طموحات باريس:
لماذا تزايد الانخراط الفرنسي في القضايا العربية؟

طموحات باريس:

لماذا تزايد الانخراط الفرنسي في القضايا العربية؟



عكست مشاركة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قمة بغداد للتعاون والشراكة التي عقدت في 28 أغسطس الفائت، وزيارته إلى مدينة الموصل العراقية، الاهتمام الفرنسي المتصاعد بأزمات المنطقة العربية. فخلال السنوات الأخيرة، عززت باريس من انخراطها في قضايا المنطقة من خلال عدد من المسارات ربما أهمها الحضور السياسي عبر التواصل المكثف مع مسئولي الدول، وطرح مبادرات متنوعة لتسوية أزمات الدول بما في ذلك مبادرات للدعم الاقتصادي، فضلاً عن دعم حملات مكافحة الإرهاب. ولم تكن هذه المسارات منفصلة عن السياسة الخارجية التي تبناها الرئيس الفرنسي وطموحات استرداد المكانة الفرنسية في المنطقة، لاسيما مع تراجع الاهتمام الأمريكي بمنطقة الشرق الأوسط بصفة عامة، وتزايد التنافس على النفوذ فيها بين عدد من القوى الإقليمية والدولية.

تحركات مكثّفة

اكتسبت أزمات المنطقة العربية اهتماماً مكثفاً من جانب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ وصوله إلى الرئاسة، حيث بدت المنطقة وقضاياها ساحة هامة لإحياء النفوذ والمكانة الفرنسية. وهكذا، عملت باريس على تكثيف تحركاتها في قضايا وأزمات المنطقة، وهى التحركات التي اتخذت أربعة أبعاد رئيسية:

1- التمايز عن السياسة الأمريكية: حرصت باريس في تعاطيها مع قضايا المنطقة على إظهار التمايز، ولو بدرجة محدودة، عن السياسة الأمريكية، وبالتالي التعبير عن مسار مستقل في التفاعل مع هذه القضايا، ولعل هذا ما يتضح مثلاً من الخلافات بين واشنطن وباريس، وخاصة في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، تجاه عدد من القضايا وفي مقدمتها الملف اللبناني.

إذ تختلف باريس مع واشنطن حول الموقف من حزب الله اللبناني، ففيما تصنف واشنطن الأخير، بجناحيه العسكري والسياسي، كجماعة إرهابية، فإن باريس تبنت موقفاً مغايراً يقوم على تصنيف الجناح العسكري فقط للحزب كتنظيم إرهابي، وهو الموقف الذي يكتسب وجاهته من طبيعة الدور الفرنسي في لبنان، حيث تتعامل فرنسا مع حزب الله كفاعل سياسي في المشهد، ويتعين التواصل والحوار معه، وبالتالي، فإن باريس ترى أن تصنيف الجناح السياسي للحزب، كتنظيم إرهابي، سيكون له تأثير سلبي على الأوضاع في لبنان والدور الفرنسي هناك.

وعلى المستوى الإقليمي أيضاً، هناك خلافات حول الملف الإيراني. صحيح أن فرنسا تتفق مع الولايات المتحدة الأمريكية حول التهديدات الإيرانية للأمن والاستقرار الإقليمي، إلا أنها لم تتفق مع واشنطن في الانسحاب من الاتفاق النووي، في 8 مايو 2018، لتظل فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية متمسكة بالاتفاق الذي رأت أن استمراره يمكن أن يساهم في دعم جهود تسوية الأزمات في المنطقة العربية، واعتبرت أن الانسحاب الأمريكي منه خطوة تؤثر بالسلب على الاستقرار الإقليمي والدولي.

2- الانفتاح على الأطراف المختلفة: وهو ما يعكسه الحضور المكثف للمسئولين الفرنسيين في أزمات وملفات المنطقة، فخلال عام 2020 قام الرئيس ماكرون بزيارة لبنان مرتين بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020، بالتوازي مع تقديم مبادرة لتسوية الأزمة اللبنانية، ومحاولة ممارسة بعض الضغوط على النخب اللبنانية للإسراع في تشكيل الحكومة. كما بلورت فرنسا موقفاً بارزاً في الملف العراقي، على نحو بدا جلياً في زيارات الرئيس الفرنسي المتوالية للعراق، فقبل مشاركة ماكرون في قمة بغداد الأخيرة، زار الرئيس الفرنسي العراق في 2 سبتمبر 2020، وحينها أعلن عن تقديم مبادرة، بالتعاون مع الأمم المتحدة، لدعم السيادة العراقية.

وحرصت فرنسا أيضاً على تعزيز حضورها في الملف الليبي من خلال الانفتاح على بعض القوى الفاعلة، مثل قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر، وحاولت أن تنتزع لنفسها الدور الأوروبي الرئيسي في الملف، ولعل هذا ما كشفت عنه المبادرات الفرنسية المتوالية، مثل المبادرة التي جمعت بين رئيس حكومة الوفاق السابق فايز السراج وخليفة حفتر في 29 مايو 2018. وفي 16 يونيو الماضي، تناقلت وسائل الإعلام خطة فرنسية مقترحة لإخراج المرتزقة من ليبيا.

3- التعاون الأمني مع دول المنطقة: عززت فرنسا حضورها في المنطقة خلال السنوات الماضية من خلال التعاون الأمني مع دولها لمواجهة التهديدات الأمنية وفي مقدمتها الإرهابية، حيث تعد باريس شريكاً هاماً في حملة مكافحة تنظيم “داعش” في المنطقة، وقال ماكرون، على هامش مشاركته في قمة بغداد، أن فرنسا ستبقى في العراق لمساعدته على مكافحة الإرهاب.

4- الدعم الاقتصادي لدول الأزمات: قدمت باريس بعض المبادرات الاقتصادية لإخراج بعض دول المنطقة من أزماتها، وكان لبنان النموذج الأبرز في هذا الصدد. فعلى مدار عام، منذ انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020، نجحت فرنسا في تنظيم أربعة مؤتمرات لدعم لبنان والجيش اللبناني، وهى المؤتمرات التي شهدت جمع مساعدات من أطراف عديدة. فعلى سبيل المثال، تعهّدت الدول المشاركة في مؤتمر “الاستجابة لاحتياجات الشعب اللبناني”، المنعقد يوم 4 أغسطس الماضي، بتقديم نحو 370 مليون دولار كمساعدات للبنان، وتصدرت فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية قائمة المتعهدين بتقديم المساعدات للبنان، حيث أعلن الرئيس الفرنسي عن مساعدات فرنسية جديدة بقيمة 100 مليون يورو في الأشهر الـ12 المقبلة مع إرسال نصف مليون جرعة من اللقاحات المضادة لفيروس كورونا في الأسابيع المقبلة.

مُحفِّزات رئيسية

ترتبط السياسة الفرنسية تجاه قضايا وأزمات المنطقة بعدد من المُحفِّزات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1- استعادة المكانة على المستوى الدولي: فالتحركات الفرنسية في المنطقة مدفوعة برؤية وطموحات ماكرون حول ضرورة استرداد مكانة فرنسا على الساحة الدولية، فمنذ وصوله إلى السلطة، يتبنى الرئيس الفرنسي خطاباً قائماً على ضرورة إعادة فرنسا إلى مركز الشئون العالمية، ويرى أن ذلك يمكن أن يحدث عبر مسارين: أولهما، فرض شكل جديد للتفاعلات الدولية، فمن وجهة نظره، يمر النظام الدولي الليبرالي بمرحلة تاريخية كبرى ويحتاج إلى استبداله بأشكال جديدة من التعاون متعدد الأطراف. ولذلك، يعتقد ماكرون أن الوقت قد حان لاستبدال “إجماع واشنطن” بـ”إجماع باريس” وهى فكرة طرحها ماكرون في عام 2020، كمبادرة تقوم على مجموعة من الأولويات للتصدي لتحديات القرن الحادي والعشرين.

وثانيهما، تولي فرنسا زمام مبادرة السياسة الأوروبية في الساحة الدولية، وخاصة في مناطق الأزمات على غرار المنطقة العربية. فمن خلال الإطار الأوروبي الجماعي يمكن لباريس تعزيز حضورها الدولي، ولعل هذا ما يفسر تصريحات ماكرون المتكررة حول أفكار مثل السيادة الأوروبية والاستقلال الاستراتيجي في السياسة الخارجية الأوروبية بعيداً عن مواقف الأطراف الدولية الأخرى.

2- تفعيل التعاون الاقتصادي مع دول المنطقة: تتضمنالمنطقة عدداً من الفرص الاقتصادية الهامة بالنسبة لفرنسا، إذ تعد دول المنطقة واحدة من أهم مستوردي الأسلحة الفرنسية، كما عملت الشركات الفرنسية خلال السنوات الماضية على تطوير علاقاتها مع هذه الدول. فقد أعلنت الحكومة العراقية، في 24 يوليو الماضي، الموافقة على توقيع اتفاق مع شركة “توتال” الفرنسية لتنفيذ مشاريع عملاقة من بينها تجميع الغاز بطاقة 600 مليون قدم مكعب يومياً وتطوير حقل رطاوي. وحصلت أيضاً شركة ADP-I الفرنسية على صفقة تجديد مطار الموصل الدولي في 25 يناير الماضي.

وتنشط الشركات الفرنسية في مجالات اقتصادية متنوعة بدول شمال أفريقيا. فعلى سبيل المثال، منح المغرب شركات فرنسية عقوداً ضخمة في مجال النقل، كمشروع الترامواي والقطار فائق السرعة. وتعتبر الجزائر، بحسب العديد من التقارير، أول سوق عبر العالم للقمح الفرنسي، كما تستورد من فرنسا السلع الدوائية والمنتجات الخاصة بتكرير البترول (تستورد فرنسا كذلك في المقابل النفط الجزائري)، ومنتجات السيارات والسكك الحديدية.

3- مواجهة الأزمات الإقليمية المختلفة: يمكن تفسير التحركات الفرنسية في قضايا المنطقة بوصفها محاولة من قبل باريس لتقويض الأزمات المُصدَّرة منها، وفي مقدمتها تلك المتعلقة بالهجرة غير الشرعية والتهديدات الإرهابية. فالسياسة الفرنسية في ليبيا تستند بصورة جوهرية إلى محاولة تأمين الأوضاع هناك لمنع تشكل محور إرهابي يمتد من ليبيا إلى دول الساحل الأفريقي، وكذلك التخوف من مسار الهجرة غير الشرعية عبر الأراضي الليبية إلى الدول الأوروبية.

4- تقويض نفوذ الإسلام السياسي: وهو واحد من الأهداف الرئيسية للسياسة الخارجية الفرنسية، في عهد ماكرون. وقد ظهر هذا الأمر مثلاً في تفاعل باريس مع تطورات الأزمة التونسية بعد القرارات التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد في 25 يوليو الماضي، والتي تضمنت تجميد عمل البرلمان وإقالة رئيس الوزراء، حيث عبّرت باريس أثناء الاتصال الهاتفي الذي أجراه ماكرون مع سعيّد في 7 أغسطس الماضي، عن دعمها للأخير، وأكد ماكرون على أن تونس يمكنها أن تعتمد على دعم فرنسا لمواجهة كل التحديات. وبقدر ما يعكس هذا الموقف رغبة فرنسا في الحفاظ على نفوذها في المنطقة، فإنه أيضاً ينطوي على دعم لسياسات الرئيس التونسي والتي تؤدي، بشكل أو بآخر، إلى تقويض نفوذ تيار الإسلام السياسي وممثله حركة النهضة.

5- تطويق الدور الإقليمي التركي: يرتبط الحضور الفرنسي بالمنطقة، في جانب كبير منه، بمحاولة تطويق النفوذ التركي، حيث تصاعدت حدة التوتر في العلاقات الفرنسية- التركية نتيجة لعدد من العوامل ربما أهمها توظيف أنقرة لورقة اللاجئين، لاسيما السوريين، كأداة للضغط على الدول الأوروبية، بما فيها فرنسا، وكذلك معارضة الأخيرة الواضحة لانضمام تركيا للمنظومة الأوروبية، علاوة على الصدام حول السياسة التركية في المنطقة، حيث انتقدت فرنسا التدخل العسكري التركي في سوريا وليبيا، وخرجت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي، في 18 مارس الماضي، لتؤكد على “أن تركيا تسعى لفرض نفوذها بالقوة وسياسة الأمر الواقع في ليبيا وسوريا وأذربيجان”.

وفي هكذا سياق، كانت السياسة الفرنسية تقوم على تأسيس محاور معارضة لتركيا في المنطقة، فهى تنحاز إلى قبرص واليونان في صراع شرق المتوسط مع تركيا. كما أنها عارضت اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الليبية السابقة عام 2019.

وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن اهتمام باريس بتعزيز انخراطها في أزمات المنطقة لا يهدف فقط إلى احتواء أية مخاطر محتملة قد تفرضها على مصالحها وأمنها، رغم أهمية ذلك بالطبع، وإنما يهدف أيضاً إلى تعزيز دورها كقوة دولية في ساحة تبدو مرشحة لتحولات رئيسية خلال المرحلة القادمة.