أبعاد إثنية:
لماذا تزداد احتمالات توتر العلاقات السودانية التشادية؟

أبعاد إثنية:

لماذا تزداد احتمالات توتر العلاقات السودانية التشادية؟



تشهد العلاقات السودانية التشادية في الوقت الراهن توتراً متصاعداً، ومن المؤشرات الدالة على ذلك إصدار الجيش التشادي بياناً في 6 أغسطس 2022، اتهم فيه سودانيين باختراق الحدود التشادية وارتكاب أعمال عنف ونهب لرؤوس من الإبل (5 إبل)، مما أسفر عن مقتل 9 مواطنين تشاديين وإصابة 22 آخرين، وكذلك مقتل 18 من الرعاة السودانيين وإصابة 17 آخرين بولاية غرب دارفور أثناء ملاحقتهم من المواطنين التشاديين (مُلاك الماشية المنهوبة). وفي المقابل، أعلن الجانب السوداني مقتل 18 شخصاً من البدو السودانيين في ولاية غرب دارفور، إثر هجومين منفصلين شنتهما جماعات تشادية في منطقتي “بئر سليبة” و”عرديبة” التابعتين لمحلية “سربا” الواقعة على بعد 60 كم شمال مدينة “الجنينة” عاصمة غرب دارفور. وقد أثارت هذه العمليات غضباً شعبياً واسعاً داخل ولاية غرب دارفور، حيث أعلنت القبائل العربية هناك حشد أنصارها استعداداً للانتقام من التشاديين، في مؤشر على توتر متصاعد على الحدود السودانية التشادية المشتركة.

تدابير سريعة

سارع مجلس السيادة الانتقالي برئاسة الفريق أول ركن “عبد الفتاح البرهان” لاتخاذ مجموعة من الإجراءات، من أبرزها ما يلي:

1- عقد اجتماع عسكري طارئ، حيث قرر مجلس الأمن والدفاع السوداني عقد اجتماع طارئ برئاسة الفريق “عبد الفتاح البرهان” رئيس مجلس السيادة الانتقالي وقائد الجيش، وبمشاركة لجنة أمن ولاية غرب دارفور، ونائب رئيس مجلس السيادة “محمد حمدان دقلو” (المتواجد في “الجنينة” منذ أسابيع)، وأسفر الاجتماع عن الموافقة على ضرورة اتخاذ تدابير أمنية سريعة لمنع تطور الأحداث، وشملت هذه التدابير مواصلة الجهود السياسية والدبلوماسية لاحتواء الموقف، وحث الجانب التشادي على ملاحقة المجرمين واسترداد المال المسروق بأسرع ما يمكن، وتطبيق الإجراءات الرسمية على كافة التحركات بمثل ما هو معمول به لدى الجانب التشادي.

2- إرسال تعزيزات عسكرية، سارع الجانب السوداني لإرسال تعزيزات عسكرية مكثفة من قوات الدعم السريع والجيش إلى ولاية غرب دارفور لمنع تطور الأوضاع الأمنية غير المستقرة هناك، كما تم الاتفاق مع الجانب التشادي على إرسال وفد عسكري مشترك من الدولتين إلى المناطق التي شهدت أعمال العنف والسرقة في ولاية غرب دارفور، للوقوف على الأسباب الحقيقية وراء هذا الحادث، ومنع تكراره مستقبلاً.

3- اتخاذ إجراءات دبلوماسية، حيث قامت وزارة الخارجية السودانية باستدعاء السفير التشادي لدى الخرطوم، لإبلاغه بإدانة الهجوم الذي قامت به بعض المليشيات التشادية ضد البدو الرحل السودانيين وسرقتهم مئات “الإبل” في ولاية غرب دارفور، والاحتجاج السوداني الرسمي على مثل هذه الأفعال التي من شأنها إثارة الاضطرابات الأمنية والقبلية في المناطق الحدودية المشتركة. وفي هذا الإطار، طالب وزير الخارجية السوداني “علي الصادق” السفير التشادي بإبلاغ حكومته بضرورة إلقاء القبض على المتورطين في هذا الحادث، وإعادة المسروقات إلى المواطنين السودانيين في غرب دارفور.

4- تفعيل القوة العسكرية المشتركة، أكد مجلس الأمن والدفاع السوداني في اجتماعه الطارئ، على ضرورة تعزيز قدرات ودور القوات المشتركة السودانية التشادية وضبط التحركات على الحدود بين البلدين بما في ذلك تحركات الرعاة، علاوة على مراقبة الأنشطة المختلفة وتطبيق الإجراءات الرسمية على كافة التحركات. وتعول السودان وتشاد على هذه القوات المشتركة لحماية الحدود، وهو ما أكد عليه الجنرال “حميدتي” بأن الاعتداءات المتكررة من قبل المليشيات التشادية المسلحة هي مسؤولية القوات العسكرية المشتركة.

احتواء تشادي

تَمَثَّل الموقف التشادي بالتنوع ما بين نفي ارتكاب المليشيات التشادية هذه الأحداث، ومحاولة تهدئة واحتواء رد الفعل السوداني، منعاً لمزيد من التصعيد والتأثير سلباً على العلاقات الثنائية بين الدولتين، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

1- نفي الاتهامات الرسمية، ادعت تشاد أن البدو الرحل السودانيين هم من قاموا بالتسلل للحدود التشادية والقيام بأعمال نهب للماشية، وهو ما أدى إلى اندلاع الاشتباكات المسلحة بين المكونات القبلية والإثنية المتمركزة في المناطق الحدودية المشتركة بالقرب من ولاية غرب دارفور، وهو ما ظهر في البيان الصادر عن الجيش التشادي، وذلك في محاولة لتفنيد الاتهامات السودانية الموجهة للجانب التشادي في هذا الشأن.

2- احتواء دبلوماسي للموقف السوداني، سارعت تشاد إلى التهدئة واحتواء الموقف السوداني، وهو ما عكسته تصريحات “عبد الكريم كبيرو” السفير التشادي لدى الخرطوم، والتي أشار فيها إلى أن بلاده لن تدخر وسعاً للحفاظ على العلاقات القائمة مع السودان، بل والعمل على تطويرها بما يخدم الأمن والسلام والاستقرار على جانبي الدولتين، معلناً التزام بلاده بعدم السماح بتكرار مثل هذه الأحداث مرة أخرى، انطلاقاً من الحفاظ على العلاقات السودانية التشادية المميزة. ويحمل ذلك مؤشراً على عدم رغبة تشاد في التصعيد ضد الجانب السوداني، واحتواء الوضع الراهن.

3- مسؤولية السياسيين عن هذه الأحداث، اتهم المتحدث الإعلامي باسم القوات المشتركة من الجانب التشادي “الباقر أحمد إدريس” بعض السياسيين داخل ولاية غرب دارفور بنشر خطاب الكراهية والتمييز ضد القوات المشتركة، وإلقاء الاتهامات بالانحياز إلى بعض المكونات الإثنية دون تقديم أدلة واضحة على ذلك، وهو ما ساهم في تأجيج الأوضاع الأمنية في المناطق الحدودية المشتركة والمكلف بتأمينها القوات السودانية التشادية المشتركة، الأمر الذي من شأنه زعزعة الاستقرار الأمني على الحدود المشتركة بين السودان وتشاد.

دلالات هامة

حملت أحداث العنف التي شهدتها ولاية غرب دارفور بين البدو الرحل السودانيين وبعض المواطنين التشاديين، عدداً من الدلالات السياسية والأمنية الهامة، ومن أبرزها ما يلي:

1- تزامن التوقيت مع زيارة حميدتي لتشاد، حيث وقعت هذه الأحداث مباشرة عقب انتهاء زيارة الفريق أول ركن “محمد حمدان دقلو” نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني للعاصمة التشادية “إنجمينا” ولقائه مع رئيس المجلس العسكري التشادي “محمد إدريس ديبي” على رأس وفد أمني للبحث والتشاور في عدد من القضايا الهامة وعلى رأسها أمن الحدود، وأيضاً انتهاء زيارة وزير الدفاع التشادي “داؤود” للعاصمة السودانية الخرطوم واجتماعه مع الفريق “البرهان” لمناقشة سبل تعزيز العلاقات السودانية التشادية المشتركة، مع التركيز على مجال الدفاع وتأمين الحدود المشتركة بين الدولتين، وعقد مؤتمر لتقييم الوضع الراهن للقوة العسكرية المشتركة بغرض تطويرها، خاصة وأن الحدود المشتركة تشهد انتهاكات متكررة من قبل بعض المليشيات التشادية المسلحة التي اعتادت شن هجمات بغرض سرقة البدو الرحل وما يرتبط بذلك من عمليات نهب وقتل للسودانيين القاطنين هناك.

2- ضعف القوة العسكرية المشتركة، تُشير الأحداث التي وقعت في ولاية غرب دارفور إلى الضعف الذي تتسم به القوة العسكرية المشتركة بين السودان وتشاد والتي يرجع تاريخ تشكيلها إلى عام 2010 بغرض تأمين الحدود المشتركة بين السودان وتشاد، والتي انتقلت رئاستها حالياً إلى السودان في 3 أغسطس الجاري، إلا أن هذا الحادث يؤكد على عدم قدرتها على القيام بمهامها المنوطة لها، خاصة وأن هناك اتهامات لهذه القوات من قبل “التنسيقية العليا لأبناء الرحل” في غرب دارفور، بانحيازها الكامل لبعض الإثنيات (دون تحديد لها) وتوفيرها الحماية للمليشيات المسلحة العابرة للحدود المشتركة بين الدولتين، ويحمل ذلك مؤشراً هاماً على غلبة الانتماءات الإثنية والعرقية على منتسبي هذه القوة العسكرية المشتركة، بشكل يؤثر سلباً على القيام بدورها في منع اندلاع الصراعات الإثنية والعرقية والقبلية في تلك المناطق الحدودية، بل على العكس من ذلك فإن هذه الاتهامات تشير إلى احتمال تورط بعض أفراد هذه القوات في دعم بعض الأطراف ضد بعضها، بما يؤدي إلى تأجيج هذه الصراعات والاشتباكات الإثنية.

3- انشغال السلطات الانتقالية بالصراعات السياسية، إذ يعكس الحادث الذي شهدته ولاية غرب دارفور، مدى انشغال السلطات الانتقالية السودانية بالصراعات السياسية في العاصمة الخرطوم، حيث يسخر الجيش السوداني كافة إمكانياته ويحشد قواته بغرض قمع الاحتجاجات الشعبية المتواصلة في العاصمة الخرطوم، وترك الولايات الحدودية مثل دارفور القريبة من تشاد، دون تأمين كافٍ لمنع تسلل أية عناصر تشادية إلى داخل دارفور، خاصة وأن تشاد لها دور كبير في تهريب السلاح والمعدات العسكرية إلى الفصائل والجماعات المسلحة داخل إقليم دارفور، وهو أحد الأسباب الرئيسية لتجدد الصراعات القبلية والعرقية داخل السودان. وفي المقابل، يمكن القول أيضاً إن السلطات الانتقالية التشادية هي الأخرى منشغلة تماماً بمحاولات تثبيت أركانها على رأس السلطة في تشاد دون الاهتمام بتأمين الحدود المشتركة، سواء مع السودان أو مع ليبيا، وهو سبب رئيسي لاندلاع مثل هذه الاشتباكات المسلحة على الحدود المشتركة.

4- علاقات متأرجحة بين السودان وتشاد، تعكس الأحداث الإثنية والقبلية المسلحة التي تقع بين حين وآخر على الحدود السودانية التشادية المشتركة، طبيعة العلاقات السائدة بين السودان وتشاد، فمنذ عهد الرئيس المعزول “عمر البشير” وحتى الوقت الحالي تتأثر العلاقات الثنائية بين الدولتين بعلاقة المكونات القبلية المتمركزة على الحدود، فإذا اتسمت العلاقات السودانية التشادية بالتعاون فإن ذلك يعني أن هناك حالة من التعايش السلمي بين القبائل، والعكس صحيح، ويرجع ذلك إلى التداخل الحاصل بين القبائل القاطنة تلك المناطق الحدودية مثل قبيلة “الزغاوة” التي ينتمي إليها الرئيس التشادي الراحل “إدريس ديبي” وتنتمي إليها حركات “العدل والمساواة” وحركة “جيش تحرير السودان” بزعامة “عبدالواحد نور” في دارفور، هذا إلى جانب الصراعات التي قد تقع بين المكونات القبلية العربية والإفريقية على الموارد الطبيعية المحدودة (الأراضي الزراعية، مياه الشرب والرعي…)، ومدى قدرة المليشيات المسلحة على اختراق الحدود المشتركة.

احتواء الاشتباكات

خلاصة القول، إنّ المعطيات الراهنة ترجح عدم اتجاه الأوضاع الأمنية غير المستقرة في المناطق الحدودية المشتركة بين السودان وتشاد نحو مزيدٍ من التصعيد، خاصة وأن الخرطوم وأنجامينا حريصتان على احتواء الاشتباكات الإثنية المسلحة المتكررة، كما أنّ الطرفين قاما بإرسال تعزيزات عسكرية مكثفة لمنع أية تطورات أمنية محتملة. ورغم ذلك تبقى هذه الاشتباكات الإثنية والعرقية المسلحة مرشحة للتكرار بسبب عدم تقديم حلول جذرية لأسباب تجددها.