مستجدات خلافية:
لماذا تزايد التوتر التركي-الأمريكي؟

مستجدات خلافية:

لماذا تزايد التوتر التركي-الأمريكي؟



عادت العلاقات التركية الأمريكية لأجواء التوتر في التوقيت الحالي، مع تباين مواقفهما إزاء تطورات الأوضاع في قطاع غزة، بالإضافة إلى معارضة واشنطن للتحركات العسكرية التركية ضد حلفائها الأكراد شمال سوريا. ويبدو أن آفاق التوتر هي الأوفر في ضوء تقديرات تُشير إلى احتمال تأجيل بتّ البرلمان التركي خلال الشهر الجاري في ملف عضوية السويد بالناتو. وتلقي هذه المؤشرات الخلافية بظلال عكسية على مستقبل العلاقة بين البلدين التي ربما تعاني من فتور محتمل خلال المرحلة المقبلة، لكن من دون أن تصل إلى حد القطيعة، إذ ثمة حرص لديهما على حماية وتأمين مصالحهما المشتركة والمتقاطعة.

أسهمت التطورات الإقليمية الراهنة في منطقة الشرق الأوسط، وفي الصدارة منها عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركة “حماس” ضد مستوطنات غلاف غزة في 7 أكتوبر الجاري، وما ترتب عليها من قصف إسرائيلي عنيف على قطاع غزة، في تسخين التوتر مجدداً بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، الشريكين الاستراتيجيين في حلف الناتو، بعد أن شهدت العلاقات بينهما نقلة نوعية خلال الأشهر الماضية على خلفية موافقة إدارة الرئيس بايدن السماح ببيع مقاتلات الطراز المتقدم من طائرات F16 لتركيا، وقطع البلدين شوطاً معتبراً على صعيد قبول عضوية فنلندا والسويد بعضوية الناتو.

أزمة غزة لم تكن الأولى من نوعها التي جددت التوتر بين البلدين، فقد راجت تقديرات في التوقيت الحالي تشير إلى احتمال تأجيل أنقرة النظر في عضوية لحاق السويد بحلف الناتو، ناهيك عن تأكيد تركيا استمرار العمليات العسكرية على وحدات حماية الشعب الكردية في شمال شرق سوريا، التي تعتبرها تركيا تنظيماً إرهابياً، بينما تعتبرها واشنطن ذراعاً لها في الحرب ضد تنظيم “داعش”.

سياقات للتوتر

يأتي التوتر التركي-الأمريكي في هذا التوقيت اللافت وسط ظروف إقليمية ودولية مغايرة، ويتزامن أيضاً مع رغبة أمريكية في تكثيف الضغوط على أنقرة لتمرير عضوية السويد بالناتو، ويمكن استعراض ملامح ذلك من خلال ما يلي

1- إدانة أنقرة الموقف الأمريكي من أحداث غزة: نددت تركيا بالموقف الأمريكي من تطورات الأوضاع في غزة في ظل استمرار العنف الإسرائيلي الممنهج ضد سكان القطاع رداً على عملية طوفان الأقصى. وفي الوقت الذي أشار فيه وزير خارجية تركيا عشية زيارته للقاهرة في 13 أكتوبر الجاري، إلى رفضه دعم واشنطن والقوى الغربية لخطط إسرائيل بشأن تهجير سكان غزة؛ فقد ندد الرئيس التركي بتصريحات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، الذي قدّم نفسه خلال زيارته الأخيرة لإسرائيل كيهودي وليس وزير خارجية. وأضاف أردوغان في تصريحات له: “ماذا تقولون لو قال لك أحدهم أنا أقدم نفسي في المنطقة كمسلم”. وتابع: “نحن لا نفرق بين يهودي وتركي أو غيره، لكن يجب علينا أن نتعامل مع الآخر كإنسان”.

2- رفض الدعم العسكري الأمريكي “المطلق” لإسرائيل: مع تفاقم أزمة قطاع غزة، رفضت تركيا إعلان الولايات المتحدة دعمها العسكري لإسرائيل، وظهر ذلك في إدانة أنقرة تحريك حاملة الطائرات الأمريكية “جيرالد فورد” إلى مياه شرق البحر المتوسط، عشية عملية طوفان الأقصى. ويشار إلى أن الرئيس أردوغان خلال مؤتمر صحفي مشترك في 10 أكتوبر الجاري مع المستشار النمساوي، انتقد خطط الولايات المتحدة إرسال حاملة طائرات إلى المنطقة، واعتبر أن وجودها قد يؤدي إلى مذابح، فضلاً عن تداعياتها الخطيرة على الأوضاع القائمة في المنطقة.

بالتوازي، سعى الرئيس التركي إلى توجيه اتهامات مستترة للولايات المتحدة، بعد إظهارها حرصاً لافتاً على عسكرة أزمة قطاع غزة، حيث قال في كلمته أمام منتدى الاقتصاد والأعمال التركي الأفريقي الرابع، الذي شهدته مدينة إسطنبول في 13 أكتوبر الجاري: “إن المواقف التحريضية لبعض الأطراف (لم يسمها) التي تصب الزيت على النار، بدلاً من إرساء الهدوء؛ تعرقل جهودنا وتعمق الأزمة”.

3- عودة التوجهات المعارضة داخل الكونجرس: تتصاعد الضغوط داخل الكونجرس الأمريكي ضد تركيا في التوقيت الحالي، خاصة بعد تعيين السيناتور الديمقراطي بن كاردين رئيساً جديداً للجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس خلفاً للسيناتور “بوب مينينديز”، وذلك بعد اتهامات وُجهت له بتلقي رِشى. ويحمل بن كاردين توجهات عدائية ضد تركيا، حيث أكد عشية توليه اللجنة في سبتمبر الماضي أنه سينظر في صفقة طائرات إف-16 مع تركيا، وأشار إلى أن قضايا أخرى غير انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي ستؤثر على قرار إتمام الصفقة.

بالتوازي، تصاعد القلق التركي من تعيين بن كاردين الذي لوح بمتابعة ملف حقوق الإنسان في تركيا كشرط لإتمام الصفقات العسكرية مع تركيا، بالإضافة إلى تأكيده أن قراره بتعزيز التعاون مع أنقرة يبقى مربوطاً بالرضى عن بعض النقاط التي تتناول التهديد الإضافي لليونان.

4- إرجاء طلب عضوية السويد في الناتو: يمثل هذا الملف عامل ضغط إضافياً يمكن أن يدفع البلدين نحو مزيدٍ من التوتر خلال المرحلة المقبلة، إذ تشير العديد من التقديرات المحلية إلى أن أنقرة قد ترجئ ملف انضمام السويد للناتو، خاصة أن تركيا لم تحدد الإطار الزمني للتصديق على طلب السويد. وبحسب بيانات تركية رسمية، فإنه منذ انعقاد البرلمان في الأول من أكتوبر الجاري، تلقّت لجنة الشؤون الخارجية المعنيّة بمناقشة طلب السويد للانضمام لحلف شمال الأطلسي، ما يقرب من 60 اتفاقية دولية لمراجعتها ليس من بينها طلب السويد. ويبدو أن أنقرة ترهن موافقتها بالحصول على إشارات إيجابية من واشنطن بشأن صفقة إف-16.

5- إسقاط مسيّرة تركية في الأجواء السورية: دخلت العلاقة مناخ الشحن بين أنقرة وواشنطن في الساحة السورية، ووصل التوتر إلى ذروته في 5 أكتوبر الجاري، على خلفية إسقاط مقاتلة أمريكية مسيرة تركية في الأجواء السورية. وتعد هذه العملية هي الأولى من نوعها، إذ تعبر عن اتساع الرتق بين البلدين فيما يتعلق بإدارة الملف السوري. وقال “البريجادير جنرال بات رايدر” المتحدث باسم البنتاجون، إن طائرات مسيرة تركية شوهدت وهي تنفذ ضربات جوية على الحسكة ضد قوات “قسد” شمال سوريا، وعلى بعد نحو كيلومتر من القوات الأمريكية.

6- معارضة التحركات العسكرية ضد “قسد”: تعارض واشنطن العمليات العسكرية التي أطلقتها تركيا ضد قوات قسد منذ مطلع أكتوبر الجاري رداً على العملية الإرهابية التي استهدفت محيط وزارة الداخلية التركية في العاصمة أنقرة. وتعتبر تركيا حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري امتداداً لمنظمة العمال الكردستانية التي تصنفها تركيا كياناً “إرهابيَّاً”، لكن ثمة مواقف مغايرة للرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي يعد واحداً من أهم الداعمين للأكراد. وتجدر الإشارة إلى أنه مع استمرار التصعيد التركي ضد عناصر “قسد”، اتجه التحالف الدولي لمكافحة “داعش” في 9 أكتوبر الماضي، والذي تقوده واشنطن، إلى جلب رتل عسكري جديد من إقليم كردستان العراق من خلال معبر الوليد، مؤلف من 30 شاحنة تحمل صهاريج وقود ومعدات لوجستية باتجاه قواعد التحالف في الحسكة.

ارتدادات سلبية

تطرح مؤشرات التوتر الراهنة بين أنقرة وواشنطن العديد من الارتدادات السلبية المحتملة على مسارات العلاقة بين البلدين، وفي الصدارة منها تراجع حظوظ تركيا في الحصول على منظومة طائرات إف-16 المتقدمة، خاصة في ظل استمرار الانتقادات الأمريكية للأوضاع الحقوقية في الداخل التركي، وتجلى ذلك في التقرير السنوي الصادر في مايو الماضي عن وزارة الخارجية الأمريكية، والذي أدان الممارسات السلطوية لحزب العدالة والتنمية الحاكم، بالإضافة إلى انتقاده تهميش حقوق الأقلية الكردية في الداخل التركي.

على صعيد متصل، قد يعود الاشتباك بين البلدين فيما يخص قضية لحاق السويد بالناتو، إذ تشير بعض التقديرات إلى احتمال إرجاء تركيا تأجيل التصديق على طلب السويد للانضمام إلى حلف الناتو خلال الشهر الجاري، وذلك بعد فشل تركيا في الحصول على ضمانات أمريكية بالحصول على طائرات من طراز إف-16.

بالتوازي، يتوقع تصعيد حدة الخلاف إلى درجة غير مسبوقة بين البلدين، والعودة إلى التأثير على المصالح الخاصة بكل طرف، ويعزز ذلك استمرار المعارضة الأمريكية للتحركات العسكرية التركية ضد وحدات حماية الشعب الكردية في الشمال السوري، وهو ما دفع واشنطن إلى استهداف مسيرة تركية فوق الأجواء السورية.

خلف ما سبق، يتوقع استمرار تراجع مركزية أنقرة في الاستراتيجية الأمريكية، وهو ما ظهر في اتساع الفجوة بين البلدين عشية عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركة حماس. ففي الوقت الذي اتهمت فيه واشنطن “حماس” بالإرهاب، ودعمت الجهود العسكرية الإسرائيلية ضد قطاع غزة، رفضت تركيا تحميل “حماس” وحدها المسؤولية، كما أدانت أنقرة الخطاب الأمريكي المتعاطف والمنحاز لإسرائيل.

ضبط التوتر

ختاماً، يمكن القول إنه بالرغم من استمرار القضايا الشائكة بين أنقرة وواشنطن، والتي قد تشهد مزيداً من التوتر خلال المرحلة المقبلة في ضوء تفاقم الأوضاع في غزة، واحتمال تأجيل البرلمان التركي تمرير ملف عضوية السويد؛ فإن كلا البلدين قد يسعيان إلى ضبط حدود التوتر، وعدم وصول الأمور إلى مستوى يصعب السيطرة عليها، بالنظر إلى مصالحهما المشتركة، وهو ما برز في الاتصال الهاتفي الذي جرى بين وزير الخارجية التركي ونظيره الأمريكي في 15 أكتوبر الجاري لمناقشة الأوضاع الإقليمية، ووضع حد للقضايا الخلافية بينهما خلال المرحلة المقبلة.