مواقف متباينة:
لماذا تزايد التصعيد بين رأسي المؤسسة العسكرية في السودان؟

مواقف متباينة:

لماذا تزايد التصعيد بين رأسي المؤسسة العسكرية في السودان؟



يشهد السودان في الوقت الراهن تصاعداً للخلافات بين رأسي المؤسسة العسكرية السودانية، وهما الفريق أول ركن “عبد الفتاح البرهان” قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الانتقالي، والفريق أول ركن “محمد حمدان دقلو” الشهير بالجنرال “حميدتي”. ومن المؤشرات الدالة على ذلك انسياق كل منهما في إطلاق التصريحات والتصريحات المضادة في تنافس واضح على إبراز قدرة كل منهما على تحريك المشهد السياسي المتأزم في البلاد، وخاصة فيما يتعلق بموقف كل منهما من الاتفاق الإطاري الموقّع في 5 ديسمبر 2022 وما يتضمنه من بنود خاصة بإصلاح المؤسسة العسكرية وتشكيل جيش نظامي بهوية موحدة.

أسباب التصعيد

يمكن تفسير الخلافات المتصاعدة بين “البرهان” و”حميدتي”، من خلال بعض العوامل التي دفعتهما لذلك، ومن أبرزها ما يلي:

1- تباين المواقف تجاه الاتفاق الإطاري، فرغم توقيع الفريق “البرهان” على الاتفاق الإطاري، في 5 ديسمبر الماضي، مع المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، وإعلان الجنرال “حميدتي” تأييده لهذا الاتفاق باعتباره المخرج الوحيد لحل الأزمة السياسية الراهنة في السودان، إلا أن الفريق “البرهان” أطلق تصريحات اشترط فيها دمج قوات الدعم السريع بقيادة “حميدتي” للجيش النظامي، وذلك كشرط أساسي لتنفيذ الاتفاق الإطاري والانتقال بعد ذلك إلى الصيغة النهائية للاتفاق السياسي الشامل لتسوية الأزمة الراهنة، وهي تصريحات أثارت القوى السياسية المدنية التي اتهمته بعرقلة تنفيذ الاتفاق الإطاري ومحاولة التنصل منه، وأن اشتراط دمج قوات الدعم السريع في الجيش لتنفيذ الاتفاق ما هي إلى مناورة تكتيكية من “البرهان” للضغط على “حميدتي” للتراجع عن تأييده للاتفاق الاطاري وتصريحاته المتكررة التي يؤكد فيها على ضرورة انسحاب الجيش من العملية السياسية وتسليم القوى السياسية للمدنيين. وقد فهم الفريق “حميدتي” رسالة الفريق “البرهان”، وزايد عليه، وأعلن تأييده لدمج قواته في الجيش وإصلاح المؤسسة العسكرية، خاصة وأن الاتفاق الإطاري ينص على ذلك صراحة، وهو على أتم استعداد لتنفيذ كافة بنود هذا الاتفاق.

2- انتقاد الانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية في 25 أكتوبر، حيث أطلق الجنرال “حميدتي” انتقادات حادة للانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية، في 25 أكتوبر 2021، وارتكز في هذه الانتقادات على أن الانقلاب لم ينجح في تصحيح مسار الأزمة السياسية في السودان من جهة، كما أنه فتح المجال واسعاً أمام عودة أنصار نظام الإنقاذ السابق من قيادات حزب المؤتمر الوطني “المنحل” والحركة الإسلامية الذين يحاولون تأجيج الأوضاع السياسية في السودان، وهو ما دفع “حميدتي” لتوجيه اتهامات صريحة لهم بمحاولة إحداث انقسام داخل المؤسسة العسكرية، ومن جهة ثالثة أن الانقلاب ترتب عليه تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد بعد أن علقت الولايات المتحدة الأمريكية مساعداتها التي قدرت بحوالي 700 مليون دولار فور وقوع هذا الانقلاب، وتماشت معها مواقف العديد من الدول الأوروبية التي علقت مساعداتها أيضاً للسودان، وهو ما ساهم في زيادة تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد.

3- تسليم السلطة للقوى السياسية المدنية، أبرزت تصريحات الفريقين “عبد الفتاح البرهان” و”حميدتي” تبايناً إزاء عملية تسليم السلطة للقوى السياسية المدنية، وذلك رغم أن كلاً منهما أعلن صراحة رغبته في تسليم السلطة للقوى السياسية المدنية في أكثر من مناسبة، إلا أن ما يوضح عكس ذلك أن الفريق “البرهان” يطلق تصريحات مشروطة لتسليم السلطة للقوى المدنية، فتارة يشترط توسيع قاعدة المشاركة السياسية، وتارة أخرى يشترط إجراء انتخابات، وأخيراً يشترط دعم قوات الدعم السريع في الجيش.

وفي المقابل، يبدي الفريق “حميدتي” تأييده التام لتسليم السلطة للقوى السياسية المدنية دون شروط، بل وينتقد التناقض والتضارب في تصريحات ومواقف الفريق “البرهان”. ويحمل ذلك مناورة سياسية من “حميدتي” للقرب من القوى السياسية المدنية، وضمان تأييدهم لمواقفه في مواجهة الفريق “البرهان” مما يمنحه شرعية داخلية، قد يستند إليها إذا فكر في الترشح لرئاسة البلاد في مرحلة ما بعد الفترة الانتقالية الحالية وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، وذلك على المدى البعيد.

4- تباين المواقف من التطبيع مع إسرائيل، أثارت الإجراءات المتسارعة التي تتخذها السلطات الانتقالية السودانية بشأن التطبيع مع إسرائيل حالة من الخلاف بين الفريق “عبد الفتاح البرهان” والجنرال “حميدتي”، حيث أعلن الأخير في 3 فبراير الماضي، عدم علمه بزيارة وفد إسرائيلي للخرطوم وعقده لقاءات مع الفريق “البرهان”، وأنه ليس له علاقة بالجهود الخاصة بوضع الصيغة النهائية لاتفاق التطبيع المزمع توقيعه مع الجانب الإسرائيلي، في مؤشر على رغبة “حميدتي” في التنصل من هذه المسألة التي أثارت ردود فعل غاضبة من قبل القوى السياسية المدنية المعارضة للتطبيع مع إسرائيل، وفي الحقيقة فقد اتخذ هذا الموقف اعتراضاً على إقصاء “البرهان” له من مشاورات التطبيع.

دلالات هامة

تعكس الحرب الكلامية الدائرة بين قائد الجيش الفريق “عبد الفتاح البرهان” وقائد قوات الدعم السريع الفريق “حميدتي”، مجموعة من الدلالات السياسية والأمنية الهامة، ومن أبرزها ما يلي:

1- وجود انقسامات متصاعدة داخل المؤسسة العسكرية، تعكس التصريحات المتناقضة لكل من الفريقين “البرهان” و”حميدتي” حالة الخلافات الكامنة داخل المؤسسة العسكرية، ورغم ما تُبديه تصريحاتهم من توافق بشأن إشكالية دمج قوات الدعم السريع في الجيش النظامي، إلا أن مضمون هذه التصريحات يشير إلى احتمال أن يؤدي ذلك إلى انقسامات محتملة داخل المؤسسة العسكرية بين فريقين أحدهما مؤيد للفريق “البرهان” وآخر مؤيد للفريق “حميدتي”، ويشير إلى ذلك تصريحات الفريق “ياسر عطا” الذي انتقد وجود جيشين في البلاد وتأكيده على ضرورة دمج قوات الدعم السريع في الجيش، وفي المقابل تصريحات الفريق “عبد الرحيم دقلو” نائب قائد قوات الدعم السريع، في 26 فبراير الماضي، بأن قادة الدعم السريع يؤيدون مسألة إصلاح المؤسسة العسكرية وتشكيل جيش نظامي واحد مع فكرة الجيش الواحد وإصلاح المؤسسة العسكرية، نافياً أن تندلع أية مواجهات عسكرية بين قواته والجيش النظامي.

2- عرقلة مسار التسوية للأزمة السياسية الراهنة، من شأن تصاعد الانقسامات والخلافات داخل المؤسسة العسكرية بين قياداتها الكبرى، أن يؤثر سلباً على مسار التسوية الحالي للأزمة السياسية الراهنة في البلاد، وذلك عبر عرقلة تنفيذ ما نص عليه الاتفاق الإطاري الموقّع قبل شهرين، حيث تتخوف بعض القيادات العسكرية من مسألة إصلاح المؤسسة العسكرية وإعادة هيكلتها، كما تعارض بعض القيادات العسكرية الأخرى أن يتصدر المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير المشهد السياسي مرة أخرى بعد الإطاحة به في 25 أكتوبر 2021، ولذلك يصرون على مبدأ توسيع المشاركة السياسية بأن تضم المشاورات السياسية كافة القوى والأحزاب السياسية وهو ما يفتح المجال أمام بعض القوى السياسية التي تعبر عن توجهات حزب المؤتمر الوطني المنحل والحركة الإسلامية، وهو ما ترفضه قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي. ويدعمهم في ذلك الفريق “حميدتي”، وهو ما يثير غضب الفريق “البرهان”، الأمر الذي ينعكس سلباً على التوصل لاتفاق سياسي نهائي.

3- تصاعد نفوذ أنصار النظام السابق، تُشير اتهامات الفريق “حميدتي” لأنصار نظام الرئيس المعزول “عمر البشير” من أعضاء الحركة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني المنحل، بإحداث وقيعة بين قيادات المؤسسة العسكرية السودانية في الوقت الراهن، بأن الحركة الإسلامية لا تزال لديها القدرة على التأثير في المشهد السياسي الراهن وذلك اعتماداً على أنصارها ومواليها داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية في البلاد، وقدرتها على حشد أنصارها للاحتجاج في الشارع والمطالبة بالإفراج عن الرئيس المعزول “عمر البشير” ومساعديه وإلا سيقومون بإغلاق إقليم شرق السودان، في تحدٍ واضح وصريح للسلطات الانتقالية الحالية، وأن استمرار الأزمة السياسية على النحو الحالي سوف يتيح لهم المجال بأن يصبحوا جزءاً من المشهد السياسي الانتقالي ورقماً سياسياً صعباً لن يمكن لأحد إقصاؤه جانباً عند أية مشاورات سياسية لحل الأزمة المتفاقمة في البلاد.

4- استهداف القوى السياسية المدنية والحراك الثوري، تعكس تصريحات ومواقف الفريق “حميدتي” رغبته في استمالة القوى السياسية المدنية وقوى الحراك الثوري وكسب ودها، وذلك من خلال نفيه أن تكون له صلة بالتطبيع مع إسرائيل من جهة، وتأييده التام للاتفاق الإطاري بما في ذلك دمج قواته في الجيش الحالي من جهة أخرى، وما قد يتيح له ذلك من فرصة لاحقة في توظيف الشارع السوداني في حسم خلافاته المتصاعدة في الوقت الراهن مع الفريق “البرهان” الذي يحرص على ضمان ولاء قيادات المؤسسة العسكرية له ممن يرفضون الاتفاق الإطاري وتصدر قوى الحرية والتغيير للمشهد السياسي الحالي، ويرفضون تسليم السلطة للقوى السياسية المدنية باعتبارها غير قادرة على إدارة شؤون البلاد.

خلاف علني

خلاصة القول، تكشف التصريحات والمواقف التي يطلقها ويتبناها كل من الفريقين “البرهان” و”حميدتي” عن تحول الخلافات بينهما من خلافات مكتومة إلى خلافات ظاهرة بشكل علني، ليؤكد على حقيقة الاختلاف بين الطرفين بشأن طريقة إدارة الأمور السياسية والاقتصادية والعسكرية في البلاد، مع ترجيح أن تستمر سمة عدم الاستقرار السياسي في السودان على المدى القصير والمتوسط، وربما البعيد في ظل غياب التوافق السياسي وانقسام المؤسسة العسكرية على هذا النحو.