وصل الاحتقان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع إلى مداه، ولا سيما بعد تزايد الاشتباكات بينهما، وإعلان كل منهما السيطرة على المواقع الاستراتيجية والمناطق التي أعلن كل طرف سقوطها بيده، خصوصاً في العاصمة الخرطوم ومدينة مروي شمال البلاد وولاية النيل الأبيض، بما يُثير تساؤلات متعددة حول تفسيرات الاختلاف بين الجيش وقوات الدعم السريع، والتي تتمثل في الخلاف حول القيادة العسكرية في المرحلة الانتقالية، ومدى إشراك القوى المدنية، والتباين إزاء دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة، وهو ما ترفضه الأولى، فضلاً عن الخلاف حول الإطار الزمني للإصلاح، وكذلك الخلاف حول إدارة ملفات السياسة الخارجية.
قد يبدو أنّ ما تشهده ساحات الخرطوم، ومدن سودانية أخرى، مجرد اشتباكات مسلحة بين قوتين عسكريتين في بلد واحد؛ الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو الملقب بحميدتي؛ لكن ما يحدث هو نتيجة مباشرة لصراع شرس على السلطة داخل القيادة العسكرية في السودان.
فمنذ أكتوبر 2021، يُدير شؤون الدولة السودانية مجلس من الجنرالات العسكريين، يضم رئيس مجلس السيادة البرهان، ونائبه حميدتي. وقد نشب الخلاف بين الرجلين حول الاتجاه الذي تسلكه البلاد في مسارها نحو الحكم المدني، خاصة أن إحدى نقاطه تتمثل في خطط ضم قوات الدعم السريع إلى الجيش، ومن سيتولى القيادة الجديدة بعد ذلك، وهو الخلاف الذي تحول إلى مواجهات مسلحة بعد أن أعادت قوات الدعم السريع انتشارها في جميع أنحاء البلاد، في خطوة اعتبرها الجيش تهديداً.
والملاحظ أن الخلافات بين البرهان وحميدتي قد ظهرت للعلن بعد توقيع الاتفاق الإطاري، في ديسمبر الماضي، والتي أجلت في خضمها عملية توقيع الاتفاق السياسي النهائي بين القوى المدنية والمكون العسكري، قبل الانزلاق إلى الاحتراب الداخلي.
موازين القوى
تعتبر قوات الدعم السريع قوة أمنية مستقلة لها شرعية وفق القانون السوداني، ولكنها عاملة تحت إطار القوات المسلحة السودانية. وتمتلك قوات الدعم قدرات وأسلحة منفصلة عن الجيش السوداني، بينها تسليح ثقيل مُتمثل في المركبات العسكرية المدرعة، ويصل قوامها إلى حوالي 100 ألف جندي وفقاً لأحد التقديرات السائدة، مع وجود قواعد لها في جميع أنحاء السودان، بما فيها العاصمة الخرطوم.
وكان الرئيس السوداني المعزول، عمر البشير، قد لجأ إلى قوات الدعم السريع، التي كانت تُعرف حينها بـ”الجنجويد”، لمساعدة الجيش السوداني في مواجهة الجماعات المتمردة في إقليم دارفور. ومنذ عام 2013، تمت إعادة هيكلتها لتُصبح تحت قيادة جهاز الأمن والمخابرات. ومع مرور الوقت، نمت قوات الدعم السريع، واستخدمت كحرس حدود على وجه الخصوص، لتضييق الخناق على الهجرة غير النظامية. وفي عام 2017، صدر قانون يُضفي الشرعية على قوات الدعم السريع كقوة أمنية مستقلة.
في المقابل، يُصنَّف الجيش السوداني على أنه جيش نظامي، ويأتي في المركز 75 على مستوى العالم، وفقاً لـ”جلوبال فاير باور” المتخصصة في ترتيب الجيوش. ويصل عدد القوات العاملة في الجيش إلى 100 ألف جندي، فضلاً عن 50 ألفاً من القوات الاحتياطية، و55 ألفاً قوات شبه عسكرية. ويمتلك الجيش نحو 191 طائرة حربية، ضمن قواته الجوية التي تُصنف باعتبارها رقم 47 ضمن الأقوى عالمياً. إضافةً إلى ما يمتلكه من دبابات، تصل إلى 170 دبابة، ومدرعات ومدافع ثقيلة وغيرها.
مؤشرات واضحة
لم تكن المواجهات العسكرية التي حدثت وليدة اللحظة، أو نتيجة خلاف عابر بين المكونين العسكريين في السودان؛ بل سبقتها مؤشرات كثيرة، ساهمت فيما يشهده السودان من محاولات لفرض “الحل العسكري” على أرض الواقع، وبما يُنذر بجمود العملية السياسية المتعثرة أصلاً طيلة الأشهر الماضية. ولعل أهم هذه المؤشرات، وتداعياتها، تبدو بوضوح على أكثر من جانب، أهمها ما يلي:
1- الخلاف حول القيادة العسكرية في المرحلة الانتقالية: بسبب مسألة الدمج وهياكل القيادة العسكرية، دار الخلاف بين الجيش وقوات الدعم السريع، وهو الخلاف الذي تمثل في الإصلاح الأمني والعسكري، حيث تُعد نقطة قيادة القوات العسكرية، خلال الفترة الانتقالية، القضية الشائكة، باعتبار أن الطرفين يتمسكان بموقفهما.
فالجيش يُطالب بأن تكون قيادة القوات العسكرية خلال الفترة المقبلة تابعة له، بينما تدفع قوات الدعم السريع باتجاه أن تكون قواتها المشتركة مع الجيش تحت قيادة مدنية. هذا، فضلاً عن تمسك الجيش السوداني بأن تكون فترة دمج قوات الدعم السريع عامين ولا تتجاوز ذلك، لأنه بنهاية العامين -تبعاً للاتفاق السياسي- ستأتي الانتخابات، وحينها سيكون هناك جيش موحد خلال هذه الانتخابات؛ بيد أن قوات الدعم السريع تطالب بأن تكون المدة 10 أعوام لدمج قواتها، وهو ما يرفضه قادة الجيش.
وهكذا، جاءت المواجهات تتويجاً لتوترات متصاعدة بين الجيش والدعم السريع. هذا، رغم أنه قبل ساعات من اندلاع المواجهات، قال وسطاء إن قائد الجيش البرهان، وقائد قوات الدعم حميدتي، مستعدان لاتخاذ خطوات لتهدئة التوتر بين قواتهما.
2- التباين حول مسألة دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة: في نهاية مارس 2023، اختتمت فعاليات ورشة الإصلاح الأمني والعسكري، التي نظمتها الآلية الثلاثية، بمشاركة القوى السياسية من القوى الموقعة على الاتفاق السياسي الإطاري، وعدد من الحركات المسلحة، والأحزاب والجماعات السياسية، بالإضافة إلى المكونين الرئيسين العسكري والمدني.
ورغم حسم العديد من القضايا الخلافية في هذه الورشة، وفي سلسلة من الورش السابقة التي ركزت على تسوية التناقضات بين المكونين المدني والعسكري في السودان؛ ظلت الإشكالية الرئيسية التي تتعلق بالتباينات الحادة في الرؤى بين المكونات العسكرية وبعضها بعضاً، وتحديداً حول مسألة دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة. وعلى هذا الأساس، اقترحت المؤسسة العسكرية أسساً ولوائح ومعايير يجب توافرها قبل هذا الدمج، في مقدمتها تبني ضوابط التأهيل المعتمدة لدى الكلية الحربية السودانية.
لكن في ظل التباين الحاد في الرؤى، بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، تم إنهاء أعمال الورشة دون التوصل إلى اتفاق، الأمر الذي وضع مستقبل التوقيع على الاتفاق السياسي النهائي في موضع الشك.
ورغم الأهمية الكبيرة لتوحيد المؤسسة العسكرية السودانية، كأحد الشروط الضرورية لإنجاح مسار الانتقال السياسي المتعثر؛ إلا أن ما شهدته الورشة الخاصة بالإصلاح الأمني والعسكري من جدل، طرح المزيد من الإشكاليات المتعلقة بهذا الإصلاح، من أهمها إشكالية الدمج.
ورغم أن عملية الدمج هي عملية بسيطة وعادية، لكن وإضافة إلى تمسك قوات الدعم السريع بالعديد من الاشتراطات، يأتي التعقيد في الحالة السودانية من طبيعة تكوين هذه القوات؛ فهناك الطابع القبلي والجهوي الذي يغلب عليها، فضلاً عن ارتباطها بقيادة تاريخية بعينها (حميدتي)، وعلاقات هذا الأخير بعدد من الزعماء العرب والأفارقة، بما مهد له أن يكون جزءاً مهماً من المعادلة العسكرية والسياسية، بل والاقتصادية، داخل البلاد، وفي الإقليم أيضاً.
3- الخلاف حول موعد الاتفاق النهائي والإطار الزمني للإصلاح: ففي ختام ورشة الإصلاح الأمني والعسكري، هددت المؤسسة العسكرية بالانسحاب وطالبت بتمديد أعمالها، فيما أصرت القوى المدنية والدعم السريع على ختامها، رغم وجود بعض الإشكاليات التي طالب الجيش بمناقشتها، كفريق اللجان الفنية، إضافة إلى إشكالية التسريح، التي رأت القوى المدنية وقوات الدعم السريع أن هذه العملية هي من أصعب التحديات التي تواجه الفترة الانتقالية، من حيث إن تسريح جميع المنتسبين الجدد في الدعم السريع، الذين تمت ترقيتهم بعد 11 أبريل 2019، كما يُطالب الجيش؛ هي عملية معقدة، لأن العناصر التي سوف يتم تسريحها لن يكون من السهل التعامل معها، فهي قد تُغذي إثارة العنف المتصاعد في مناطق مختلفة من السودان.
وبالرغم من الاتفاق على الالتزام بالعملية السياسية، التي تقودها الآلية الثلاثية، وعلى أن يكون أبريل 2023 هو الموعد لتوقيع الاتفاق النهائي، ثم يعقبه الدستور الانتقالي، وأن يكون منتصف الشهر نفسه موعداً لتشكيل حكومة تصريف أعمال لمدة 24 شهراً؛ إلا أن الخلاف بين المكونين العسكريين تبدى في نقطة مركزية، هي الإطار الزمني لحكومة تصريف الأعمال، حيث رأى الجيش أنها مدة قصيرة، وأن الجيش خلالها لا بد من أن يتحلى بوضعية مستقلة، وأن تكون الأوامر العسكرية من اختصاص القائد العام للقوات المسلحة، عبد الفتاح البرهان؛ فيما رأت قوات الدعم السريع أن عملية الإصلاح يجب أن تكون مصحوبة بتشريعات، وأن تكون جزءاً من إصلاحات شاملة لجميع مؤسسات الدولة، وبالتالي تكون المكونات العسكرية تحت إمرة وقيادة رئيس الوزراء المدني المكلف.
وهكذا، وبسبب الخلافات حول تسليم القوات المسلحة السلطة إلى رئيس وزراء مدني، أم تظل تتمتع باستقلاليتها؛ فوتت الأطراف السياسية السودانية والمجلس العسكري الحاكم، الموعد النهائي لتشكيل حكومة انتقالية بقيادة مدنية، وفقاً للجدول الزمني المتوافق عليه، حيث كان من المفترض الإعلان عن رئيس وزراء جديد ومناصب أخرى، يوم الثلاثاء 11 أبريل 2023.
4- إدارة ملفات السياسة الخارجية: فقد شكلت إدارة هذه الملفات تحدياً كبيراً للجانبين من العسكريين. وقد تبدت أبرز القضايا الخلافية بينهما في العلاقات بين السودان وإسرائيل وروسيا، إلى جانب العلاقات مع الدول المجاورة. ويتهم الجيش حميدتي بالسعي لخلق علاقات دبلوماسية موازية للدولة، في إشارة واضحة إلى زياراته التي قام بها إلى عدد من الدول التي سبق أن زارها القائد العام للجيش (البرهان)، بما يُعطي إيحاء بأن هناك قائدين للبلاد.
وبشأن العلاقة بين الخرطوم وتل أبيب، بدا بوضوح أن هناك تنافساً بين الرجلين من أجل فتح قنوات اتصال بين البلدين؛ إذ يسعى حميدتي لتأسيس علاقة مع أجهزة الأمن في تل أبيب، ما دفع البرهان ومعه حمدوك -رئيس الوزراء السابق- للاحتجاج لدى الجانب الإسرائيلي في وقت سابق. وقد زاد الخلاف بين الرجلين بخصوص هذا الملف، عندما قرر البرهان لاحقاً تسليم ملف العلاقات مع إسرائيل إلى اللواء متقاعد مبارك عبد الله بابكر، في أبريل 2022، لتوحيد قنوات الاتصال بين البلدين. إلا أن الخلاف في هذا الشأن، قد تبدّى بوضوح عندما أعلن حميدتي عدم علمه بزيارة وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين، إلى الخرطوم، مطلع فبراير الماضي، وأنه لم يلتقِ به أو الوفد المرافق له.
أما أحد أبرز الخلافات تعقيداً بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، فتتمثل في علاقة حميدتي بعدد من دول الجوار للسودان، وأبرزها تشاد وإثيوبيا وأفريقيا الوسطى. وكان حميدتي قد رفض مشاركة قواته في العمليات العسكرية التي شنها الجيش السوداني على مجموعات إثيوبية مسلحة، كانت متمركزة في أراضٍ سودانية محاذية للحدود، المعترف بها دولياً منتصف عام 2021. بل إن الخلاف بين البرهان وحميدتي، قد وصل إلى ذروته عندما رفض الأول نشر قوات الدعم السريع على الحدود مع أفريقيا الوسطى، وهو الموقف الذي دعمه رئيس المجلس الانتقالي في تشاد، محمد ديبي، الذي أبدى عدم ارتياحه لنشاط قوات الدعم السريع على حدود البلدين.
عدم استقرار ممتد
في هذا السياق، يمكن القول إن الصراع بين القيادات العسكرية، الذي كان خفياً وأصبح اليوم علنياً، الهدف منه هو تحقيق الغلبة السياسية؛ من حيث إن الخلاف بين البرهان وحميدتي لا يعتمد على التفاصيل التقنية، لدمج قوات الدعم السريع بالجيش، بل على بسط النفوذ والسلطة. ومن شأن هذا الصراع أن يفتح مستقبل السودان على عديد من الاحتمالات، التي تتقاطع في نقطة “عدم الاستقرار”، في وقت يعاني فيه البلد من انهيار الاقتصاد واشتعال العنف القبلي.