حدود التوظيف:
لماذا تراجع الاهتمام بحرب غزة داخل إيران؟

حدود التوظيف:

لماذا تراجع الاهتمام بحرب غزة داخل إيران؟



هناك اعتبارات عديدة يمكن من خلالها تفسير تراجع الاهتمام الداخلي الإيراني بتطورات الحرب في غزة، تتعلق باستمرار الشرخ القائم في العلاقة بين النظام والشارع، وعدم استبعاد السلطات الإيرانية تجدد الاحتجاجات الداخلية مرة أخرى، وارتباك الموقف الإيراني في التعامل مع تطورات الحرب، وتزايد تأثير الاتجاه اليميني القومي داخل إيران.

رغم تصاعد اهتمام إيران بالانخراط في التصعيد الحالي الذي يجري بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، من خلال توجيه تهديدات غير مباشرة بتدخل المليشيات الموالية لها؛ إلا أنه كان لافتاً أن الجدل حول تلك الجولة من الحرب تراجع بشدة على الساحة الداخلية الإيرانية، على عكس الجولات السابقة.

إذ لم ترصد مظاهرات كبيرة في المدن الإيرانية منددة بالعمليات العسكرية التي تشنها إسرائيل داخل القطاع، أو مؤيدة للعملية التي شنتها حركة حماس داخل الأراضي الإسرائيلية باسم “طوفان الأقصى”، على عكس ما حدث في العديد من العواصم العربية، وحتى الغربية. كما بدا لافتاً أن بعض وسائل الإعلام الإيرانية حرصت على التقليل من نبرة التهديدات التي تضمنتها التصريحات التي أدلى بها بعض المسؤولين الإيرانيين، على المستويين السياسي والعسكري.

هذه المقاربة عكسها المقال الذي كتبه محسن مهديان ونشرته صحيفة “جوان” المحسوبة على الحرس الثوري، في 24 أكتوبر الجاري، تحت عنوان “لماذا لا تتدخل إيران مباشرة؟”، حيث اعتبر أن الهدف الأساسي لإيران هو الدفاع عن “المظلومين في العالم”، وأن هذا الدفاع لا يتطلب التدخل مباشرة أو الحلول محلهم، بل يتطلب العمل على “إبقائهم في موقع المقاومة”.

دوافع عديدة

يمكن تفسير تراجع الاهتمام الداخلي في إيران بحرب غزة في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- تجنب مواجهة الشارع مجدداً: لم يسعَ النظام الإيراني إلى الاستعانة بالشارع مجدداً، بسبب الشرخ القائم في العلاقة بين الطرفين، على خلفية الاحتجاجات التي اندلعت في إيران في منتصف سبتمبر 2022 واستمرت نحو خمسة أشهر بسبب الاعتراض على وفاة الفتاة الكردية مهسا أميني على أيدي عناصر شرطة الأخلاق الذين اتهموها بعدم الالتزام بقواعد ارتداء الحجاب. صحيح أن النظام نجح في تحشيد قسم مؤيد له من الشارع، إلا أنه لم يستبعد أن تُستغل أية احتجاجات يمكن تنظيمها لدعم غزة من جانب بعض المعترضين للتنديد بالسياسات التي يتبناها النظام نفسه في التعامل مع الأزمات الداخلية، على المستويات المختلفة، ولا سيما الاقتصادية والاجتماعية.

2- تداعيات وفاة آرمیتا گراوند: يبدو أن السلطات في إيران تجنبت تنظيم احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين في غزة، نتيجة تزامنها مع تصاعد قضية الفتاة الكردية آرمیتا گراوند (16 عاماً)، التي تعرضت للإغماء في مترو الأنفاق ودخلت في غيبوبة استمرت نحو شهر قبل إعلان وفاتها في 28 أكتوبر الجاري، حيث سارت شائعات بأنها تعرضت لعنف من جانب شرطة الأخلاق بسبب عدم التزامها بقواعد ارتداء الحجاب.

وهنا، كان لافتاً أن السلطات تبنت سياسة متشددة إزاء الإعلان عن هذا الحدث، حيث مارست ضغوطاً على عائلة الفتاة من أجل تحاشي تنظيم احتجاجات بسبب وفاتها، كما فرضت إجراءات أمنية مشددة أثناء الجنازة، وبدأت في اعتقال بعض النشطاء السياسيين الذين شاركوا فيها، على غرار المحامية الحاصلة على جائزة سخاروف لحرية الفكر نسرين ستوده.

ومن دون شك، فإن تنظيم تظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في غزة يمكن أن يمثل مغامرة في هذا السياق، باعتبار أن هذه المظاهرات يمكن توظيفها بعد ذلك لممارسة ضغوط على النظام نفسه أو تجديد الاحتجاجات ضده، لا سيما أن المحفزات الأساسية لهذه الاحتجاجات ما زالت قائمة بقوة، بسبب إصرار النظام على عدم الاستجابة لمطالب المحتجين.

3- ارتباك الموقف الإيراني من تطورات الحرب في غزة: اتسم تعامل إيران مع تطورات الحرب في قطاع غزة بالارتباك من البداية، على نحو بدا جلياً في الرسائل المزدوجة التي تضمنتها تصريحات المسؤولين الإيرانيين، السياسيين والعسكريين. صحيح أن هذه الازدواجية تعبر عن محدد رئيس تقوم عليه السياسة الخارجية الإيرانية بشكل عام، لكن الصحيح أيضاً أنه في حالة الحرب الحالية في قطاع غزة، بدا واضحاً أن إيران لم تستقر على الخيار الأنسب الذي يمكن الاستناد إليه في التعامل مع تطوراتها ومساراتها المحتملة.

هذه الازدواجية انعكست في تصريحات وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان تحديداً، الذي سبق أن أشار إلى أن أصابع ما أسماه “جماعات المقاومة” في المنطقة على الزناد إذا تجاوزت إسرائيل الخطوط الحمراء، ثم أرفق ذلك بتأكيد أن إيران لا تتدخل مباشرة وليست لها سلطة إعطاء تعليمات إلى تلك الجماعات لإدارة التصعيد مع إسرائيل.

وهنا، فإن هذه الازدواجية أنتجت انقساماً داخل الشارع الإيراني، بين اتجاهين، الأول: اعتبر أن النظام في إيران يسعى إلى توظيف الأزمة الحالية بما يمكن أن يساعده في الحصول على مكاسب منها، خاصة بعلاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً، حيث لا يستبعد أن تتدخل إيران في جهود الإفراج عن مزيد من الأسرى المحتجزين لدى حماس.

والثاني: يرى أن إيران تبذل جهوداً حثيثة من أجل عدم التورط بشكل مباشر في الحرب الحالية، حيث ما زالت الولايات المتحدة الأمريكية حريصة على تأكيد عدم امتلاكها دليلاً يؤكد ضلوع إيران في عملية “طوفان الأقصى” التي شنتها حركة حماس داخل الأراضي الإسرائيلية في 7 أكتوبر الماضي، وإن كانت قد بدأت في توجيه رسائل تحذير إلى إيران بعد تعرض قواعدها في كل من العراق وسوريا لهجمات من قبل المليشيات الشيعية الموالية لها.

4- تزايد تأثير الاتجاه اليميني القومي داخل إيران: وهو اتجاه يتبنى نزعة قومية داخل إيران، ورغم أنه برز إلى حد كبير في الأزمات السياسية التي شهدتها إيران خلال العقود الأخيرة، إلا أن تأثيره تصاعد في أعقاب الأزمة التي فرضتها احتجاجات سبتمبر 2022، وبدا ذلك جلياً في تعمد عناصره إحراق صور القائد السابق لفيلق القدس قاسم سليماني خلال الاحتجاجات، كرسالة رمزية للنظام تفيد باعتراضهم على التدخلات الخارجية التي يقوم بها والتي تستنزف الموارد الإيرانية في الإنفاق على دعم الحلفاء الإقليميين في الخارج، سواء نظام الرئيس السوري بشار الأسد، أو حزب الله اللبناني، أو حركة الحوثيين في اليمن، أو المليشيات الشيعية التي قامت إيران بتكوينها وتدريبها في كل من سوريا والعراق.

هذا الاتجاه التزم في تفاعله مع تطورات الحرب في غزة بشعار “لا غزة ولا لبنان.. روحي فداء إيران”، وهو ما دفع بعض وسائل الإعلام الرئيسة المحسوبة على النظام، مثل صحيفة “كيهان”، إلى شن حملة سياسية ضده، اتهمته بالازدواجية وبدعم الإرهاب، باعتبار أنه لم يهتم بالضحايا المدنيين الذين سقطوا قتلى بسبب الهجمات العسكرية الإسرائيلية في القطاع، ولا بالضحايا الذين قتلوا في العملية التي وقعت في ضريح شاكراغ في شيراز وأعلن تنظيم “داعش” مسؤوليته عنها.

وبالطبع، فإن المغزى من هذا الربط واضح، ويتمثل في أن الترويج للمقاربة الأساسية للنظام والتي تقوم على أن العناصر التي تنتمي إلى هذا الاتجاه اليميني القومي تسعى إلى دعم خطط بعض القوى لتقويض دعائم النظام ونشر الفوضى في إيران.

أزمة قائمة

في ضوء ذلك، يمكن القول إن عزوف النظام في إيران عن اللجوء إلى الشارع للتنديد بالعمليات العسكرية التي تشنها إسرائيل داخل قطاع غزة يوحي بأنه بات يخشى من تأثير الشارع، وتداعيات الشرخ الذي ما زال قائماً في العلاقة بين الطرفين، خاصة أنه لم يستجب لمطالب المحتجين، بل تعمد تبني سياسة أكثر تشدداً فيما يتعلق بالتعامل مع بعض القضايا المرتبطة بهذه المطالب على غرار قضية الحجاب وحقوق المرأة وغيرها، بشكل يعني في النهاية أن الأزمة الداخلية التي يعاني منها النظام في إيران ما زالت قائمة رغم نجاحه في احتواء الاحتجاجات الأخيرة.