أبعاد متعددة:
لماذا تزايد اهتمام الدول العربية بمكافحة جرائم غسيل الأموال؟

أبعاد متعددة:

لماذا تزايد اهتمام الدول العربية بمكافحة جرائم غسيل الأموال؟



تزايدت المؤشرات الدالة على اهتمام العديد من الدول العربية بمكافحة جرائم غسيل الأموال، في الفترة الماضية، عبر إقرار تشريعات وطنية جديدة واستحداث آليات مؤسسية (مثل تدشين اللجان الوطنية واللجان العليا للإشراف على الاستراتيجية الوطنية لمواجهة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب) وإنشاء محاكم متخصصة، وهو ما يأتي في سياق تطوير المنظومة القانونية الوطنية لمكافحة هذه النوعية من الجرائم. وتهدف الدول العربية من ذلك إلى الحفاظ على صلابة الاقتصاديات الوطنية، والحد من تمويل العمليات الإرهابية، وتصفية نفوذ شبكات النظم السياسية السابقة، وتحسين وتيرة البت في الملفات المتعلقة بغسيل الأموال، والاستفادة من تجارب عربية في تدعيم البنية المؤسسية، ومواجهة التدخلات الإقليمية عبر أذرع داخلية، وتلبية متطلبات الالتزام الفني بالمعايير الدولية.

ومع تغذية جرائم غسيل الأموال من مصادر متعددة في الدول العربية، تعددت العوامل المفسرة لتزايد اهتمام الحكومات والبرلمانات العربية بمكافحة جرائم غسيل الأموال، وذلك على النحو التالي:

تحصين الاقتصاد

1- الحفاظ على صلابة الاقتصاديات الوطنية: يتمثل أحد التفسيرات الرئيسية للتصدي لجرائم غسيل الأموال في منع تدفق النقد الأجنبي إلى خارج البلاد، والتأثير على المركز الاقتصادي للبلاد في الخارج. ومن أبرز الإجراءات التي اتخذتها بعض الدول العربية، مؤخراً، للتصدي لجرائم غسيل الأموال، إنشاء محاكم متخصصة كالتي أنشأتها محكمة دبى في 22 أغسطس الحالي، في كل من المحكمة الجزائية الابتدائية ومحكمة الاستئناف، وهو ما سبقها إصدار مجلس الوزراء الإماراتي في ديسمبر 2020، قراراً بإنشاء المكتب التنفيذي لمواجهة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، بحيث يتولى المجلس مواجهة تلك الجرائم بالتنسيق مع كيانات مناظرة إقليمية ودولية، لاسيما أن الإمارات تعد واحدة من أكبر مراكز المعادن النفيسة في العالم، مما يتطلب مراقبة التعاملات المصرفية “المشبوهة” ومنصة إلكترونية موحدة للجمارك وبلورة برنامج لتقييد حركة الأموال وتلك المعادن قبل وبعد وصولها.

تجفيف المنابع

2- الحد من تمويل العمليات الإرهابية: تهدف محاولات تطوير البنية التشريعية لمكافحة جرائم غسل الأموال إلى تجفيف منابع تلك الجرائم ومنع حدوثها في معظم الدول العربية، وإن كانت هناك تعقيدات في حالات عربية عديدة. إذ يشير اتجاه في الأدبيات إلى أن بؤر الصراعات المسلحة في بعض الدول العربية فرضت على الدول المجاورة لها تحديات عدة من أبرزها ضرورة اتخاذ إجراءات استثنائية لمكافحة جرائم مالية تتعلق بغسيل الأموال وتمويل الإرهاب على المستويين المحلي والخارجي (الإقليمي والدولي) لاسيما في حال وجود تشابك عائلي بما يتيح تحويل الأموال بطرق متعددة. ولعل ذلك ينطبق جلياً على الأردن القريب من بؤرتي سوريا والعراق، في ظل جماعات مصلحية تمارس الإتجار بالمخدرات والأسلحة وغسيل الأموال وتمويل الإرهاب.

لذا، أقر مجلس النواب الأردني، في 23 أغسطس الحالي، مشروع قانون مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، وهدف المشروع إلى توسيع نطاق الفئات المشمولة بأحكام القانون وتحديد الجهات الرقابية والإشرافية والجهات المختصة فيه، وتوسيع صلاحيات اللجنة الوطنية لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، وتحديد مهام وحدة المعلومات المالية وصلاحياتها. كما يمنح القانون المدعي العام المختص صلاحية حجز الوسائط والأدوات المستخدمة أو المنوي استخدامها في جرائم غسيل الأموال أو الجرائم الأصلية المرتبطة بها أو جرائم تمويل الإرهاب وإلزام جميع الجهات المختصة بتزويد المدعي العام بما يطلبه من سجلات ومعلومات وبيانات خلال المدة التي يحددها لذلك. وقد تم إقراره بعد مشاورات موسعة مع مسئولين داخل الدولة ومدراء حاليين وسابقين للبنك المركزي.

تفكيك الشبكات

3- تصفية نفوذ شبكات النظم السياسية السابقة: وهو ما ينطبق على ما تقوم به لجنة تفكيك نظام يونيو 1989 وإزالة التمكين في الحكم الانتقالي بالسودان لتصفية نفوذ النظام السابق برئاسة عمر البشير، على المستويين السياسي والاقتصادي، حيث أعلنت، في 23 أغسطس الحالي، عن وضع يدها على عدد من الحسابات المصرفية التي تتداول مبالغ مالية ضخمة للجنيه السوداني (يعادل الدولار 450 جنيهاً سودانياً)، والتي تشير بعض التقديرات إلى أنها تصل إلى 64 مليار و305 ملايين جنيه، خلال فترة زمنية قصيرة، وتعود إلى شباب وربات منازل، من دون نشاط اقتصادي واضح، وتعمل في السمسرة وتجارة العملات بالأسواق الموازية وغسيل الأموال وتهريب النقد الأجنبي إلى الخارج مما يضعف الاقتصاد ويعرقل الانتقال السياسي. وتجدر الإشارة إلى أن معظم الحسابات المشبوهة لرموز النظام السابق وأبنائهم وأقاربهم، مما يستوجب تقديمهم للمحاكمة واسترداد الأموال والعقارات والشركات التابعة لهم.

توسيع المحاكم

4- تحسين وتيرة البت في الملفات المتعلقة بغسيل الأموال: صادق مجلس الحكومة المغربية، في 23 أغسطس الجاري، على مشروع مرسوم قدمه وزير العدل محمد بن عبدالقادر، يتعلق بتحديد دوائر نفوذ المحاكم المختصة في جرائم غسيل الأموال في إطار مقتضيات المادة “38” من القانون، بحيث تنص هذه المادة على تعميم الاختصاص القضائي في جرائم غسيل الأموال على محاكم الدار البيضاء وفاس ومراكش، إلى جانب محكمة الرباط. ويهدف ذلك إلى تخفيف الضغط على محكمة الرباط. كما يهدف هذا المرسوم إلى تحقيق النجاعة القضائية في معالجة القضايا المتعلقة بغسيل الأموال، وتقوية آليات البحث والتحري في هذا النوع من الجرائم عبر استحداث أربع فرق جهوية للشرطة القضائية متخصصة في الجرائم المالية والاقتصادية.

خبرات سابقة

5- الاستفادة من تجارب عربية في تدعيم البنية المؤسسية: ولعل ذلك ينطبق على حالة السودان في دراستها للتجربة السعودية في مواجهة ظاهرة تمويل الإرهاب في قطاع الأوقاف، ومكافحة غسيل الأموال، وذلك عبر ورش عمل وجلسات متبادلة، في يوليو الماضي، بمشاركة ممثلين عن وزارتى العدل والأوقاف، وسوف يساعد ذلك الخرطوم في تجاوز المرحلة الانتقالية وخاصة في ظل محاولات رموز النظام السابق عرقلة السير في اتجاه الاستقرار.

تجاوز العقوبات

6- مواجهة التدخلات الإقليمية عبر أذرع داخلية: وتعد القضية التي تورطت فيها بنوك إيرانية- ومنها المصرف المركزي الإيراني- وبنك المستقبل في البحرين، وتم الكشف عنها في 5 نوفمبر 2020، أبرز مثال على ذلك، حيث اتخذت المنامة إجراءات من شأنها التدقيق في التحويلات التي تتم عبر جهازها المصرفي لكيانات إيرانية متهمة بتمويل الإرهاب من ناحية والتحايل على نظام العقوبات الأمريكية من ناحية أخرى. ولعل ذلك حدث خلال فترة تولي الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، حيث طبقت الإدارة الأمريكية سياسة “الضغوط القصوى” على طهران.

الملاءمة العالمية

7- تلبية متطلبات الالتزام الفني بالمعايير الدولية: يعتبر الاهتمام العربي المتصاعد بقانون مكافحة غسيل الأموال مرهوناً بالالتزامات والاتفاقيات الدولية لهذه الدولة العربية أو تلك. وفي هذا السياق، نصت التعديلات الجديدة المتعلقة بمكافحة غسيل الأموال في المملكة المغربية على استحداث آلية قانونية وطنية لتنفيذ قرارات مجلس الأمن، ذات الصلة بالإرهاب وتمويله وانتشار التسلح، يعهد إليها تطبيق العقوبات المالية من خلال تجميد ممتلكات الأشخاص الذاتيين أو الاعتباريين، الواردة أسماؤهم باللوائح الملحقة بالقرارات الصادرة عن مجلس الأمن. ويعود ذلك إلى أن مجموعة العمل المالي الدولية FATFوضعت المغرب تحت المراقبة، في 26 فبراير الماضي، لتقصيرها في مجال مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب.

كما استعرض اجتماع اللجنة الوطنية لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب في السودان، في 24 أغسطس الحالي، المعايير الدولية الخاصة بالمكافحة التي يتوجب على بنك السودان المركزي استيفائها وعلى رأسها عمليات الرقابة والتفتيش وفرض الجزاءات الإدارية على المؤسسات المالية غير الملتزمة بالضوابط الخاصة بالمكافحة. وكذلك الحال بالنسبة لجهود العراق للخروج من لائحة الدول الأوروبية للدول عالية المخاطر في جرائم غسيل الأموال.

معارك كبرى

خلاصة القول، إن المرحلة المقبلة سوف تشهد تزايداً في الاهتمام بمكافحة جرائم غسيل الأموال في البلاد العربية، لاسيما في ظل ارتباط تلك الجرائم بخطر يتهدد دول الإقليم والعالم وهو الإرهاب العابر للحدود، كما أن لغسيل الأموال تأثيرات سلبية على اقتصاديات الدول، حيث تم استخدام طرق ملتوية لتبييض مصادر تلك الأموال “القذرة”، القادمة من الإتجار في المخدرات والأسلحة والبشر وغيرها، وتحويلها عبر القنوات التجارية والمؤسسات المالية إلى أموال نظيفة، من خلال إخفاء مصدرها. وتلك هى المعركة الكبرى التي يتعين على الدول العربية كسبها مثلما هى المعركة في مواجهة الإرهاب وكورونا، عبر قوانين وأنظمة وإجراءات واضحة وصارمة.