انعكاسات التوتر:
لماذا تركز فرنسا على التدخلات الإيرانية في المنطقة؟

انعكاسات التوتر:

لماذا تركز فرنسا على التدخلات الإيرانية في المنطقة؟



رغم أن معظم الدول الغربية، إن لم يكن مجملها، بدأت خلال الفترة الماضية في توجيه انتقادات حادة للسياسة التي تتبناها إيران إزاء العديد من القضايا والملفات التي تحظى باهتمام خاص من جانب الأولى؛ إلا أن الموقف الفرنسي تحديداً كان الأكثر بروزاً في هذا السياق، إلى جانب الموقف الأمريكي. وإذا كان من المفهوم هذا التوجه الذي تتبناه الولايات المتحدة الأمريكية تجاه إيران، باعتبار أن واشنطن كانت طرفاً أساسياً في معظم الملفات الخلافية العالقة مع طهران؛ فإن تحليل أبعاد الموقف الفرنسي يستدعي في المقام الأول دراسة اتجاهات السياسة التي تتبعها باريس بشأن العديد من الملفات الإقليمية، على غرار الملف اللبناني، إلى جانب حدود التغير في أولويات الأجندة الفرنسية في المنطقة في مرحلة ما بعد اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية.

لم تكتفِ فرنسا بالمشاركة في الحملة التي تقودها العديد من الدول الغربية تجاه إيران، على خلفية تعثر المفاوضات النووية، وإنما باتت تركز على توجيه انتقادات حادة للتدخلات الإقليمية التي تقوم بها إيران في الشرق الأوسط، ولإصرار إيران على تطوير القدرات الصاروخية والطائرات من دون طيار. ففي لقائه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في أول فبراير الجاري، أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عزم فرنسا العمل مع إسرائيل “في وجه أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط”.

تغير ملحوظ

وفي مقابلتها مع صحيفة “الشرق الأوسط”، في 2 من الشهر نفسه، قالت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا إن “الشرق الأوسط يعاني من الأزمات، وإن إيران تعتمد نهجاً تصعيدياً من خلال أنشطتها المزعزعة للاستقرار”، وأشارت في هذا السياق إلى البرنامجين النووي والصاروخي، إلى جانب الطائرات المسيرة، والتهديدات المباشرة التي تفرضها عن طريق المليشيات الموالية لها.

اللافت في هذا السياق هو أن هذا النهج الذي تتبناه باريس إزاء طهران يعبر عن تغير بارز في السياسة الفرنسية بشكل عام، إذ كانت فرنسا من أولى الدول الغربية التي سعت إلى تطوير علاقاتها مع إيران في أعقاب الإعلان عن الوصول إلى الاتفاق النووي في 14 يوليو 2015، وبداية رفع العقوبات الدولية التي كانت مفروضة عليها في منتصف يناير 2016، بل إنها استقبلت الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، في 27 من الشهر نفسه، أى بعد أقل من أسبوعين على رفع العقوبات، حيث تم توقيع صفقات ضخمة بين الطرفين، كان أبرزها صفقات مع شركات مثل “إيرباص” و”بيجو” و”توتال”.

ورغم أن باريس انتقدت القرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، في 8 مايو 2018، بالانسحاب من الاتفاق النووي، ثم فرض عقوبات أمريكية على إيران بداية من 7 أغسطس من العام نفسه، بل وسعت إلى فتح قنوات تواصل بين واشنطن وطهران؛ إلا أن ذلك -في مجمله- لم يَحُلْ دون توتر العلاقات بين الأخيرة وباريس، ووصولها إلى المرحلة التي دفعت فرنسا إلى تبني سياسة أكثر تصعيداً تجاه إيران بدت جلية في التصريحات الأخيرة التي أدلى بها كبار المسؤولين الفرنسيين.

دوافع عديدة

يمكن تفسير هذا التحول في الموقف الفرنسي إزاء إيران، ولا سيما فيما يتعلق بالتركيز على تداعيات التدخلات الإقليمية الإيرانية في المنطقة، في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- استمرار الأزمة السياسية اللبنانية: ترى فرنسا أن التدخل الإيراني في الملف اللبناني يمثل أحد أسباب استمرار الأزمة السياسية اللبنانية، والتي تصاعدت حدتها في مرحلة ما بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون دون الوصول إلى توافق بين القوى السياسية اللبنانية على الرئيس الجديد، على نحو أدى إلى حدوث فراغ رئاسي، توازى مع تعطل تشكيل حكومة جديدة، وعرقلة التحقيق في تفجيرات مرفأ بيروت.

وقد بدا اهتمام باريس بالملف اللبناني جلياً في استضافتها الاجتماع الخماسي بشأن لبنان، في 6 فبراير الجاري، والذي لم تشارك فيه إيران، التي سارعت إلى الرد بخطوة مقابلة تمثلت في الزيارة التي قام بها مساعد وزير الخارجية وكبير المفاوضين الإيرانيين علي باقري كني إلى بيروت، بعد ذلك بيوم واحد، والتي أعقبت الزيارة التي قام بها وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان إلى العاصمة اللبنانية في 13 يناير الفائت، والتي سعت طهران إلى توجيه رسائل عبرها تؤكد أنها حاضرة بقوة في هذا الملف تحديداً رغم كل الضغوط التي تتعرض لها في الفترة الحالية.

2- تصاعد تهديدات الحرس الثوري الإيراني: تدرك باريس أن الحرس الثوري هو المؤسسة التي تقوم بإدارة العمليات الخارجية التي تسعى من خلالها إيران إلى توسيع نطاق نفوذها الإقليمي، بل واستهداف مصالح خصومها على مختلف المستويات. وقد بدأت الدول الأوروبية، ومن بينها فرنسا، في توجيه اتهامات إلى “سپاه پاسداران” بالمسؤولية عن محاولة استهداف قادة وكوادر المعارضة الإيرانية الموجودين في بعض تلك الدول، وتهديد أمن ومصالح الدول نفسها في المنطقة، على نحو دفعها إلى التهديد بإدراج الحرس الثوري على قائمة التنظيمات الإرهابية الأوروبية، وإن كانت الخطوة قد تأجلت للحفاظ على فرصة الوصول إلى صفقة نووية جديدة رغم العقبات القائمة أمام هذا السيناريو.

وقد كان لافتاً أن باريس شهدت، في 12 فبراير الجاري، تظاهرة شارك فيها آلاف المعارضين للنظام الإيراني، طالبوا فيها الدول الأوروبية باتخاذ خطوة تصنيف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية، وذلك بالتوازي مع احتفالات إيران بحلول الذكرى الرابعة والأربعين لاندلاع الثورة في عام 1979.

3- ارتفاع عدد المعتقلين الفرنسيين في إيران: أصبح ملف المعتقلين الفرنسيين داخل إيران أحد الملفات الخلافية العالقة بين الطرفين، خاصة بعد أن ارتفع عدد المعتقلين ليصل إلى سبعة فرنسيين حسب تصريحات وزيرة الخارجية كاترين كولونا، التي طالبت نظيرها الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، على هامش مشاركتهما في اجتماع “بغداد 2” في العاصمة الأردنية عمّان، في 20 ديسمبر الماضي، بالإفراج الفوري عنهم، وبتوقف إيران عن تدخلاتها في الشؤون الداخلية لبعض دول المنطقة.

ورغم أن السلطات الإيرانية أفرجت، في 11 فبراير الجاري، عن الباحثة الفرنسية (من أصل إيراني) فريبا عادلخاه، والتي كانت تخضع لعقوبة بالسجن لمدة خمسة أعوام لإدانتها بـ”تهديد الأمن القومي للبلاد”؛ إلا أنه لم يتضح بعد ما إذا كان سيتم السماح لها بالسفر إلى فرنسا أم لا. وحتى في حالة حدوث ذلك، فإن هذا الملف سوف يبقى ضاغطاً على العلاقات بين الدولتين وسبباً في استمرار التوتر الحالي.

4- انخراط إيران في الحرب الروسية الأوكرانية: تسبب انخراط إيران في الحرب الأوكرانية، عبر تقديم دعم عسكري لروسيا تمثل في الطائرات من دون طيار التي استخدمتها في إدارة عملياتها العسكرية في أوكرانيا، في تصعيد حدة التوتر في العلاقات بين الدول الغربية وإيران. وفي رؤية باريس، فإن هذا الانخراط ربما يساهم في استمرار الحرب وتقليص حدة الضغوط التي تتعرض لها روسيا من جانب الدول الغربية لإنهاء الحرب، وبالتالي استمرار تداعياتها، ولا سيما على صعيد أزمة الطاقة التي ما زالت الدول الأوروبية تحاول التعامل معها، عبر البحث عن شركاء جدد، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط، وهو التوجه الذي كانت فرنسا من أولى الدول التي تبنته، على نحو يبدو جلياً في الصفقات التي وقعتها مع الجزائر، فضلاً عن سعيها إلى تطوير علاقاتها مع العراق، التي قام رئيس وزرائها محمد شياع السوداني بزيارة باريس في 26 يناير الفائت، حيث وقع -حسب تقارير عراقية- أكبر صفقة في تاريخ العلاقات بين الدولتين، وهي خطوة لن تتوافق -في الغالب- مع حسابات ومصالح طهران.

قنوات تواصل

مع ذلك، لا تبدو فرنسا في وارد أن تصل بالتصعيد مع إيران إلى مستوى ربما يفرض تداعيات سلبية على مصالحها في المنطقة، إذ إنها سوف تحرص على إبقاء قنوات التواصل قائمة مع إيران، لتحقيق هدفين رئيسيين: أولهما، الإفراج عن الفرنسيين المعتقلين في السجون الإيرانية، وهو ملف يحظى باهتمام خاص من جانب باريس لاعتبارات داخلية في المقام الأول. وثانيهما، تعزيز فرص الوصول إلى صفقة نووية جديدة تقلص من احتمال انتقال التصعيد بين إيران وبعض القوى الإقليمية والدولية، مثل إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، إلى مواجهة عسكرية سوف تفرض بدورها ارتدادات على مصالحها بشكل مباشر.