تشير مواقف أوروبية متعددة إلى فشل أنقرة في اللحاق بالاتحاد الأوروبي، وأخرها تأكيد تقرير المفوضية الأوروبية السنوي الصادر في أكتوبر الجاري،والذي يعتبر الأشد انتقادا لتركيا منذ أن بدأت أنقرة محادثات الانضمام للتكتل قبل 16 عاما. وقالت المفوضية في تقريرها الصادر في أكتوبر الحالي إن حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تشرف على تضييق مستمر لمساحة الديمقراطية وسيادة القانون، وإنها تجاهلت توصيات الاتحاد الأوروبي العام الماضي.ودخلت العلاقة مناخ الشحن مع إصرار تركيا على رفض تقرير المفوضية، واعتبرت وزارة الخارجية التركية في بيان لها في 20 أكتوبر الحالي أن التقرير يكشف “ازدواجية في المعايير”من جانب الاتحاد الأوروبي”، وإن أنقرة ترفض “الانتقادات الجائرة والادعاءات التي لا أساس لها”. كما اتهم البيان الاتحاد الأوروبي بعدم الوفاء بوعوده لتركيا وبعدم القيام بمسؤولياته.
وأضاف البيان “تعبّر تركيا بأقوى العبارات عن تمسكها بالخيار الاستراتيجي المتمثل في الحصول على العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي، وسيكون في صالح الجميع لو نظر الاتحاد الأوروبي إلى تركيا باعتبارها دولة مرشحة في مرحلة المفاوضات، مع الأخذ في الاعتبار مصالحنا العامة المشتركة، وليس النظر إليها كشريك تقيَّم معه علاقات يومية على أساس المواءمات”.
دلالات كاشفة
تسعى تركيا إلى ترطيب العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، وكشف عنها تأكيد الرئيس أردوغان في يونيو الماضي، على إن الوقت قد حان لكي يقدم الاتحاد على اتخاذ خطوات إيجابية مع تركيا، وأهمية بدء المفاوضات بشأن تحديث الاتحاد الجمركي.غير أن ثمة دلالات تكشف عن اتساع الهوة مع الاتحاد، فقد أشار لأول مرة تقرير المفوضية الأوروبية الصادر مؤخراً، إلى أن أنقرة لم تعد جادة في القيام بالإصلاحات التي يدعمها الاتحاد الأوروبي، حتى على الرغم من إعادة التزام أردوغان في أبريل بهدف الحصول على عضوية التكتل كاملة، في وقت حاول فيه الجانبان تحسين العلاقات المتوترة. وأكد التقرير أن تركيا “لم تعالج مخاوف الاتحاد الأوروبي الجدية من استمرار تدهور الديمقراطية وسيادة القانون والحقوق الأساسية واستقلال القضاء”. وأضافت “في ظل الظروف الراهنة، وصلت مفاوضات انضمام تركيا (للاتحاد) إلى طريق مسدود فعليا”.
في المقابل عبر البرلمان الأوروبي في سبتمبر الماضي عن شعوره بقلق عميق إزاء تجاهل القضاء التركي لأحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وزيادة عدم امتثال المحاكم الأدنى لأحكام المحكمة الدستورية. كما طالبت قمة قادة الاتحاد الأوروبي في يونيو الماضي، الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، بإزالة العقبات المتبقية أمام إحياء العلاقات، وأكدت القمة على أن “سيادة القانون والحقوق الأساسية في تركيا تظل مصدر قلق كبير”. كما شددت القمة على التمسك بتسوية شاملة للأزمة القبرصية على أساس اتحاد فيدرالي بين مجتمعَين، مع حقوق سياسية متساوية وفقا لقرارات مجلس الأمن الدولي.
الانتقادات السابقة لتركيا لم تكن جديدة أو هي الأولى من نوعها، ففي 9 يوليو الماضي صوت البرلمان الأوروبي على قرار يطالب حزب العدالة والتنمية بفتح المجال العام أمام جميع الأحزاب التركية، وحقها في ممارسة أنشطتها المشروعة بحرية وكاملة وفقًا للمبادئ الأساسية لـنظام تعددي وديمقراطي. كما حث قرار البرلمان الأوروبي، السلطات التركية على “الامتناع عن تأجيج التحريض ضد حزب الشعوب الديمقراطي واتخاذ التدابير اللازمة لحماية مكاتب ومسؤولي الحزب، بما في ذلك النواب والمستشارون المحليون المنتخبون ورؤساء البلديات”.
والأرجح أن تركيا برغم إبداء حرصها على اللحاق بأوروبا إلا أنها أصبحت أكثر بعداً عن القيم الرئيسية التي يتبناها الاتحاد الأوروبي منذ الانقلاب الفاشل في صيف 2016، حيث ذهبت فى اتخاذ إجراءات استثنائية، وهو ما جعل الحديث عن انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي أكثر صعوبة، خاصة مع إعلان المفوضية الأوروبية في أكتوبر الجاري أن فرص لحاق أنقرة بالاتحاد باتت مستحيلة بسبب الممارسات السلطوية وتأميم المجال العام، وتكريس السلطة في مؤسسة الرئاسة.
قضايا خلافية
تتعثر مساعي أنقرة للانضمام إلى الاتحاد بسبب تصاعد حدة التوترات حول العديد من القضايا الخلافية، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1- التصعيد التركي إزاء قضايا شرق المتوسط: تعتمد تركيا على بعض الأدوات غير المشروعة حيال عدد من القضايا الإقليمية التي تهم أوروبا، منها تعقيد حل الأزمة القبرصية، وممارسة التنقيب عن مكامن الطاقة في المناطق الاقتصادية الخالصة لقبرص واليونان في شرق المتوسط وبحر أيجة. واتخذ التصعيد منحاً جديدا مند نهاية سبتمبر الماضي بين تركيا وبعض دول الاتحاد، على خلفية توقيع اليونان مع فرنسا اتفاقية دفاعية جديدة تشمل شراء الأولى عددا من السفن الحربية في إطار ما تعتبره تركيا سباق تسلح وتدخل فرنسي في أزمة شرق المتوسط. وحثت المفوضية الأوروبية في تقريرها الأخير تركيا على الالتزام بوقف التصعيد في شرق البحر المتوسط وتعهدت في الوقت نفسه بالدفاع عن مصالح الدولتين العضوين اليونان وقبرص إذا لم تقم تركيا بذلك.
على جانب آخر عارضت دول الاتحاد في يوليو الماضي مشروع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإعادة فتح منتجع فاروشافي فاماجوستا، في قبرص الشمالية التي لا تعترف بها أي دولة إلا تركيا. كما طالب البرلمان الأوروبي في 11 مارس الماضي، تركيا بالانسحاب من الأراضي السورية واصفاً وجود أنقرة العسكري فيها بـ”الاحتلال”.وتمثل القضية الكردية أحد أهم القضايا الخلافية بين أنقرة والاتحاد، وزادت حدتها بعد استضافة باريس في يوليو الماضي وفداً من الإدارة الذاتية الكردية شمال سوريا. ووصفت أنقرة باريس بأنها تحولت إلى “منبر للترويج لمنظمة إرهابية” من خلال استضافتها للأكراد السوريين.
2- تأميم المجال العام داخل تركيا: يعتبر ملف حقوق الإنسان الأكثر جدلا بين أنقرة والاتحاد الأوروبي، حيث ينتقد الاتحاد الممارسات السلطوية، وسعى الرئيس أردوغان إلى تفصيل المشهد على مقاس طموحاته السياسية. ووصل الخلاف الذروة في 19 أكتوبر الحالي عقب إصدار سفراء 10 دول في الاتحاد الأوروبي من بينها فرنسا وألمانيا إضافة إلى الولايات المتحدة بياناً مشتركاً يدعو لإطلاق سراح الناشط الحقوقي “عثمان كافالات”، المعتقل في السجون التركية منذ سنوات وهو ما ردت عليه الخارجية التركية باستدعاء سفراء هذه الدول وتوجيه انتقادات لاذعة لهم واصفة تصرفهم بـ”المرفوض وغير المسؤول”، وشددت على رفض أي محاولة هدفها الضغط على القضاء التركي وتسييس الدعاوى القضائية.وتصاعدت أزمة السفراء الأوروبيين مع تهديد الرئيس التركي في 21 أكتوبر الحالي بطردهم، وقال أردوغان: “أبلغت وزير خارجيتنا أننا لا نستطيع أن نسمح لأنفسنا باستقبالهم في بلادنا”.
ولم تقتصر الانتقادات الأوروبية للأوضاع الحقوقية في تركيا، على ما سبق، فقد انتقد الاتحاد استخدام أنقرة القوانين لمعاقبة النشطاء والمعارضين وانتهاك حرية التعبير، وأصدرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في 19 أكتوبر الحالي قراراً ببطلان القانون التركي الذي يعاقب المساس بـ”صورة” رئيس الدولة، معتبرة أن “حماية معززة بقانون خاص في مجال الإهانة لا يتماشى مع روح الاتفاقية الأوروبية” لحقوق الإنسان.في المقابل يستنكر الاتحاد الأوروبي الجهود المبذولة لحل حزب الشعوب الديمقراطي، وفرض أنقرة حظر على حوالي 500 من أعضائه من العمل السياسي، وذلك في إطار حملة تشنها السلطات التركية هدفها هو قمع المعارضة التركية.
3- ارتباطات أنقرة بالكيانات المصنفة إرهابيا: ثمة فجوة بين أنقرة والاتحاد الأوروبي بفعل اتهام أوروبي لتركيا بارتباطات مع الكيانات الإرهابية، وبخاصة “جبهة النصرة” الفرع السوري سابقاً لتنظيم “القاعدة” في سوريا قبل تغيير اسمها إلى “هيئة تحرير الشام”. كما تبدى دول الاتحاد قلق من اتجاه أنقرة إلى التدخل في الشئون الداخلية لدول الاتحاد، وظهر ذلك في يوليو الماضي عندما عارضت تركيا مشروع قانون مبادئ تعزيز احترام أو ما يسمي بـ”مكافحة الإسلام الانفصالي”.
وتصاعد مؤخراً المخاوف الأوروبية من التوجهات التركية هذه بعد إعلان مجموعة العمل المالي الدولية (فاتف) في 21 أكتوبر الحاليإخضاع تركيا للمراقبة على خلفية “قصور في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب”، وقالت “فاتف” في تقريرها أن “على تركيا أن تثبت تصديها بفاعليه لقضايا غسل أموال معقدة وأن تثبت تعقبها عمليات التمويل الإرهابية بالملاحقة القضائية، وأن تضع في أولويتها قضايا تتعلق بمنظمات صنفتها الأمم المتحدة على أنها إرهابية مثل “تنظيم الدولة” و”القاعدة”.
على صعيد ذي شأن، كانت دول قد قررت في العام الماضي الاستغناء عن توظيف الأئمة الأتراك في مساجدها منعا لترويج نسخة الإسلام السياسي المتشددة في أوروبا، وتراجعت الصورة الذهنية للاتحاد الإسلامي التركي “ديتيب”، بعد تورط أعضائه في فضائح تجسس لمصلحة حكومة العدالة والتنمية، وهو الأمر الذي دفع مثل ألمانيا والنمسا وفرنسا إلى التضييق على أنشطة الاتحاد، ومشاريعه.
4- الخلافات التقليدية الراسخة بين تركيا والدول الأوروبية: لا تزال الملفات الخلافية التقليدية بين الطرفين عقد حاكمة في مسارات عضوية تركيا في الاتحاد، وفي الصدارة منهاالعامل الديموغرافي، الذي يمثل عقبة كئود أمام انضمام تركيا البالغ عدد سكانها أكثر من 80 مليون نسمة. ولعل معدل النمو السكاني في تركيا سوف يزيد من وزنها داخل المؤسسات الأوروبية، وهو ما قد يمثل خصما من وزن، وتمثيل ألمانيا التي تحتل المرتبة الأولى سكانيا بين دول الاتحاد ناهيك عن أن كتلتها السكانية قد تمنحها العدد الأكبر منالممثلين في البرلمان الأوروبي، وهو ما يثير مخاوف من تحول القضايا التركية ذات الطابع الإسلامي إلى قضايا أوروبية وتفوقها على نقاشات اجتماعية أخرى تهم أوروبا وبعيدة عن الدين في آن معاً.في المقابل، تعي دول الاتحاد أن تركيا دولة مسلمة لا تنتمي إلى الحضارة الأوروبية المسيحية، وبالتالي لن يكون سهلاً اندماجها في القارة المسيحية. وقد ازداد رفض الاتحاد لانضمام تركيا لها مع كثافة الحديث التركي عن استعادة ميراث الدولة العثمانية وأمجادها.
تغيير مستبعد
ختاماً يمكن القول إن ثمة العديد من القضايا الخلافية التي تدفع الاتحاد إلى رفض لحاق تركيا بالعائلة الأوروبية، خاصة إصرار أنقرة على عسكرة الأزمة شرق المتوسط، وتكريس التوجهات السلطوية في الداخل، وهو من المتعذر تغييره في المستقبل المنظور.