يمكن تفسير تراجع العمليات الإسرائيلية داخل إيران خلال الربع الأخير من العام 2022 في ضوء اعتبارات عديدة تتعلق بالتركيز على انتظار ما سوف تؤول إليه تطورات الوضع الداخلي في ظل استمرار الاحتجاجات الداخلية، والتماهي مع السياسة الأمريكية التي تقوم على ضرورة عدم منح الفرصة للنظام لإضفاء وجاهة خاصة على اتهاماته للمحتجين بتنفيذ أجندة خارجية تابعة للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، ومنح الأولوية في المرحلة الحالية لمواجهة النفوذ العسكري الإيراني داخل سوريا.
مثّلت الاختراقات الأمنية التي تعرضت لها إيران ظاهرة لافتة في عام 2022، وهي الاختراقات التي وجهت إيران اتهامات مستمرة لإسرائيل بالمسؤولية عنها، لدرجة دفعت النظام الإيراني إلى إجراء تغييرات عديدة في جهاز الاستخبارات التابع للحرس الثوري، على غرار إقالة رئيس جهاز الاستخبارات رجل الدين حسين طائب في 23 يونيو الماضي، وتعيين نائبه محمد كاظمي خلفاً له.
هجمات متراجعة
لكن اللافت في هذا السياق، أنه خلال الربع الأخير من العام 2022 تراجعت إلى حد كبير الهجمات الإسرائيلية داخل إيران، رغم أن الأخيرة ما زالت تعلن بين حين وآخر عن تفكيك خلايا تابعة لجهاز الموساد الإسرائيلي كانت تستعد -حسب مزاعمها- لمهاجمة منشآت عسكرية أو نووية، أو تنفيذ عمليات إرهابية، أو تهريب السلاح وتقديمه للمحتجين في الداخل. إلا أن هذه الاتهامات -في مجملها- لا يوجد ما يُثبت مصداقيتها، خاصة أن إسرائيل دائماً ما تلتزم الصمت إزاء هذه الاتهامات.
وقد تتصور بعض الاتجاهات أن اندلاع التظاهرات منذ منتصف سبتمبر الماضي، على خلفية وفاة الفتاة الكردية مهسا أميني، واتهام شرطة الأخلاق بالاعتداء عليها بعد توقيفها بزعم عدم التزامها بقواعد ارتداء الحجاب؛ تمثل فرصة لا تعوض للاستمرار في هذه الاختراقات الأمنية، واستهداف مزيد من القادة العسكريين والخبراء النوويين، إلى جانب المنشآت النووية الرئيسية على غرار منشأة ناتانز.
ومن دون شك، فإن ذلك في المقام الأول، في رؤية هذه الاتجاهات، يرجع إلى أن النظام الإيراني ما زال منهمكاً في مواجهة الاحتجاجات وإدارة التصعيد مع الدول الغربية بسبب تعثر المفاوضات النووية ودعم الأخيرة للمحتجين، وهو ما هيأ المجال أيضاً أمام تنظيم “داعش” لتنفيذ عملية داخل ضريح الإمام أحمد ابن الإمام الشيعي السابع موسى الكاظم، في مدينة شيراز، في 26 أكتوبر الماضي.
لكن إسرائيل، على ما يبدو، فضّلت تقليص هذه الاختراقات الأمنية، على الأقل في الشهور الأربعة الأخيرة، وهو توجه قد لا يستمر، خاصة مع تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة برئاسة بنيامين نتنياهو التي تضع في قمة أولوياتها مواجهة البرنامج النووي والدور الإقليمي الإيراني، حيث أعلن نتنياهو، في 29 ديسمبر الماضي، خلال استعراضه الخطوط العريضة لبرنامج حكومته الجديدة أمام الكنيست الإسرائيلي قبيل تأدية اليمين أن هناك ثلاث أولويات للحكومة، في مقدمتها “وقف محاولات إيران لتطوير سلاح نووي سيهددها وسيهدد كل العالم، وأن نضمن التفوق العسكري لإسرائيل في المنطقة”.
دوافع عديدة
يمكن تفسير تراجع العمليات الأمنية التي تقوم بها إسرائيل داخل إيران خلال الربع الأخير من العام 2022، في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- انتظار ما سوف تؤول إليه الاحتجاجات: لم تفاجئ الاحتجاجات التي اندلعت في منتصف سبتمبر الماضي النظام الإيراني فحسب، بل فاجأت القوى المناوئة له أيضاً، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، التي كانت تعتبر، على غرار النظام، أن هذه الاحتجاجات سوف تتراجع تدريجياً ولن تستمر سوى أيام معدودات.
لكن ما حدث هو أن هذه الاحتجاجات نجحت في تجاوز كل الإجراءات القمعية التي تبناها النظام الإيراني خلال المرحلة الماضية، ووصلت إلى اليوم المائة، في 24 ديسمبر الجاري، وقاربت على إنهاء شهرها الرابع.
هنا، فإن القوى المناوئة لإيران فضلت مراقبة تطورات الوضع في إيران، قبل أن تكون هناك خطوات أخرى في إدارة التصعيد مع إيران من داخلها، على غرار إسرائيل، ولا سيما أن الاحتجاجات سوف تستمر حتى افتتاح عام 2023 خلال الأيام المقبلة.
2- التماهي مع السياسة الأمريكية إزاء طهران: يبدو أن إسرائيل تحاول، على الأقل في المرحلة الحالية، التماهي مع السياسة الأمريكية إزاء الاحتجاجات، والقائمة على ضرورة إعطاء الأولوية لدراسة المسارات المحتملة لمستقبل النظام الإيراني في الحكم على ضوء وصول العلاقة بينه وبين الشارع إلى مرحلة غير مسبوقة، باتت تفرض ضرورة طرح هذا السؤال، ولا سيما في ظل الأزمات الهيكلية التي تعاني منها إيران وتفاقمت بسبب السياسات التي يتبناها النظام على المستويين الداخلي والخارجي.
وقد بدت هذه السياسة جلية، على سبيل المثال، في الموقف الأمريكي من أزمة الاتفاق النووي وتعثر المفاوضات النووية مع إيران، حيث أكدت الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من مرة أن هذا الملف تراجعت أهميته، ولم يعد يحظى بأولوية لدى الإدارة في ظل التطورات الجديدة التي طرأت، سواء على الساحة الداخلية الإيرانية، حيث تصاعدت حدة الاحتجاجات، أو على الساحة الدولية، إذ تزايد مستوى التصعيد بين إيران والدول الغربية، بسبب الدعم العسكري الذي تقدمه إيران إلى روسيا لتعزيز قدرتها على إدارة العمليات العسكرية في أوكرانيا.
3- عدم منح فرصة للنظام للتصعيد ضد المحتجين: لا يمكن استبعاد أن تكون إسرائيل قد تعرضت أيضاً لضغوط أمريكية من أجل التوقف عن شن مزيد من العمليات الأمنية التي تستهدف المنشآت النووية والعسكرية، وذلك من أجل عدم منح الفرصة للنظام للترويج بشكل أكبر للمقاربة التي يتبناها في التعامل مع الاحتجاحات والقائمة من البداية على وجود مخطط خارجي لتقويض دعائمه بدعم من جانب أطراف محلية.
وتسعى الإدارة الأمريكية الحالية إلى التركيز على دحض الادعاءات التي يتبناها النظام الإيراني، عبر الترويج إعلامياً إلى أن هناك أسباباً حقيقية للاحتجاجات الداخلية تعود إلى السياسات التي يتبعها في التعامل مع القضايا الداخلية والخارجية.
4- التركيز على الدور الإيراني في سوريا: كان لافتاً أن تراجع العمليات الأمنية الإسرائيلية في الداخل الإيراني توازى مع تصاعد الاهتمام بمواجهة محاولات إيران تعزيز حضورها الإقليمي في سوريا، من خلال استغلال الانهماك الروسي في إدارة العمليات العسكرية في أوكرانيا، وإعادة صياغة الترتيبات الأمنية داخل سوريا بما يتوافق مع مصالحها ويُعزز من قدرتها على تهديد إسرائيل.
ومن هنا، وجهت إسرائيل ضربات عسكرية عديدة، خاصة على الحدود السورية-العراقية التي تستغلها إيران من أجل تهريب الأسلحة إلى داخل سوريا، فضلاً عن تعقب شحنات الأسلحة المخصصة لحزب الله والذي يقوم بدورها بتهريبها إلى داخل الحدود اللبنانية.
وقد انعكست المقاربة الإسرائيلية في تصريحات رئيس الأركان الإسرائيلي أفيف كوخافي في كلمة أمام معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، في 27 ديسمبر الماضي، التي قال فيها إن “المخطط الإيراني الذي سعى إلى نصب مئات الصواريخ في سوريا قد تم إفشاله”، مشيراً إلى “مواصلة إسرائيل التصدي لمخططات طهران في المنطقة”. وأضاف كوخافي: “تم إفشال المخطط الإيراني الذي سعى إلى مرابطة عشرات الآلاف من عناصر المليشيات في سوريا، وإنشاء تنظيم يشبه (حزب الله) في هضبة الجولان”.
عودة محتملة
مع ذلك، فإن هذا التكتيك الإسرائيلي قد لا يستمر لفترة طويلة، لكنه في النهاية سوف يكون مشروطاً بمدى حرص إيران على التقدم باتجاه تحقيق قفزات جديدة في برنامجها النووي، على نحو قد يساهم في اقترابها إلى حد كبير من مرحلة إنتاج القنبلة النووية.
هنا، فإنه لن تكون هناك خيارات متعددة أمام إسرائيل، التي ربما لن ترى استمرار الاحتجاجات متغيراً يمكن أن يقيد تحركاتها في هذا الصدد. ومن ثم لا يمكن استبعاد أن تتجه الحكومة اليمينية الجديدة في تل أبيب إلى تفعيل الخيار العسكري بشكل جدي خلال المرحلة القادمة في حالة ما إذا اقتربت إيران ممّا يمكن تسميته بـ”الخط الأحمر”.