سلاح الطاقة:
لماذا ترسل طهران الوقود إلى بؤر الأزمات العربية؟

سلاح الطاقة:

لماذا ترسل طهران الوقود إلى بؤر الأزمات العربية؟



حوّلت إيران، خلال السنوات الأخيرة، الوقود إلى أحد أهم أدوات سياستها الإقليمية. فعلى امتداد بؤر الصراعات والأزمات بالمنطقة العربية، سعت طهران إلى تعزيز حضورها من خلال إرسال شحنات الوقود مستغلة في ذلك تعرض بعض الدول، مثل لبنان واليمن وسوريا والعراق، إلى أزمات اقتصادية واجتماعية حادة. وبقدر ما كانت هذه السياسة تخدم المصالح الإيرانية ومصالح وكلاء طهران، فإنها أيضاً انطوت على أبعاد سلبية على بؤر الأزمات، إذ أنها ساهمت في تصاعد التوترات الداخلية في بعض الدول، وذلك على غرار ما جرى في لبنان بعد إعلان حزب الله، في 19 أغسطس الجاري، عن استيراد الوقود مع إيران، وهو القرار الذي أدى إلى نشوب خلافات سياسية حادة داخل لبنان، وخاصة أنه أظهر الحزب على أنه صاحب القرار السياسي في المشهد اللبناني بعيداً عن مؤسسات الدولة.

اتجاه متصاعد

شهدت السنوات الأخيرة تصاعداً في استخدام إيران لشحنات الوقود كواحدة من أدوات سياستها الإقليمية في المنطقة العربية. فقد اعتاد النظام السوري منذ بداية الصراع الداخلي في عام 2011 الاستناد إلى إمدادات الوقود الإيراني. ووفقاً لبعض التقديرات، فإن النظام اعتمد على حليفته إيران للحصول على 70 ألف برميل يومياً في المتوسط، كما تشير تقديرات أخرى إلى أن شحنات النفط التي قدمتها طهران للنظام خلال الفترة من 2013 إلى 2018، تجاوزت قيمتها عشرة مليارات دولار.

وسعت إيران إلى تعزيز نفوذها داخل العراق عبر توريد الغاز الطبيعي للأخيرة، والذي يمثل عنصراً هاماً في تشغيل محطات توليد الكهرباء. ففي تصريحات لوزير النفط العراقي إحسان عبد الجبار، في 22 إبريل 2021، كشف عن استيراد العراق 50 مليون متر مكعب من الغاز من إيران لتوفير الطاقة الكهربائية يومياً، وأكد حينها أيضاً على أن “العراق سيبقى معتمداً على الغاز الإيراني لغاية 2024 لتشغيل محطات إنتاج الطاقة الكهربائية في البلاد”، موضحاً أن “لديهم مشكلة في استيراد الغاز الإيراني تتمثل في عدم استقرار التدفق والبحث جار عن بدائل”. وفي 2 مايو الماضي، أشار وزير النفط الإيراني بيجن نامدار زنكنه، أثناء اجتماع مع وزير الكهرباء العراقي ماجد مهدي حنتوش، إلى أن إيران صدّرت 27 مليار متر مكعب من الغاز الإيراني إلى العراق. وبالرغم من المشكلات التي واجهت توريد الغاز الإيراني للعراق نتيجة لتزايد ديون العراق المستحقة لإيران نظير توريد الغاز، فليس من المرجح أن تقطع إيران إمدادات الغاز لبغداد لأنها أداة هامة للحفاظ على النفوذ الإيراني هناك.

ومثلت الحالتان اللبنانية واليمنية نماذج بارزة لتفعيل سياسة الوقود الإيراني في المنطقة. فقد ظل حزب الله يُلوِّح، بين الحين والآخر، بورقة إمدادات الوقود الإيراني، حتى جاء الأمين العام للحزب حسن نصر الله، في 19 أغسطس الحالي، ليؤكد بدء استيراد الغاز والمازوت من إيران، وذكر أن “شحنة وقود ستبحر من إيران إلى لبنان خلال ساعات وستعقبها المزيد من الشحنات”، وحذر الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من أن “السفينة ستكون أرضاً لبنانية بمجرد إبحارها”.

وفي سياق متصل، انكشف دعم إيران للمتمردين الحوثيين في اليمن بالوقود خلال السنوات الماضية. فعلى سبيل المثال، كشف تقرير للجنة خبراء في الأمم المتحدة، في 19 يناير 2019، أن “عائدات وقود يشحن بطريقة غير قانونية من موانئ في إيران تسهم في تمويل حرب الحوثيين ضد قوات الحكومة الشرعية في اليمن”، وذكر التقرير أنه تم “تحديد عدد صغير من الشركات، سواء داخل اليمن أو خارجه، تعمل كشركات واجهة، وتقوم باستخدام وثائق مزيفة لإخفاء المساعدات النفطية الإيرانية للحوثيين”.

كما دلل على هذا التوجه الإيراني قرار وزارة الخزانة الأمريكية، في 10 يونيو الماضي، بفرض عقوبات على كيانات وأفراد يمنيين لارتباطهم بإيران، وتضمنت العقوبات شبكة تهريب تساعد في تمويل فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني وجماعة الحوثي في اليمن. ووفقاً لبيان وزارة الخزانة الأمريكية، فإن الشبكة يقودها الممول الحوثي سعيد الجمال المقيم في إيران، ويدير شبكة من الشركات والسفن والتي تهرب الوقود والمنتجات البترولية والسلع الإيرانية الأخرى إلى العملاء في جميع أنحاء الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا. وأضاف البيان أن “هذه الشبكة تدر عشرات الملايين من الدولارات من عائدات بيع السلع، مثل البترول الإيراني، والتي يتم بعد ذلك توجيه جزء كبير منها عبر شبكة معقدة من الوسطاء والتبادل في دول متعددة للحوثيين في اليمن”.

أهداف رئيسية

ترتبط سياسة الوقود الإيرانية في بؤر الأزمات العربية بعدد من الأهداف الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1- دعم النفوذ الإيراني: سعت طهران من خلال إمدادات الوقود إلى توسيع مساحة نفوذها في المنطقة، والتأكيد على تداخلها في أكثر من دولة بالمنطقة، كما تراهن إيران على إمكانية استخدام هذه الورقة لتحسين صورتها في المنطقة وتقديم نفسها كطرف يساعد في مواجهة الأزمات التي تعاني منها بعض الدول. وتعول طهران في هذا الإطار على تعرض هذه الدول لأزمات داخلية حادة وذلك على غرار لبنان الذي يعاني من أزمة اقتصادية حادة انعكست تجلياتها على قطاع الطاقة وإمدادات الوقود.

2- مساعدة الحلفاء الإقليميين: تمارس إمدادات الطاقة الإيرانية دوراً هاماً في دعم حلفاء طهران ووكلاءها في المنطقة. ففي سوريا، ساعدت هذه الإمدادات النظام السوري على مواجهة الأزمات والالتفاف على العقوبات الغربية المفروضة عليه، وخصوصاً أن الصراع أدى إلى فقدان النظام لمناطق تتواجد فيها مصادر للنفط بعد خضوعها لقوى المعارضة والتنظيمات الإرهابية. والأمر ذاته بالنسبة للمتمردين الحوثيين وحزب الله اللبناني، فإمدادات الوقود الإيرانية اضطلعت بدور هام في مواصلة الحوثيين الحرب لفترة زمنية طويلة. وفي السياق ذاته، يكتسب توقيت إعلان حزب الله عن وصول شحنة وقود إيرانية إلى لبنان، في 19 أغسطس الجاري، دلالة هامة بالنسبة للحزب، لاسيما مع تصاعد الاستياء داخل لبنان من الأدوار التي يقوم بها، والاتهامات الموجهة إليه بالتسبب في الأزمات التي يواجهها لبنان، بالاشتراك مع النخب السياسية الموجودة. فضلاً عن محاولة اتجاهات عديدة الربط بين الحزب وحادث انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020، بالإضافة إلى السياسة الخارجية للحزب والتي جعلت أطرافاً وقوى عديدة تنظر إليه كأداة لخدمة المصالح الإيرانية، دون أن يأخذ في الحسبان مصالح الدولة اللبنانية.

3- تعزيز المكاسب الاقتصادية: ففي مقابل إمدادات الوقود، تتحصل إيران على بعض المكاسب الاقتصادية. فعلى سبيل المثال، تصل المبالغ المتأخرة المستحقة على العراق نظير استيراد الغاز الإيران إلى أكثر من 6 مليار دولار حسب بعض التقديرات. كما أن تزويد النظام السوري بالوقود الإيراني ارتبط بعدد من المكاسب الاقتصادية لإيران. فعلى سبيل المثال، حصلت طهران على امتيازات اقتصادية في مختلف القطاعات داخل سوريا نظير مساعدتها للنظام، وربما أهم هذه الامتيازات الاتفاقية التي تمنح طهران امتياز استخراج الفوسفات من منجم الشرقية. وكذلك الاتفاقية التي تمنح إيران حق استكشاف النفط في البلوك رقم 12 في دير الزور. علاوة على ذلك، فإن طهران تراهن على حصولها على عقود كبيرة في إعادة الإعمار بسوريا وخصوصاً مع الرسائل التي بعث بها النظام السوري بأن الدول التي دعمته سيكون لها أولوية في ملف إعادة الإعمار.

4- رسائل للدول الغربية: يتعلق أحد أهداف سياسة الوقود الإيرانية بمحاولة توجيه رسائل للدول الغربية مفادها أن إيران قادرة على التحرك إقليمياً بالرغم من الضغوط الغربية المفروضة عليها، كما لا ينفصل هذا الأمر عن تطورات الملف النووي الإيراني ومفاوضات فيينا مع القوى الدولية. وعليه، يبدو أن إعلان حزب الله عن استيراد الوقود من إيران محاولة لإقناع القوى الغربية بعدم جدوى الصدام مع طهران، وكذلك لدفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى تخفيف العقوبات المفروضة عليها باعتبار أن هذه السياسات الغربية الضاغطة على طهران لم تمنعها من مواصلة دعم حلفاءها عبر أدوات عديدة بما فيها إمدادات الوقود.

5- استيعاب ضغوط الداخل: تمارس قوى داخلية في إيران ضغوطاً قوية من أجل مواصلة تقديم الدعم للحلفاء الإقليميين، رغم الأزمة الاقتصادية التي تواجهها إيران بسبب العقوبات الأمريكية. ويقود الحرس الثوري هذا الاتجاه، حيث يرى أن تقديم هذا الدعم يمثل آلية مهمة للحفاظ على مكتسبات الدور الإقليمي الإيراني في المنطقة. واللافت في هذا السياق، أن هذا التوجه ربما يتزايد في المرحلة القادمة، على ضوء السياسة الجديدة التي تتبناها حكومة إبراهيم رئيسي، والتي تعتمد على المزج بين “الدبلوماسية والميدان” في إشارة إلى أن التداخل بين الأدوار التي يقوم بها الحرس الثوري ووزارة الخارجية سوف يستمر وربما يتصاعد خلال المرحلة القادمة.

ختاماً، بقدر ما تحقق إمدادات الوقود لإيران، ووكلائها، عدداً من المكاسب، فإنها في الوقت نفسه قد تفضي إلى بعض الإشكاليات، لأنها تؤدي إلى تعرض وكلاء طهران إلى ضغوط داخلية في دولهم، ولعل هذا ما كشف عنه إعلان حزب الله عن استقدام شحنة وقود من إيران، حيث انتقد عدد من السياسيين اللبنانيين سياسة الحزب ووصفوها بأنها “تعبير عن غياب سلطة الدولة وتعزيز للسطوة الإيرانية في لبنان”، واتهم رئيس تيار المستقبل سعد الحريري إيران بتعطيل تأليف الحكومة، وتساءل، في تغريدة على موقع “تويتر” في 19 أغسطس الجاري، قائلاً: “كيف تجيز الدولة الإيرانية لنفسها مخالفة القوانين الدولية فتقبل إرسال السفن إلى لبنان دون موافقة الحكومة اللبنانية؟”.