تشابك المصالح:
لماذا تدعم تركيا محاصرة المليشيات الإيرانية في سوريا؟

تشابك المصالح:

لماذا تدعم تركيا محاصرة المليشيات الإيرانية في سوريا؟



اتجهت تركيا نحو تحشيد فصائل “الجيش الوطني” الموالية لها في سوريا، بالإضافة إلى فتح باب التجنيد لمقاتلين جدد تمهيداً لنقلهم إلى قاعدة “التنف” التي تمثل نقطة الارتكاز الأساسية لقوات التحالف الدولي ضد “داعش”، حسب ما أعلن المرصد السوري لحقوق الإنسان، في 8 أغسطس الجاري، وذلك بهدف قتال المليشيات الإيرانية في شرق سوريا، وقطع خطوط الإمداد اللوجستية للعناصر الإيرانية القادمة عن طريق طهران-بيروت، وكذلك توظيف المرتزقة الجدد في عمليات التأمين والسيطرة على الحدود السورية–العراقية.

ويُمكن تفسير الإجراءات التركية الجديدة في ضوء اعتبارات عديدة، أهمها منع إيران من محاولة ملء الفراغ المحتمل الذي يمكن أن يفرضه انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا، واحتواء الضغوط الغربية والروسية على المصالح التركية في سوريا، واستباق التفاهمات المحتملة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية. ومع ذلك، يبدو من تطورات الواقع الميداني في سوريا، أن التحركات التي تقوم بها تركيا، وتستهدف المليشيات الإيرانية، تكشف عن حدوث تغييرات لافتة في سياسات القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الأزمة السورية.

تطورات مغايرة

تتزامن الخطوة التركية التي تستهدف قطع الطريق الواصل من طهران إلى بيروت عبر بغداد ودمشق، والذي يعتبر إحدى النقاط الأساسية التي تستخدمها إيران منذ اندلاع الأزمة السورية لنقل الأسلحة والمقاتلين من جنسيات مختلفة إلى الأراضي السورية، وفقاً لتقارير دولية، مع العديد من التطورات المحلية والإقليمية المرتبطة بالأزمة السورية.

إذ ما زالت القضايا الخلافية التي تحول دون التطبيع التركي-السوري قائمة وبقوة، حيث تصر دمشق على إنهاء الوجود العسكري التركي على الأراضي السورية. كما أعلن الرئيس السوري بشار الأسد، في مقابلة مع قناة “سكاى نيوز عربية” في 9 أغسطس الجاري، أنه لن يتم اللقاء مع الرئيس رجب طيب أردوغان تحت شروطه، وتساءل ساخراً: “لماذا نلتقي أنا وأردوغان؟! لكي نشرب المرطبات مثلاً”، وأضاف: “هدف أردوغان من الجلوس معي هو شرعنة وجود الاحتلال التركي في سوريا”، مؤكداً أن الإرهاب في سوريا “صناعة تركية” على حد تعبيره. وتدرك تركيا أن إيران رغم إبداء دعمها للحوار التركي-السوري، إلا أنها تمثل أحد التحديات المستترة في هذا الملف، حيث إن لطهران العديد من الأسباب التي تدفعها لعرقلة هذا المسار، أو على الأقل ضمان ألّا يؤثر نجاحه على مصالحها في سوريا.

على صعيدٍ ذي شأن، تأتي الخطوة التركية في ظل تصاعد التوترات في مخيم عين الحلوة اللبناني، بالإضافة إلى تفاقم الضغوط الاقتصادية في لبنان، وهو ما يُلقي بظلاله على الجهود الأمنية للجيش اللبناني لتأمين حدوده. وربما تخشى أنقرة توظيف إيران وحزب الله هذه الأحداث على الساحة اللبنانية لتمرير المزيد من الأسلحة والمرتزقة إلى الساحة السورية، والدفع بها قرب مناطق النفوذ التركي.

كما أنّ محاولات تركيا لقطع طريق طهران-بيروت لا تنفصل عن سياق التحولات العسكرية في الإقليم، وأهمها وصول أكثر من ثلاثة آلاف جندي أمريكي، في 8 أغسطس الجاري، إلى الشرق الأوسط في إطار خطة لتعزيز الوجود العسكري في المنطقة لردع إيران عن احتجاز السفن وناقلات النفط.

دوافع عديدة

‎يمكن تفسير هذه الخطوة التي أقدمت عليها تركيا في ضوء اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في:

1- تقليص مساحة النفوذ الإيراني: ثمة مخاوف لدى أنقرة من طموحات إيرانية لملء الفراغ الذي يفرضه انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية في الساحة السورية، وهو ما قد ينعكس على المصالح التركية في سوريا، ويقلص فرص أنقرة لتثبيت نفوذها في مناطق شمال شرق سوريا. وهنا، يمكن فهم تحرك تركيا للتعاون مع واشنطن لقطع طريق طهران-بيروت.

2- استباق التهدئة بين طهران وواشنطن: بالتوازي مع ذلك، فإن التوجه نحو قطع طريق طهران-بيروت يأتي على خلفية مخاوف أنقرة من تزايد احتمالات التهدئة بين طهران وواشنطن، والتي ظهرت آخر مؤشراتها في توصل البلدين إلى صفقة تقضي بإلغاء تجميد ستة مليارات دولار من الأموال الإيرانية في كوريا الجنوبية مقابل إطلاق إيران سراح خمسة أمريكيين محتجزين لديها وإطلاق الولايات المتحدة الأمريكية عدداً مماثلاً من الإيرانيين. ومن شأن إنجاز مثل هذه الصفقة إزالة أحد مسببات التوتر الرئيسية في العلاقات بين الطرفين، على الرغم من بقاء البلدين مختلفين على قضايا تتراوح بين البرنامج النووي الإيراني إلى دعم طهران للفصائل المسلحة الشيعية في دول مثل العراق ولبنان.

وفي هذا السياق، فإن سعي تركيا إلى تولي أجهزتها الاستخباراتية مهمة تجنيد مقاتلين جدد من مناطق النفوذ التركية في سوريا وتدريبهم قبل الدفع بهم لقاعدة التنف الأمريكية، لمقاتلة المليشيات الإيرانية المنتشرة في دير الزور والبوكمال والميادين؛ يعبر عن حالة جديدة من التوافق بين أنقرة وواشنطن في سوريا، والتي يتوقع أن تشهد تطوراً إيجابياً خلال المرحلة المقبلة، بعد موافقة تركيا على انضمام السويد لعضوية حلف الناتو.

3- تحييد الضغوط الروسية المتصاعدة: تندفع تركيا نحو قطع طريق طهران-بيروت في ظل تصاعد حدة التوتر مع روسيا في التوقيت الحالي، وهو ما ظهرت مؤشراته في نهاية يوليو الماضي عندما تراجعت روسيا عن فكرة تحويل تركيا إلى مركز لتحويل الغاز الروسي، والاكتفاء فقط بجعل أنقرة منصة إلكترونية لتداول غازها. وهنا، تخشى تركيا من أن تتجه روسيا، تحت تأثير التوتر الحادث في علاقاتها معها، إلى توسيع نطاق تفاهماتها مع إيران على حساب المصالح التركية في سوريا. ولذلك، فإن ثمة قناعة لدى أنقرة بأن تعزيز التعاون مع واشنطن لمحاصرة نفوذ طهران على الساحة السورية، ربما يدفع موسكو إلى تخفيف ضغوطها عليها.

4- إضعاف هيمنة طهران على الاقتصاد السوري: يأتي التعاون التركي-الأمريكي لمحاصرة النفوذ الإيراني في سوريا في سياق تصاعد حدة القلق من مساعي طهران للهيمنة على الاقتصاد السوري، وربط مفاصله بالدولة الإيرانية. وهنا، يمكن تفسير كثافة الوفود الاقتصادية الإيرانية التي تزور سوريا، وآخرها الوفد البرلماني الذي ترأسه رئيس لجنة السياسة الخارجية والأمن القومي في البرلمان الإيراني وحيد جلال زاده، في 8 أغسطس الجاري، وهو ما يعني أن إيران تسعى إلى مزيد من الهيمنة على القطاعات الاقتصادية بعد العسكرية. ولذلك، فإن زيادة الحضور الإيراني تستدعي رداً مباشراً من جانب القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الساحة السورية، والتي تتعارض توجهاتها مع ممارسات إيران، ومنها تركيا والولايات المتحدة الأمريكية.

5- تجنب نشوب مواجهات مسلحة: تقف المليشيات الإيرانية على مسافة أمتار قليلة فقط من نقاط “الجيش الوطني” الموالي لتركيا في أرياف حلب واللاذقية وحماة وإدلب، ولا تستبعد تركيا، في ضوء تراجع النفوذ الروسي في سوريا، اندلاع اشتباكات مسلحة بين المليشيات الإيرانية والفصائل الموالية لتركيا، خاصةً أن طهران تسعى لتوسيع تمددها في سوريا، وتحويلها إلى ساحة إيرانية خالصة.

توتر مستمر

ختاماً، يمكن القول إن الحديث عن توجّه تركي للتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية لقطع طريق طهران-بيروت من نقطة معبر البوكمال، ومحاصرة المليشيات الإيرانية المنتشرة في منطقة دير الزور، ربما يرفع من مستوى التوتر بين تركيا وإيران خلال المرحلة المقبلة، كما يتوقع أن يؤدي إلى تفاقم الأوضاع الميدانية على الساحة السورية، خاصة أن طهران تتمسك بتنفيذ مخططها بفتح طريق رسمي يربطها ببيروت مروراً بكل من سوريا والعراق. بيد أن ثمة فيتو أمريكياً-تركياً على هذا الطريق الذي سيكون ممراً للاستخدام العسكري وتقوية النفوذ الإيراني في كل من سوريا ولبنان. وهنا، يمكن فهم قيام طهران في 2021 بإعادة طرح مشروع قديم جديد بإنشاء سكك حديدية تصل إيران بميناء اللاذقية، غرب سوريا، والذي يبدو أنه كان له دور في دفع أنقرة وواشنطن إلى العمل على قطع طريق طهران-بيروت وتحجيم نفوذ المليشيات الإيرانية في سوريا.