برغم اقتراب أنقرة بحذر واتزان تجاه الاحتجاجات التي تشهدها كازاخستان، فإن المقاربة البراجماتية التي تحكم العلاقة بين أنقرة ونور سلطان، تدفع الأولى إلى دعم نظام الرئيس قاسم جومارت توكاييف. لذلك تسعى أنقرة إلى توفير بيئة خصبة للاستجابة لمطالب المحتجين في كازاخستان، لكن من دون التأثير على النظام الحاكم الحليف لتركيا. وقد أبدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دعماً لافتاً للنظام الحاكم في كازاخستان بعد اتصاله بالرئيس الكازاخستاني. والأرجح أن الموقف التركي لا ينفصل عن القلق من انتقال عدوى الاحتجاجات إلى تركيا التي تعاني أوضاعاً مشابهة، إضافة إلى المخاوف من استثمار موسكو للاحتجاجات الراهنة لتعزيز نفوذها في الجمهوريات الناطقة بالتركية، وهو الأمر الذي قد ينعكس على حضور تركيا ودورها في هذه المنطقة التي تراها امتداداً عرقياً واستراتيجياً لها.
فقد تبنّى الداخل التركي الرسمي موقفاً موحداً بعد نشوب احتجاجات كازاخستان، إذ سرعان ما تم التأكيد على تبني مواقف تتسم بالحذر والاتزان من الأزمة تجاه جميع الأطراف المعنية، وهو الأمر الذي كان متوقعاً في ظل العلاقة التي تجمع تركيا بنظام الرئيس قاسم جومارت توكاييف، وقطاع معتبر من القوى السياسية الكازاخستانية. غير أن هذه السياسة لم تمنع أنقرة من توفير دعم سياسي مستتر للرئيس توكاييف، لضمان مصالحها الاقتصادية والعسكرية مع كازاخستان، إحدى أهم دول “منظمة الدول التركية الناطقة بالتركية”، ناهيك عن أن كازاخستان تمثل منصة استراتيجية لدعم النفوذ التركي في منطقة آسيا الوسطى من جهة، واستخدامها كورقة مهمة تستخدمها أنقرة في مواجهة المنافسين الإقليميين والدوليين لها في منطقة القوقاز من جهة أخرى.
وجاء التحرك الشعبي العنيف في كازاخستان مفاجئاً لتركيا، إذ تصاعدت وتيرة الاحتجاجات سريعاً منذ تفجرها في 2 يناير الجاري بمدينة جاناوزن غرب البلاد، وانتشرت عبر المدن الأخرى منذ 4 يناير الجاري، مدفوعة برفض قطاعات واسعة من الشعب الزيادة في أسعار الغاز المسال، والسياسات والإجراءات الاقتصادية الحكومية التي تسببت في تداعيات ضاغطة على الأوضاع المعيشية للمواطنين.
إشارات داعمة
العديد من الإشارات تلمح إلى أن تركيا تتجه نحو دعم سياسات رئيس كازاخستان في مواجهة الاحتجاجات الشعبية، الأمر الذي تستهدف من ورائه توسيع نفوذها في نور سلطان، ودعم منظمة الدول التركية التي تمثل تجمعاً إقليمياً تقوده أنقرة، ويضم الدول التي لديها روابط عرقية وثقافية مع تركيا، وفي الصدارة منها كازاخستان.
في هذا السياق، جاء الموقف التركي داعماً من وراء ستار لتوجهات النظام في كازاخستان، وتجلى ذلك في بيان الخارجية التركية الصادر في 5 يناير الجاري، حيث عبر البيان عن “الثقة التامة في قدرة الإدارة الكازاخية على تجاوز أزمة الاحتجاجات في البلاد جراء زيادة أسعار الغاز المسال”، وأضاف البيان: “نتابع عن كثب الاحتجاجات التي انطلقت، وأدت إلى استقالة الحكومة الكازاخية. نحن نولي أهمية كبرى من أجل استقرار كازاخستان الصديقة، ونثق بحكمة الشعب الكازاخي، ونرجو انتهاء الاحتجاجات في أقرب وقت”.
على جانب آخر، أجرى الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، في 6 يناير الجاري، اتصالاً هاتفياً مع نظيره الكازاخستاني، مؤكداً تضامنه مع نور سلطان، ومعبراً عن أمله في أن يتم تشكيل الحكومة الجديدة في أقرب وقت ممكن، وأن ينتهي التوتر في وقت قصير. كما أعلنت الرئاسة التركية، في 7 يناير الجاري، أن أنقرة تمنح الأولوية الكبرى للسلام والاستقرار والرفاه في كازاخستان التي تشهد احتجاجات واضطرابات.
دوافع متنوعة
على الرغم من انتقادات منظمات حقوقية وقوى دولية للممارسات السياسية للرئيس الكازاخى حليف تركيا، إلا أنّ أنقرة تجد نفسها مدفوعة نحو المساعدة في احتواء الاحتجاجات في كازاخستان، لعدة اعتبارات، يمكن بيانها على النحو التالي:
1- منع العدوى الاحتجاجية من الانتقال للساحة الداخلية التركية: تأثّرت الرؤية التركية للأحداث التي تشهدها كازاخستان في الفترة الحالية بالأزمة التي تعاني منها تركيا، وبدت جلية في تصاعد حدة الغضب الداخلي بسبب انهيار سعر الليرة التي فقدت أكثر من 40 في المائة من قيمتها، وتصاعد معدلات التضخم التي وصلت إلى أكثر من 30 في المائة بنهاية عام 2021، وهو الأمر الذي انعكس على تدهور الأوضاع المعيشية لقطاع واسع من المواطنين الأتراك، خاصة بعد قرار الحكومة التركية مؤخراً برفع أسعار الغاز والطاقة. وربما يكون ذلك هو ما يدفع تركيا إلى تبني موقف حذر تجاه تلك الاحتجاجات، على أساس أن استمرار عجز حكومة العدالة والتنمية في التحايل على حالة التردي الاقتصادي، يمكن أن يضفي مزيداً من الأهمية والزخم على ما يحدث داخل تركيا، وربما تُمثل احتجاجات كازاخستان (إحدى دول المجلس التركي) فرصة للمعارضة التركية التي تدعم الاحتجاجات الشعبية في كازاخستان، وتحمل المسؤولية لإدارة الرئيس توكاييف.
2- الحدّ من تمدّد النفوذ الروسي إلى الدول الناطقة بالتركية: تمثل الدول الناطقة بالتركية، وفي الصدارة منها كازاخستان، ورقة رابحة تستثمرها تركيا لتوسيع نفوذها الجيوسياسي في منطقة القوقاز، وموازنة النفوذ الروسي. لذلك، لا ينفصل الموقف التركي الذي يناهض بصورة مستترة احتجاجات كازاخستان عن حرص تركيا على منع تمدد النفوذ الروسي في الجمهوريات الناطقة بالتركية، وبخاصة كازاخستان. كما أن الحذر التركي من احتجاجات كازاخستان يرتبط في جوهره بشكل أكبر بسياق المنافسة التركية الروسية على الإمساك بمفاصل هذه المنطقة، وتخشى تركيا من ارتدادات سلبية محتملة على نفوذها في كازاخستان، بعد تولي روسيا ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي زمام المبادرة تجاه التعامل مع احتجاجات كازاخستان، فقد أرسلت موسكو تعزيزات عسكرية إلى نور سلطان بدعوة من رئيسها الذي رجّح طلب المساعدة من روسيا و”منظمة معاهدة الأمن” على طلب المساعدة من تركيا و”منظمة الدول الناطقة بالتركية”.
وتعي تركيا أن استمرار الاحتجاجات في كازاخستان، وإطالة أمدها، يتيح الفرصة مجدداً أمام روسيا لتثبيت نفوذها في المنطقة، وتوجيه ضربة للجهود التركية التي بذلتها طوال السنوات الماضية في الجمهوريات الناطقة بالتركية. وتنامت المخاوف التركية بعد توقيع كازاخستان، في 22 ديسمبر الماضي، اتفاقية تعاون مع روسيا في مجال الأمن السيبراني والاستخبارات ومكافحة الإرهاب.
3- تأمين الصفقات الاقتصادية والمبادلات التجارية بين تركيا وكازاخستان: تمثل العوائد التجارية بين أنقرة ونور سلطان رافعة لترسيخ العلاقة بين البلدين، فبينما تعتبر كازاخستان شريكاً تجارياً رئيسياً لأنقرة، تسعى تركيا إلى رفع المبادلات التجارية مع كازاخستان. وفي نهاية عام 2020، تجاوز حجم التجارة بين البلدين ما يقرب من 3 مليارات دولار، لتحتل بذلك تركيا المركز الخامس في قائمة الشركاء الاقتصاديين لكازاخستان متقدمة على فرنسا. كما تطمح أنقرة إلى زيادة حجم المبادلات التجارية مع نور سلطان إلى نحو 10 مليارات دولار. ولا تكاد تخلو أي زيارة يقوم بها مسؤولو البلدين من توقيع مزيد من الصفقات الاقتصادية.
فعلى سبيل المثال، أسست تركيا ما يقرب من ألفي شركة على الأراضي الكازاخستانية، منها 467 شركة تنشط في مجال البناء، و650 شركة تعمل في قطاع البيع بالتجزئة والجملة، و124 شركة في قطاعي الفنادق والمطاعم، وتتوزع بقية الشركات على قطاعات مختلفة كالصناعة والتعدين والنقل والتعليم والصحة وغيرها من المجالات. في المقابل، تسعى تركيا من وراء تفعيل العلاقة مع كازاخستان إلى محاصرة تصاعد المشكلات الاقتصادية، وبخاصة تدهور الليرة التركية. كما تحرص تركيا على جذب الاستثمارات الكازاخستانية، والتي وصلت إلى نحو 725 مليون دولار في تركيا مقابل استثمارات تركية في كازاخستان وصلت إلى نحو 870 مليون دولار بنهاية العام 2019.
4- الإبقاء على التعاون العسكري المشترك: يأتي الموقف التركي الداعم للرئيس الكازاخي في مواجهة الاحتجاجات الشعبية في سياق حرص تركيا على حماية نفوذها العسكري في كازاخستان، والجمهوريات الناطقة بالتركية. وتعتبر كازاخستان منصة حيوية لتركيا، حيث توفر لها حضوراً عسكرياً وسياسياً لافتاً في هذه المنطقة. كما يرتبط البلدان بعلاقات تعاون عسكري، ومبيعات للصناعات الدفاعية التركية، في الصدارة منها الطائرات المسيرة. بالتوازي مع ذلك، تتمتع تركيا بمكانة الشريك الاستراتيجي لكازاخستان، وظهر ذلك في توقيع أنقرة ونور سلطان على اتفاقية التعاون العسكري في العام 2018، وتنص على ترسيخ التعاون العسكري طويل الأمد بين أنقرة ونور سلطان، والتعاون البيني في مجال التدريب والدراسة العسكرية، وإجراء التمرينات، ومرور القوات العسكرية عبر المجال الجوي.
الحزام التركي
في الختام، يمكن القول إن ما سبق -في مجمله- يشير إلى أن تركيا تتحرك تدريجياً للانخراط في التعامل مع الاحتجاجات التي تشهدها كازاخستان خلال الفترة الحالية، بعد أن بدأت تعتبر أن أية تغييرات في نور سلطان شريكتها في منظمة الدول الناطقة بالتركية، وترتبط معها أيضاً بعلاقات استراتيجية، قد تنعكس على نفوذها في منطقة آسيا الوسطى، وتمنح روسيا ومنافسيها الدوليين مزيداً من التمدد في حزام الجمهوريات التركية على حساب الدور التركي.