صروح نوعية:
لماذا تزايد الاهتمام بالمشروعات الكبرى في المنطقة العربية؟

صروح نوعية:

لماذا تزايد الاهتمام بالمشروعات الكبرى في المنطقة العربية؟



تزايد الاهتمام بالمشروعات الكبرى أو الضخمة أو العملاقة أو القومية في عدد من الدول العربية، مثل مصر والسعودية والإمارات والمغرب والجزائر والأردن، في الآونة الأخيرة، وهى مشروعات كبيرة الحجم ذات تأثيرات تنموية، اقتصادية واجتماعية، واسعة النطاق على المستوى الجغرافي، وتأخذ في الاعتبار أولويات واهتمامات الدولة وخطط تنمية مستدامة متوسطة وطويلة زمنياً، وهو ما يمكن تفسيره انطلاقاً من عدة عوامل هى تحقيق الرؤية الاستراتيجية للنخب الحاكمة، والتوسع في تنمية المجتمعات العمرانية بما يواجه الكثافة السكانية المتزايدة، وتوفير فرص عمل للقطاعات الشابة، والوصول إلى التنمية الأقاليمية المتوازنة، وزيادة حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ورفع تنافسية الدول العربية على المستوى العالمي.

أنماط متعددة

تتعدد المشروعات التي يطلق عليها كبرى أو عملاقة، مثل مشاريع بناء أو توسعة المطارات والقنوات المائية والموانئ والسدود والجسور والسكك الحديدية والنقل السريع والطاقة الهيدروكهرومائية والبنى التحتية للألعاب الرياضية العالمية وتجديد المدن الحضرية والغاز والبترول وغيرها. واللافت للنظر أنها تتسم بازدياد التكلفة المالية لتنفيذها، حيث تستغرق مدى زمنياً طويل نسبياً، وتجذب انتباه الرأى العام نظراً لتأثيرها على المجتمعات والبيئة الطبيعية والموازنات الحكومية.

ومن أبرز المشروعات الكبرى التي طرحت خلال السنوات الأخيرة في مصر مشروع قناة السويس الجديدة، وتنمية المنطقة الجديدة على ضفاف القناة الناشئة من خلال ما يعرف بمشروع “تنمية محور قناة السويس”، وهو ما تضمن مشروعات عمرانية وصناعية وسياحية متكاملة، ومحطة بنبان للطاقة الشمسية لزيادة إنتاج الطاقة النظيفة على مستوى الجمهورية، وسلسلة المدن العمرانية الجديدة مثل مشروع العاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العلمين الجديدة ومدينة توشكى الجديدة ومدينة الفرافرة الجديدة ومدينة سوهاج الجديدة ومدينة أسيوط الجديدة ومدينة دمياط الجديدة.

كما خصصت حكومة الجزائر 60 مليار دولار لتنفيذ وتطوير 12 مطاراً قائماً في الدولة، وتنفيذ 500 جسر في أنحاء البلاد، وإقامة نحو 25 ميناءً بحرياً لدعم عمليات التصدير والاستيراد في الدولة. وفي عام 2020، جددت الجزائر إحياء مشروع “السد الأخضر” الذي يعد أحد المشاريع الرئيسية التي أطلقها الرئيس الأسبق هواري بومدين بهدف حماية الأراضي الفلاحية. وكذلك هناك مشروع مجمع الطاقة الشمسية في المغرب الذي هدفت من خلاله الأخيرة إلى بناء 5 محطات لإنتاج الكهرباء بالطاقة الشمسية والمتجددة بحلول عام 2020، ووصلت تكلفته الإجمالية إلى 9 مليار دولار. كذلك بدأت المغرب في الثُلث الأول من يناير 2022 في استقبال عروض لإنجاز الدراسات المتعلقة بمشروع تطوير محطة عملاقة لتخزين الغاز بميناء المحمدية ضمن خطة بعيدة المدى لتحقيق الاكتفاء الذاتي بالتزامن مع مشاريع التنقيب التي تقوم بها العديد من الشركات العالمية في البلاد.

وفي السعودية، أطلق مشروع “نيوم” ومشروع تطوير “العلا” و”الرياض الخضراء” ومشروع “أوكساجون” الذي يتميز بالتنوع الاقتصادي الابتكاري، والاقتصاد المُستدام المحافظ على البيئة، وتقديم نموذج جديد لمراكز التصنيع المستقبلية (الذكية)، ودعم السعودية في مجال التجارة الإقليمية، وتدفقات التجارة العالمية في المنطقة، وكذلك هناك مشروع “تطوير وسط جدة التاريخية” بتكلفة تصل إلى 75 مليار ريال، لتطوير 5.7 ملايين متر مربع ذات إطلالة مباشرة على البحر الأحمر، بهدف صناعة وجهة عالمية في قلب جدة، وتحقيق قيمة مضافة للاقتصاد السعودي تقدر بنحو 47 مليار ريال بحلول عام 2030. وكذلك مشروع “مترو الرياض” و”مترو الدوحة” وتطوير المساجد التاريخية في مناطق متعددة بالسعودية.

كما نجحت الإمارات قبل سنوات في إنشاء مشاريع عملاقة مثل “مجمّع محمد بن راشد آل مكتوم للطاقة الشمسية” في دبى، وكذا “محطة توليد الكهرباء باستخدام الألواح الكهروضوئية” في مدينة مصدر، التي تُعد الأضخم من نوعها في منطقة الشرق الأوسط. وتهدف هذه المشاريع إلى زيادة القدرة الإنتاجية للطاقة من مصادر الطاقة النظيفة. علاوة على ذلك، زاد عدد مشاريع البنية التحتية بشكل ملحوظ في الفترة الماضية، وشملت كافة إمارات الدولة، إذ أن معظم المناطق شهدت افتتاح مشاريع طرق وجسور جديدة، وإنجاز مباني حكومية، ويتم العمل أيضاً على إنجاز مشاريع قيد الإنشاء، وطرح مناقصات تنموية.

تفسيرات مختلفة

يشير الاتجاه الرئيسي في الكتابات إلى أن ثمة عوامل عديدة يمكن من خلالها تفسير تزايد اللجوء إلى المشروعات الكبرى في المنطقة العربية، ومنها:

1- تحقيق الرؤية الاستراتيجية للنخب الحاكمة: يتمثل أحد التفسيرات الرئيسية لتصاعد الاهتمام بمثل هذا النمط من المشروعات في ترجمة الرؤى الاستراتيجية التي طرحت من قبل النخب السياسية، على نحو ما هو قائم بالنسبة للأمير محمد بن سلمان ولى العهد السعودي الذي طرح رؤية 2030، في عام 2016 كمدخل لتغيير الوضع الداخلي، وهو ما تحقق نسبياً بعد مرور أكثر من خمس سنوات، رغم تداعيات كوفيد-19، الأمر الذي ارتبط بالاستراتيجية الوطنية للاستثمار، إذ تضمنت ضخ استثمارات من خلال مشروعات ومبادرات بقيمة تصل إلى 12 تريليون ريال سعودي، ستسهم في تنمية الاقتصاد وتنويع مصادره وزيادة موارده، ونقل التقنية وتوطينها، وتطوير البنية التحتية، وتحسين جودة الحياة. وكذلك الحال بالنسبة للمشروعات الكبرى في دول الخليج الأخرى، والتي ترتبط فلسفتها بالرؤى الاستراتيجية مثل “رؤية قطر الوطنية 2030″ و”الرؤية الاقتصادية 2030″ للبحرين و”رؤية الكويت 2035″ و”رؤية عمان 2040”.

2- التوسع في تنمية المجتمعات العمرانية: عملت مصر على زيادة تنفيذ المشروعات القومية بما يؤدي إلى التكيف مع التمدد الجغرافي، لاسيما أن الخطابات المختلفة للرئيس عبدالفتاح السيسي تشير إلى أن الزيادة السكانية غير المدروسة تؤدي إلى التهام ثمار معدلات التنمية، وهو ما يتطلب السيطرة على تلك الزيادة لأن هناك العديد من الدراسات التي تشير إلى العلاقة الارتباطية بين الزيادة السكانية والتنمية الداخلية. وكذلك الحال بالنسبة للمملكة الأردنية التي تسعى إلى نقل تجربة العاصمة الإدارية الجديدة بمصر بسبب الزيادة السكانية في بعض المدن. إذ أوضح بشر الخصاونة رئيس الوزراء الأردني، خلال لقائه بنظيره المصري د.مصطفى مدبولي في 3 أكتوبر الماضي، أن بلاده تحاول أن تستدعي وتستفيد من هذه التجربة العملاقة، لاسيما في ضوء التحديات التي تواجه المدن الكبرى في المملكة، ومنها العاصمة عمّان ومدينة الزرقا، التي أصبحت الزيادة السكانية مضطردة بها، على نحو يتطلب الانتقال إلى مركز حضري.

كما قال الخصاونة أن “العاصمة الإدارية الجديدة في مصر تعد نموذجاً فيه إنجاز واضح ملموس ومثير للإعجاب، ونود أن نتعلم من هذه التجربة ونستفيد منها”، لافتاً إلى استعداد مصر لوضع تجربة العاصمة الإدارية أمام الأردن للاستفادة منها ومن الخبرات المصرية في مجال المشروعات الكبرى، مشيراً إلى أن الانتقال إلى مركز حضري جديد في المملكة الأردنية يتطلب توفير إطار ممكن وجاذب، مؤكداً أن “النموذج المصري شجع على إقامة هذه الأنماط العمرانية الناجحة، مستغلا بشكل أساسي المورد الطبيعي السيادي للدولة، وهو أراضي الدولة، وتنمية قيمتها لتصبح تجربة ناجحة في إطار جذب الاستثمارات بعد ذلك، وارتفاع القيمة العقارية لهذه الأراضي، بعد تطوير الخدمات الأساسية والبنية التحتية من قبل الدولة”. فقد هدف هذا الاجتماع بين الجانبين المصري والأردني إلى استعراض التجربة المصرية في إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة، سواء من الناحية التخطيطية والفنية، أو المؤسسية والإدارية والتمويلية، لاسيما أنه لا يمكن استيعاب الزيادة السكانية التي تعاني منها القاهرة إلا في ضوء امتداد جديد تنتقل إليه الأنشطة الإدارية والسياسية.

3- توفير فرص عمل للقطاعات الشابة: أبدت الحكومة المصرية خلال السنوات الأخيرة اهتماماً متصاعداً بالمشروعات التنموية الكبرى بهدف خفض معدلات البطالة وتوفير فرص عمل وحياة كريمة وخاصة للشباب، في أماكن معيشتهم، وهى السياسة الجديدة التي تسعى إلى الذهاب بالتنمية إلى محافظاتهم. وكذلك الحال بالنسبة للمشروعات الكبرى التي أعلنت عنها السعودية  وتستهدف توفير فرص عمل للشباب السعودي.

4- الوصول إلى التنمية الأقاليمية المتوازنة: ترتبط الفلسفة الحاكمة من تدشين المشروعات الكبرى، وخاصة في مصر وتونس والمغرب، بإعادة اكتشاف مواردها وإمكانياتها وتعظيم القيمة المضافة لتلك الموارد وتوزيع عوائد التنمية بشكل شامل ولكل شرائح المجتمع بحيث لا تتركز المشروعات في المركز وتترك الأطراف مهملة، على نحو أدى إلى نمط التنمية غير المتوازنة. فعلى سبيل المثال، استضافت كل من مدينتى العيون والداخلة عدداً من المشروعات الكبرى التي من شأنها النهوض بالأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية ونقلها إلى مصافي المراكز التجارية الكبرى في المنطقة.

5- زيادة حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة: يمكن القول إن المشروعات الكبرى التي تبنتها بعض الدول العربية لها العديد من العوائد الاقتصادية. فعلى سبيل المثال، تعتبر البنية التحتية القومية التي تم إنشائها في منطقة قناة السويس داخل مصر من العوامل المهمة التي تسهم في زيادة الاستثمارات الأجنبية، على نحو يؤدي إلى إنعاش الاقتصاد الوطني. وكذلك الحال بالنسبة للمشروعات التي تعود أصولها إلى صندوق الاستثمارات العامة بالمملكة العربية السعودية، وتهدف إلى زيادة تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى الداخل السعودي. علاوة على ذلك، هناك تقديرات بأن الأقاليم الجنوبية بالمغرب في السنوات المقبلة تطمح في أن تكون مثل دبى وهونج كونج وسنغافورة، وهو ما يمكن أن يجذب الشركات الكبرى.

6- رفع تنافسية الدول العربية على المستوى العالمي: تعمل بعض الحكومات العربية، مثل السعودية، على تدشين مشروعات نوعية تتجاوز المفهوم المحلي إلى العالمي، وتحويل بعض المناطق إلى وجهات سياحية عالمية. فهناك توجه سعودي لرفع تصنيف مدينة الرياض كواحدة من أفضل عشر مدن للإقامة بها على مستوى العالم. كما أن نيوم ستضم عدداً من المدن والموانئ والمناطق التجارية ومراكز البحوث والمرافق الرياضية والترفيهية والوجهات السياحية. وستكون نيوم أيضاً مقراً للعيش والعمل لأكثر من مليون شخص من جميع أنحاء العالم. كما أن مشروع “القدية” بالسعودية يهدف إلى إنشاء مدينة جديدة ترسخ مكانتها على الخريطة العالمية بوصفها مركزاً إقليمياً ودولياً لأكثر التجارب ابتكاراً في مجال الترفيه والرياضة والفنون. وكذلك الحال بالنسبة لمدينة الدرعية. كما احتلت الإمارات المركز الأول إقليمياً والتاسع عالمياً في تقرير التنافسية العالمية 2021 الصادر عن مركز التنافسية العالمي، حيث تبوّأت المرتبة الأولى عالمياً في 20 مؤشراً، فيما حلّت ضمن المراكز الخمسة الأولى عالمياً في 62 مؤشراً، وضمن المراكز العشرة الأولى عالمياً في 120 مؤشراً.  

متغير مفقود

خلاصة القول، إنه على الرغم من أهمية العوامل السابق ذكرها، إلا أن هناك متغيراً مفقوداً، وهو الافتقار إلى تكامل بيني عربي فيما يخص مشروع قومي لبعد محدد، يتعلق بتحديث مرافق الحياة والخدمات العامة، كالتعليم والصحة، وهو ما سبق أن نادى به بعض المفكرين والمثقفين العرب مثل د.مصطفى الفقي، بحيث يمكن للعلماء والوزراء العرب الاجتماع في إحدى العواصم العربية للنقاش حول رؤية شاملة بشأن مشروع قومي للتأمين الصحي باتفاق طوعي بين الدول العربية. وفي هذا السياق، يمكن تخصيص الأموال العربية لإنشاء مستشفيات كبرى ومصحات شاملة موزعة على مدن العالم العربي في ظل نهضة طبية شاملة. وما ينطبق على الصحة يمكن أن ينسحب على التعليم عبر توزيع الجامعات ومراكز البحث العلمي في التخصصات المختلفة على خريطة الوطن العربي بامتدادها شرقاً وغرباً في ظل تنسيق يستخدم الميزة النسبية لكل دولة فيما يجب تدريسه، وفقاً للاستعداد العام داخل كل واحدة منها لتخصص علمي محدد تستكمله المراكز النظيرة والجامعات المماثلة في الدول العربية المختلفة.