حددت الحكومة الباكستانية مطلع نوفمبر الجاري موعداً أخيراً لعودة اللاجئين الأفغان غير المُسجَّلين رسمياً إلى بلادهم طواعية، ومع انتهاء المهلة المُحددة زادت حدة التوترات بين الجارتين الإقليميتين على وقع زيادة وتيرة عمليات الترحيل القسري. ويفرض التوجه الباكستاني الصارم تجاه اللاجئين الأفغان عدة تساؤلات حول الأسباب التي تقف خلف القرار، وتوقيت إعلانه، ونتائجه المترتبة على علاقة البلدين أو على العائدين أنفسهم، فلطالما كانت إسلام أباد حاضنة للاجئين الأفغان منذ رحيلهم من البلاد إبان التدخل السوفيتي في عام 1979 وما تبعه من صراعات وإرهاب خلال فترة الحكم الأولى لطالبان (1996-2001) أو الثانية (2021 وحتى الآن).
وبالتالي، فإن تحول سياسة باكستان تجاه لاجئي أفغانستان بالتوازي مع ارتفاع حدة الخطاب الرسمي بين البلدين قد يُعرِّض المنطقة لاختبار جديد في ظل ظروف مضطربة أمنياً وسياسياً، مما سيؤثر بدوره على الاستثمارات والمشروعات الكبرى فيها.
سياقات مُحفِّزة
يمكن القول إن القرار الذي اتخذته إسلام أباد تجاه اللاجئين الأفغان يأتي في إطار سياقات مُحفِّزة، يتمثل أبرز مؤشراتها في:
1- الأعداد المتزايدة للاجئين الأفغان: تُقدر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين (UNHCR) عدد اللاجئين الأفغان في باكستان بحوالي 1.33 مليون لاجئ يقيمون في البلاد بصورة قانونية، إلى جانب 427 ألفاً آخرين لا يحملون أوراق إقامة. بينما تُشير تقارير أخرى إلى أن ما لا يقل عن 4 ملايين لاجئ أفغاني يعيشون في باكستان بينهم نحو 1.7 مليون ليست لديهم أوراق رسمية، وهم الفئة المستهدفة في خطة الترحيل.
2- ضغوط إسلام أباد على كابول: تعاني أفغانستان بالأساس من أزمة إنسانية داخلية عقب الزلزال الذي وقع في غرب البلاد، في 10 أكتوبر الفائت. فوفقاً للبيان الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية، في 31 من الشهر نفسه، يحتاج 29 مليون أفغاني للمساعدات العاجلة، فضلاً عن وجود ما لايقل عن 3.3 ملايين مشرد داخلياً جراء الكوارث الطبيعية الأخيرة والصراعات المسلحة، مما يجعل القرار الباكستاني يشكل تحدياً صعباً لحكومة “طالبان”، ويزيد من الأعباء المفروضة عليها وبالأخص مع دخول فصل الشتاء.
3- محاولات “طالبان” حشد الرأي العالمي ضد باكستان: سعت حركة “طالبان” إلى توظيف أدواتها الإعلامية لتسليط الضوء على مناشدات الهيئات الدولية بخطورة الوضع الإنساني في المخيمات إلى جانب مخالفة القرار -وفقاً لها- لمبدأ القانون الدولي المتعلق بعدم الإعادة القسرية للاجئين، فضلاً عن التركيز على بيان الخارجية الأمريكية حول أزمة اللاجئين الأفغان.
إذ تحاول حكومة “طالبان” تكوين صورة إعلامية عن وجود رفض دولي لقرار باكستان، إلى جانب الترويج للاستيلاء على ممتلكات العائدين ومدخراتهم، في محاولة لممارسة ضغوط مضادة على حكومة إسلام أباد.
دوافع مختلفة
تتمثل أبرز الأسباب المحتملة التي دفعت إسلام أباد للترحيل المفاجئ للاجئين الأفغان فيما يلي:
1- تغيُّر النهج السياسي عقب رحيل عمران خان: ساهمت الإطاحة بعمران خان من السلطة بعد تصويت البرلمان لسحب الثقة منه في 10 أبريل 2022، وتولي حكومات مؤقتة ذات علاقات جيدة بالمؤسسة العسكرية التي تتبنى بدورها استراتيجية خاصة في التعامل مع التنظيمات الإرهابية، في حدوث تحول في العلاقات بين إسلام أباد و”طالبان”، بدا لافتاً في اتساع نطاق الخلافات، ولا سيما حول التعامل مع ملف “طالبان باكستان”.
فخلال الحقبة الوزارية لخان تم توقيع اتفاق للهدنة بين الحكومة الباكستانية وحركة “طالبان باكستان” (TTP) برعاية “طالبان أفغانستان”، في 8 نوفمبر 2021، ولكن بعد رحيله بشهور قليلة أعلنت “طالبان باكستان”، في 28 نوفمبر 2022، إلغاء الهدنة الموقعة والعودة لتنفيذ هجمات ضد الدولة.
2- اتهامات إسلام أباد لكابول برعاية “طالبان باكستان”: وجّهت باكستان اتهامات عديدة لحركة “طالبان أفغانستان” بمعاونة “طالبان باكستان” في تهديد أراضيها، وتمكينها من الاستيلاء على بعض الأسلحة المتطورة التي خلّفتها القوات الأمريكية عقب الانسحاب. كما تلوّح إسلام أباد بمخالفة الحركة لبنود اتفاقية الدوحة التي تنص على عدم تحول أراضي أفغانستان إلى معسكر إرهابي يُهدد مصالح الغير، وهو ما ردت عليه الحركة بتأكيد أنها ملتزمة بالاتفاقية وأن هذه البنود تخصها وواشنطن.
وفي تهديد صريح، حذر قائد الجيش الباكستاني عاصم منير حركة “طالبان أفغانستان”، في 16 يوليو 2023، من عواقب إيواء عناصر “طالبان باكستان”، وتقديم الدعم لهم لمهاجمة الأراضي الباكستانية، وكان ذلك في أعقاب هجوم شنته “طالبان باكستان” ضد مواقع للجيش في بلوشستان. وقد شهد العام الجاري تصاعداً في العمليات المسلحة ضد المواقع العسكرية والحكومية سواء من جانب “طالبان باكستان” أو من قبل حركة “الجهاد” التي ازدادت عملياتها خلال الفترة الأخيرة.
3- التخوف من استخدام اللاجئين الأفغان لتنفيذ عمليات إرهابية: تعتمد الرواية الرسمية للحكومة الباكستانية على هذا المتغير كسبب رئيسي لقرارها بترحيل اللاجئين، إذ كشفت السلطات الأمنية أن القرار اتُّخذ بعد تورط بعض اللاجئين الأفغان في 14 من أصل 24 هجوماً انتحارياً وقع خلال العام الجاري.
4- القلق من نفوذ كابول المتنامي في المناطق القبلية: تعد تلك المناطق الواقعة بشمال غرب البلاد من أكثر الملفات الشائكة في هذا الشأن، إذ تتواجد بها أغلب عناصر الحركات الإرهابية، سواء من تنظيم “داعش” أو “القاعدة” أو “طالبان باكستان” أو حركة “الجهاد”، على نحو يفرض تهديدات مباشرة لأمن واستقرار باكستان.
وتوجه إسلام أباد اتهامات إلى كابول بتقديم الدعم للمتطرفين في هذه المنطقة الحدودية بينهما، إلى جانب عدم التعاون بالقدر الكافي لتأمين المنطقة، وذلك لعدم تحول ما فيها من متطرفين نحو تنفيذ هجمات داخل الأراضي الأفغانية نفسها، ومن ثم فهي تغض الطرف عن تنامي الإرهاب في هذه المنطقة، على نحو كان له دور في القرار الأخير الذي اتخذته إسلام أباد.
5- الأعباء الاقتصادية المتزايدة على باكستان: تواجه باكستان أزمة اقتصادية مزمنة، بدت جلية في وصول معدل التضخم إلى 27.4% على أساس سنوي، وانخفاض قيمة العملة المحلية (الروبية)، حيث تجاوز الدولار حاجز 300 روبية، مما يجعل من وجود ملايين اللاجئين عبئاً على ميزانية الدولة، وهو ما لفتت إليه مفوضية اللاجئين في تقاريرها الأخيرة حول ضرورة دعم إسلام أباد لتحمل الأعباء المفروضة عليها حيال تدفق المهاجرين.
إجراءات داعمة
تتخوف حكومة إسلام أباد والمؤسسة العسكرية من تنامي الإرهاب في المنطقة القبلية، لما تتسم به من طبيعة ديموغرافية وسياسية خاصة، إلى جانب أن دعم كابول لـ”طالبان باكستان” مع تحول نموذج “طالبان أفغانستان” ذاتها من جماعة متشددة تحمل السلاح إلى حركة حاكمة، من المحتمل أن يخلق طموحاً نحو السلطة لدى “طالبان باكستان” التي يرتبط عناصرها بعلاقات عرقية ومصاهرة مع سكان الأغلبية البشتونية في المنطقة، مما يمثل تهديداً للأمن القومي للبلاد قد يعرضها للتفتت والصراعات الأهلية.
ويفرض استمرار الهجمات الإرهابية تداعيات سلبية واسعة على الاسثمار الأجنبي في باكستان مما يعيق نموها الاقتصادي، وهو ما كان له دور في التحولات السياسية التي شهدتها البلاد، والتي توازت مع حدوث تغير في الاستراتيجيات الأمنية التي تم اتباعها لمنع تأثر البلاد واقتصادها بالاضطرابات الأمنية التي تواجهها أفغانستان.
ومن هنا، تسعى إسلام أباد للحفاظ على أمن البلاد، مستخدمة ما لديها من أدوات للضغط على كابول تجنباً لسيناريوهات تنامي الفوضى في المنطقة، أو تصدير التطرف من أجل التنافس حول الاستثمارات بالمنطقة. كما أنّ تنمية الاستثمارات في باكستان وغيرها من الدول التي تعاني من انتشار الإرهاب تحتاج لدعم مالي واستخباري وعسكري يمكنها من تقويض التطرف على أراضيها، لتحقيق الاستقرار الذي يعزز النمو الاقتصادي.