تحجيم التهديدات:
لماذا تزايدت أهمية التعاون العربي – العربي؟ (ملف خاص)

تحجيم التهديدات:

لماذا تزايدت أهمية التعاون العربي – العربي؟ (ملف خاص)



شهدت السنوات الأخيرة محاولات متعددة من جانب الدول العربية لتوطيد أواصر التعاون فيما بينها، وخاصة مع المتغيرات الاقتصادية والسياسية التي عايشتها المنطقة، والتي دفعت الدول العربية إلى تطوير صيغ للتعاون والتنسيق فيما بينها، وهي الصيغ التي اعتمدت على التداخل بين الجانبين السياسي والاقتصادي. فمبادرات الدعم الاقتصادي -على سبيل المثال- التي طُرحت لمساعدة بعض الدول كانت تستهدف في المقام الأول الحفاظ على الاستقرار السياسي في هذه الدول، وتجنب حدوث أزمات حادة تكون لها ارتدادات على دول الإقليم.

ثمة سمة رئيسية هيمنت على مشهد التعاون العربي الراهن، وهي أنه جاء في سياق صراع محتدم مع قوى إقليمية غير عربية على النفوذ بالمنطقة، وفي مقدمتها إيران وتركيا؛ إذ استهدف هذا التعاون، في جانب منه، محاولة تطويق هذه القوى وتجحيم محاولاتها التوسعية في المنطقة.

أدوات رئيسية

اعتمدت الدول العربية، في السنوات الأخيرة، على عدد من الأدوات الرئيسية لتعزيز التعاون البيني، ويتمثل أهمها فيما يلي:

1- إحياء التحالفات القديمة: وهو توجه ظهر بصورة كبيرة في المنطقة بالآونة الأخيرة، ولعل النموذج الأبرز على ذلك التحالف بين مصر والأردن والعراق، حيث سعت الدول الثلاث إلى صياغة إطار للتعاون فيما بينها وخصوصاً مع استضافة الأردن، في أغسطس 2020، قمة ثلاثية بين مصر والعراق والأردن، وشهدت أعمال القمة طرح مشروع “الشام الجديد” للتكامل الاقتصادي بين البلدان الثلاثة. ويعد هذا التحالف تطويراً لمجلس التعاون العربي الذي تأسس في فبراير 1989 ضمن مبادرة قدمتها الحكومة العراقية عقب انتهاء حربها مع إيران، وضمت ثلاث دول بجانب العراق هي: مصر، واليمن الشمالي، والأردن، ولكنه انتهى مع حرب الخليج الثانية.

2- الدعم الاقتصادي: وهو متغير تزايدت أهميته مع تعرض العديد من دول المنطقة لأزمات اقتصادية حادة، وظهر ذلك النمط بوضوح مع الاجتماع الوزاري الرباعي بين الأردن ومصر وسوريا ولبنان، المنعقد في العاصمة الأردنية يوم 8 سبتمبر 2021، والذي بحث نقل الغاز المصري إلى لبنان عبر الأراضي السورية والأردنية، وذلك للمساهمة في تخفيف أزمة الطاقة في لبنان، وانتهى الاجتماع إلى الاتفاق حول تقديم خطة عمل وجدول زمني لنقل الغاز إلى لبنان سريعاً، وذلك من خلال إحياء الخط العربي لنقل الغاز والكهرباء المتوقف منذ نهاية عام 2011.

وفي هذا الإطار، صرح وزير البترول والثروة المعدنية المصري “طارق الملا”، في 8 سبتمبر 2021 بالقول: “انطلاقاً من دور مصر الدائم تجاه الأشقاء العرب في كافة القضايا، وبتوجيهات من الرئيس عبدالفتاح السيسي بتسخير كافة الإمكانيات لمد يد العون للشعب اللبناني الشقيق، والتكاتف معه، وتضافر الجهود لتجاوز محنة أزمة الطاقة والتحديات التي يواجهها لبنان؛ تعمل مصر على سرعة التنسيق لوصول الغاز الطبيعي المصري إلى لبنان عبر الأردن وسوريا، حرصاً من مصر على التخفيف عن كاهل الشعب اللبناني والمساهمة في دعم لبنان واستقراره”.

ويرتبط بمسار الدعم الاقتصادي ملف آخر هام يتعلق بإعمار الدول العربية التي عايشت صراعات حادة في السنوات الماضية، حيث شهدت المنطقة العربية تصاعد نمط أطلق عليه في بعض الأدبيات دبلوماسية البنية التحتية Infrastructure Diplomacy، ويعبر عن لجوء بعض الشركات الحكومية أو الخاصة في عدد من الدول العربية إلى الدخول في مناقصات أو شراكات من شأنها إعادة بناء أو إعمار الدول العربية المتصدعة أو المأزومة أو المتضررة من سقوط نظم سياسية وفوضى صراعات مسلحة وسيطرة مليشيات مسلحة واستيطان تنظيمات إرهابية، وهو ما عكسته شواهد متعددة مثل تخصيص مصر 500 مليون دولار لإعادة إعمار قطاع غزة بعد المواجهات بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل في الثُلث الأخير من مايو الماضي، وتطلع تونس للمشاركة في إعادة إعمار ليبيا بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في مارس الماضي، ومشاركة الإمارات في معارض إعادة إعمار سوريا، ومساهمة السعودية في إعمار المناطق اليمنية الواقعة تحت سيطرة الحكومة الشرعية، وتنظيم الكويت مؤتمراً دولياً لإعادة إعمار العراق في فبراير 2018.

3- دعم قطاع الصحة: وهو ملف تزايدت أهميته على خلفية أزمة فيروس كورونا المستجد، وانكشاف الأوضاع الصحية في العديد من الدول العربية. وفي هذا الإطار، سعت بعض الدول العربية إلى تقديم المساعدات الصحية للدول العربية الأخرى، وهي المساعدات التي تنوعت ما بين تأمين جرعات من اللقاحات، وتوفير أدوية وأجهزة تنفس صناعية وبدلات واقية للأطقم الطبية، وإرسال لجان علمية، ونقل خبرات طبية، ومكافحة أمراض معدية، وتوطين صناعات دوائية، وتفعيل البروتوكولات المشتركة.

4- التعاون المائي: وهو التعاون الذي اكتسب زخماً متزايداً خلال السنوات الماضية، وخاصة مع التحديات المتصاعدة التي باتت تواجهها الدول العربية والمتمثلة في ندرة الأمطار، وارتفاع تبخر المياه، وتزايد معدلات الاستهلاك، الأمر الذي يؤدي تباعاً إلى تراجع موارد المياه بالدول العربية، بحيث تشير الأدبيات المتخصصة إلى وقوع معظمها في دائرة الفقر المائي. وفي هذا السياق، أبدت الدول العربية دعماً ملحوظاً لكل من مصر والسودان في ملف سد النهضة بعد احتدام أزمة السد في ظل الإجراءات الأحادية التي تقوم بها إثيوبيا والتي تؤثر بالسلب على المصالح المائية لكل من مصر والسودان.

كما بزغ مؤخراً التعاون المائي بين مصر والعراق، حيث قام وفد مصري رفيع المستوى بزيارة العراق في شهر أغسطس الفائت كإحدى نتائج الاجتماع الأول للجنة التوجيهية الفنية المشتركة المصرية – العراقية في مجال الموارد المائية والري، والذي عقد في 6 يونيو 2021، وانتهى بالاتفاق على تشكيل مجموعة عمل من الفنيين المصريين لزيارة العراق تضم نخبة من الخبراء والفنيين في مجالات متنوعة، مثل: أعمال تطوير الري، والدراسات والبحوث، وحصاد مياه الأمطار، ونظم الرصد والمتابعة، وأنظمة التنبؤ.

أهداف متعددة

ترتبط أشكال التعاون العربي البيني بعدد من الأهداف المتنوعة المتمثلة فيما يلي:

1- مواجهة الأزمات الداخلية: وهو بُعد هام في مسار التعاون العربي. فعلى سبيل المثال، تتصل محاولات تقديم الدعم للبنان في مجال الطاقة. فالاجتماع الرباعي الذي جرى في الأردن، يوم 8 سبتمبر 2021، والذي بحث نقل الغاز المصري إلى لبنان عبر الأراضي السورية والأردنية، كان يستهدف بصورة رئيسية مواجهة الأزمة الاقتصادية الحادة في لبنان، التي تجلت ملامحها في التراجع الحاد في قيمة العملة اللبنانية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة والتضخم، وتدهور سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأمريكي، التي خسرت أكثر من 90% من قيمتها خلال أقل من عامين. وأشار البنك الدولي في تقريره الأخير، عن وضع الاقتصاد اللبناني ربيع 2021، إلى أن الوضع المالي والاقتصادي في لبنان يعد إحدى ثلاث أزمات في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.

كما كان للأزمة الاقتصادية اللبنانية تأثيرات على إمدادات المياه والكهرباء للمواطنين. إذ توقفت المرافق الحكومية عن إمداد الكهرباء للبنانيين في مناطق عديدة، وهو ما دفع الأفراد إلى البحث عن الوقود اللازم لتشغيل المولدات الاحتياطية. وبالتوازي مع ذلك، تزايدت عمليات تهريب الوقود، وتوسعت السوق السوداء. وفي شهر أغسطس الماضي، أعلن البنك المركزي اللبناني أنه لم يعد بإمكانه دعم واردات الوقود بسعر صرف تفضيلي، ليتم بعد ذلك الإعلان عن رفع أسعار الوقود بصورة كبيرة.

2- دعم الاستقرار السياسي: فالتعاون بين الدول العربية انطوى على مساعٍ لدعم الاستقرار السياسي في بعض الدول التي تواجه مشكلات كبيرة، ولعل النموذج الأبرز على ذلك الحالة اللبنانية، فالاجتماع الرباعي الأخير بالأردن لبحث نقل الغاز إلى لبنان، عكس حالة من الدعم الإقليمي العربي لحكومة “نجيب ميقاتي” في لبنان، ومحاولة إقليمية لمساعدة لبنان على الخروج من حالة الفراغ الحكومي القائمة منذ إعلان رئيس الحكومة “حسان دياب” تقديم استقالته بعد انفجار مرفأ بيروت في أغسطس 2020.

3- الترابط بين الأزمات الداخلية والأمن الإقليمي: وهو محرك هام للتعاون العربي-العربي في السنوات الأخيرة، إذ إن الأزمات التي واجهتها بعض الدول العربية لم تكن محصورة في نطاق داخلي، ولكنها امتدت إلى الجوار الإقليمي ومثلت تهديداً للدول الأخرى بالمنطقة، فالصراعات التي شهدتها سوريا وليبيا واليمن كانت لها انعكاسات خطيرة على دول الجوار. كما انطوت الأزمة اللبنانية الراهنة على إشكاليات عديدة بالنسبة للأمن الإقليمي العربي، حيث تزايدت مؤشرات تحول لبنان إلى دولة فاشلة خلال السنوات الأخيرة، فقد تعمقت حدة الأزمة الاقتصادية التي تواجهها الدولة، حتى إن الحكومة أعلنت في شهر مارس 2020 إفلاس الدولة عشية الاستحقاق الأول لسندات الدين السيادية، وارتبط هذا الإعلان بالتراجع الحاد في كافة المؤشرات الاقتصادية، وتصاعد احتجاجات الشارع اعتراضاً على الأوضاع الاقتصادية المتردية. علاوة على ذلك، فقد بدا أن النخب السياسية فاشلة في إدارة شؤون الدولة في خضم العجز الذي استمر لنحو عام عن تشكيل حكومة لبنانية جديدة وذلك قبل أن يتولى “نجيب ميقاتي” المهمة مؤخراً. وتتزامن هذه الإشكاليات مع استمرار معضلة “حزب الله” في المشهد السياسي اللبناني كطرف ينازع الدولة اللبنانية في وظيفة احتكار استخدام القوة والسلاح.

وتُنتج هذه المعطيات عدداً من التداعيات الإقليمية، فانهيار الأوضاع داخل لبنان، واحتمالية تفكك مؤسسات الدولة وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية؛ سيعني -بشكل أو بآخر- تمدد التهديدات الأمنية إلى دول الجوار، كما يمكن أن يتحول لبنان إلى منصة لتهديد الأمن المجتمعي لدول الإقليم، خاصة أن الشهور الماضية شهدت ضبط بعض دول المنطقة لشحنات مخدرات مهربة من لبنان إلى أراضيها.

4- تخفيف العزلة على النظام السوري: حيث ظهرت العديد من المؤشرات في الآونة الأخيرة حول مساعي الدول العربية إلى إخراج النظام السوري من عزلته، وبدا هذا التوجه -على سبيل المثال- مع التنسيق الذي يجري بين كل من مصر والأردن وسوريا ولبنان لنقل الغاز المصري إلى لبنان عبر الأراضي الأردنية والسورية. كما قام وفد وزاري لبناني ترأسته نائبة رئيس الحكومة وزيرة الدفاع ووزيرة الخارجية بالتكليف في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية السابقة، زينة عكر، بزيارة دمشق، يوم 4 سبتمبر 2021، في أول زيارة رسمية على هذا المستوى بين البلدين منذ عام 2011، وكان الهدف من الاجتماع بحث قضية نقل الغاز المصري إلى لبنان. وبعد هذا الاجتماع، أعلنت الحكومة السورية أنها ترحب بطلب لبنان استيراد الغاز المصري لتوليد الكهرباء عبر أراضيها. كما أكّد الرئيس السوري “بشار الأسد”، في لقاء مع قيادات حزبية لبنانية في دمشق في 5 سبتمبر الفائت، على دعم سوريا للشعب اللبناني ووقوفها معه على مختلف الأصعدة.

5- تحييد التدخلات الخارجية: ربما يمثل هذا العامل الدافع الرئيسي للتحركات العربية الأخيرة، إذ تطمح الدول العربية، من خلال تطوير صيغ التعاون البيني، إلى تحييد التدخلات الخارجية في الدول العربية، فانفتاح الدول العربية على النظام السوري يستهدف، في جانب كبير منه، تقليل التأثير الإيراني على دمشق، والسماح للنظام السوري بمساحة للتحرك الإقليمي دون الاقتصار على علاقاته مع طهرن، بالإضافة إلى مساعدة النظام السوري على مواجهة التدخل التركي المتزايد في الشأن السوري. وهو الأمر الذي يظهر أيضاً في الحالتين اللبنانية والعراقية، ومحاولة الدول العربية موازنة النفوذ الإيراني هناك. ويلاحظ أيضاً أن تصاعد التعاون المائي بين الدول العربية بات يكتسب وجهاته في ظل الخلافات مع بعض دول الجوار على خلفية تدفق ما يقرب من 65% من مصادر المياه العذبة من خارج المنطقة العربية، وتحديداً من تركيا وإيران وإثيوبيا.

وتأسيساً على ما سبق، يُناقش هذا الملف، الذي يضم تحليلات وتقديرات مركز العالم العربي وفريق موقع الحائط العربي، مسارات وأنماط التعاون بين الدول العربية، وأدوار هذا التعاون في مواجهة التهديدات الإقليمية لأمن ومصالح الدول العربية.