تونس إلا زيارة وحيدة من وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، حمل خلالها رسالة من الملك المغربي محمد السادس، لتأكيد التضامن المغربي مع تطلعات الشعب التونسي نحو الاستقرار.

4- تنشيط الدور الإقليمي للجزائر: أسهمت التحولات الراهنة التي طرأت على دول الجوار الإقليمي للجزائر، في تعرض دوائرها الجيوسياسية لتحديات أمنية، أهمها تلك التي تتمثل في تنامي التهديدات المرتبطة بالإرهاب، والجريمة المنظمة، وانتشار الأسلحة، إلى جانب انهيار الدولة في ليبيا، وصعوبة إعادة الاستقرار إلى مالي، وطول المرحلة الانتقالية في تونس؛ فضلاً عن قضية الصحراء الغربية، والمشكلات المثارة مع المغرب بشأنها، مع تزايد الوجود العسكري الأجنبي في الساحل الأفريقي.

وبالتالي، تجد الجزائر نفسها مرتبطة أمنياً بعدة دوائر إقليمية غير مستقرة؛ بما يعني إمكانية تعرضها لعدد من المخاطر التي من شأنها أن تهدد استقرارها وأمنها القومي. ومن هنا، يأتي الاهتمام بالساحة التونسية، ومحاولات دفع هذه الساحة إلى الاستقرار، وعدم تطور الأوضاع هناك إلى درجة الانفلات الأمني.

خيار واضح

في هذا السياق، يمكن القول إن الاهتمام الجزائري المتصاعد بالأزمة السياسية في تونس يهدف إلى تحقيق العديد من الأهداف السياسية التي تحمل طابعاً استراتيجياً، أمنياً بالخصوص، ولا سيما في ظل التحركات التي يمكن ملاحظتها للتنظيمات الإرهابية في المنطقة؛ وهو الأمر الذي يفرض على الإدارة الجزائرية ضرورة مراقبة أوضاع الساحة في تونس في ظل الأزمة التي تعانيها.

ومن هنا، فإن الجزائر في الوقت الذي تراقب فيه بحذر هذه الأوضاع، فإنها في الوقت نفسه ستقف بالتأكيد مع الأطراف التي يمكن أن تحفظ مصالحها، وهي السلطة الحاكمة برئاسة قيس سعيّد، والجيش التونسي، ولو بطريقة غير مباشرة، ربما لعدم استثارة مواقف الأحزاب الإسلامية في الجزائر، أو تأكيداً منها على مبدأ “عدم التدخل” في الشئون الداخلية للدول، أو كليهما معاً.