تواصل الولايات المتحدة الأمريكية توجيه ضربات عسكرية ضد بعض الجماعات التي تنتمي إلى مليشيا الحشد الشعبي العراقية، ولا سيما حركة النجباء وكتائب حزب الله. إذ شنت عملية عسكرية جديدة في 4 يناير الجاري، أسفرت عن مقتل مشتاق طالب السعيد الذي يُلقب بـ”أبو تقوى”، آمر “اللواء 12” التابع لحركة النجباء.
ورغم أن هذه الضربة لا تعبر عن توجه جديد تتبناه إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للتعامل مع التهديدات التي تواجه المصالح والقواعد الأمريكية في المنطقة، ولا سيما في العراق، حيث سبق أن نفذت واشنطن عمليات مماثلة ضد عناصر ومقرات تابعة لحركة النجباء وكتائب حزب الله؛ فإن توقيت ومكان العملية الأخيرة التي وقعت في شارع فلسطين شرقي العاصمة بغداد، يوحي بأن واشنطن تسعى عبرها إلى توجيه رسائل عديدة في اتجاهات مختلفة.
ومن دون شك، لا يمكن فصل هذا الهجوم الجديد الذي شنته الولايات المتحدة الأمريكية داخل العراق عن مجمل التطورات التي طرأت على الساحة الإقليمية، خاصة فيما يتعلق بتصاعد حدة التوتر بين إسرائيل من جهة، وكل من إيران والمليشيات الموالية لها من جهة أخرى، والذي يمكن القول إنه دخل مرحلة جديدة خلال الفترة الأخيرة بفعل الأهداف التي بدأت تل أبيب في التركيز عليها في سياق إدارة التصعيد مع إيران وحلفائها.
اعتبارات عديدة
يمكن تفسير تجدد الضربات العسكرية الأمريكية ضد حركة النجباء وكتائب حزب الله في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- توجيه رسالة ردع مع حلول ذكرى سليماني والمهندس: كان لافتاً أن الضربة العسكرية الجديدة جاءت بعد يوم واحد من حلول الذكرى الرابعة لمقتل القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني ونائب أمين عام مليشيا الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس في العملية العسكرية التي شنتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في 3 يناير 2020.
وقد تخلل هذه الذكرى تهديدات متكررة من جانب إيران وحلفائها لواشنطن بـ”دفع ثمن” تلك الضربة، على غرار التهديد الذي وجهه قائد الحرس الثوري حسين سلامي، في 28 ديسمبر الفائت، في سياق نفيه وجود علاقة بين اغتيال سليماني وعملية “طوفان الأقصى” التي شنتها “كتائب القسام”- الذراع العسكرية لحركة حماس- في 7 أكتوبر الماضي، حيث قال إن “عملية طوفان الأقصى هي عملية فلسطينية بالكامل، وإن إيران هي من سينتقم لمقتل سليماني”.
2- تقليص أهمية سحب حاملة الطائرات “جيرالد فورد“: جاءت الضربة الجديدة بعد القرار الذي اتخذته إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بسحب حاملة الطائرات “جيرالد آر فورد” من منطقة شرق المتوسط وإعادتها إلى قاعدتها الأصلية في فرجينيا، وهي الحاملة التي أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية تعليمات لها في 10 أكتوبر الماضي بالتوجه إلى تلك المنطقة من أجل توجيه رسائل ردع إلى إيران وحلفائها بعدم توسيع نطاق الحرب التي تشنها إسرائيل ضد حركة حماس في قطاع غزة، حيث كانت الرسالة موجهة تحديداً إلى حزب الله اللبناني، في ظل الضغوط التي تعرض لها من جانب حركة حماس تحديداً وبعض الفصائل الأخرى لرفع مستوى التصعيد مع إسرائيل، وفتح جبهة جديدة في جنوب لبنان لتخفيف الضغط على حماس في قطاع غزة.
وقد أثارت هذه الخطوة ردود فعل متباينة، سواء من جانب إيران وحلفائها أو من جانب إسرائيل، التي سعت إلى إقناع الإدارة الأمريكية بعدم اتخاذها، في ظل استمرار الحرب التي تشنها داخل غزة والعمليات التي تنفذها في مناطق مختلفة، ولا سيما في لبنان وسوريا. ومن هنا، فإن واشنطن يبدو أنها سعت عبر الضربة الجديدة التي وجهتها في العراق إلى تأكيد أن سحب حاملة الطائرات لا يعني أنها في اتجاهها إلى تقليص مستوى حضورها العسكري في المنطقة، أو أنها سوف تتغاضى عن التهديدات التي تواجه قواعدها ومصالحها في دول مختلفة، خاصة في العراق وسوريا.
3- الاستعداد لتصعيد إيراني محتمل بعد تفجيرات كرمان: رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية سارعت إلى نفي ضلوعها في التفجيرات التي وقعت في مدينة كرمان، مسقط رأس سليماني، خلال الاحتفال بذكرى اغتياله، في 3 يناير الجاري؛ إلا أنها لا تستبعد، على ما يبدو، أن يدفع ذلك إيران وحلفائها إلى رفع مستوى التصعيد ضدها في المنطقة خلال المرحلة القادمة.
صحيح أن إيران لم توجه حتى الآن اتهاماً مباشراً وواضحاً بعد لأية جهة بالمسئولية عن تلك التفجيرات؛ إلا أن تصريحات بعض المسئولين الإيرانيين لا تعفي واشنطن وتل أبيب من المسئولية، وهو ما يمكن أن يفرض تداعيات مباشرة على إدارة إيران للتصعيد على المستوى الإقليمي، وإن كانت تقارير عديدة تشير في الوقت نفسه إلى أنها أوعزت إلى حلفائها، قبل الضربة الأمريكية الأخيرة لأحد مقرات حركة النجباء، بتقليص مستوى الضربات التي تتعرض لها القواعد الأمريكية في العراق وسوريا.
4- تبني سياسة “تشبيك الملفات“: توازت الضربة العسكرية الأمريكية ضد أحد مقرات حركة النجباء في العراق، مع تحركات أمريكية متسارعة في ملفات إقليمية أخرى، على نحو يُوحي بأن واشنطن تتبنى في الفترة الحالية ما يمكن تسميته بسياسة “تشبيك الملفات”.
فقد جاءت الضربة الأمريكية في العراق بعد نحو أربعة أيام من العملية التي شنتها القوات الأمريكية في البحر الأحمر، وأسفرت عن مقتل عشرة عناصر وغرق ثلاثة زوارق تابعة للمليشيا الحوثية كانت تحاول استهداف سفينة حاويات في المنطقة. كما أنها جاءت أيضاً في اليوم نفسه الذي أعلن فيه عن إيفاد عاموس هوكشتاين، المبعوث الخاص للرئيس جو بايدن، إلى إسرائيل، وذلك لإجراء مباحثات تهدف إلى منع المزيد من التصعيد مع حزب الله اللبناني.
وهنا، فإن محاولة واشنطن الموازنة بين خيارات سياسية وعسكرية في آن واحد يوحي بأنها تسعى لتجنب ما يمكن تسميته بـ”المحظور”، وهو توسيع نطاق الحرب الحالية، وبالتالي دفعها لرفع مستوى انخراطها فيها رغم انشغالها باستحقاقات أخرى مهمة، على غرار الانتخابات الرئاسية التي سوف تجري في نهاية العام الحالي.
مسارات رمادية
رغم كل ما سبق، لا يمكن القول إن المليشيات الموالية لإيران سوف تتوقف عن التحركات التي تقوم بها، لرفع كُلفة العمليات العسكرية التي تشنها إسرائيل، سواء في غزة أو في سوريا أو في لبنان، فضلاً عن الدعم الأمريكي المستمر لها. إذ لا يمكن التكهن بما إذا كانت رسائل التصعيد الأمريكية قد حققت هدفها من عدمه، فضلاً عن أن حدود ما تسميه إيران بـ”الصبر الاستراتيجي” ما زالت رمادية حتى الآن بانتظار تبلور معطيات جديدة يمكن أن تتضح معها معالم ومستوى التصعيد في المنطقة خلال المرحلة القادمة.