استدارة كاملة:
لماذا تدعم إسبانيا موقف المغرب تجاه نزاع الصحراء الغربية؟

استدارة كاملة:

لماذا تدعم إسبانيا موقف المغرب تجاه نزاع الصحراء الغربية؟



يكشف تحول الموقف الإسباني بشأن الاعتراف بمغربية الصحراء، عن جملة من الاعتبارات المحفزة لاتخاذ مثل هذا القرار، والتي تتمثل في الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، ولا سيما بعد مسارعة إدارة الرئيس بايدن الديمقراطية إلى الإعلان عن أنها تقاسم إسبانيا موقفها من قضية الصحراء، وكذلك المخاوف من قضية الهجرة غير النظامية التي تعد أحد مصادر تهديد الأمن القومي للعديد من الدول الأوروبية، والتحلي برؤية براجماتية عبر التخلي عن النبرة الاستعمارية، وتزايد أهمية المغرب في تنويع مصادر الطاقة لأوروبا ولا سيما بعد تداعيات حرب روسيا وأوكرانيا، وتوفير خيارات بديلة لأوروبا وإسبانيا خاصة بأمن الطاقة، وذلك في ظل عدم تجاوب الجزائر مع مطالب الدول الغربية بزيادة حجم صادراتها من الغاز إلى أوروبا، وإعادة تشغيل أنبوب الغاز المغاربي-الأوروبي الذي يمر عبر المغرب، علاوة على الدعم الأوروبي للخطوة الإسبانية.

في 18 مارس 2022، أعلنت إسبانيا عن تحول لافت وجذري، يمكن وصفه بـ”التاريخي” أيضاً، في موقفها السياسي بشأن الصحراء الغربية، عندما قدم رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، دعمه للخطة المغربية لعام 2007 بمنح الحكم الذاتي للصحراء الغربية. وفي 19 مارس 2022، قال وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس: “تَعتبر إسبانيا أن مبادرة الحكم الذاتي (المغربية) هي الأساس الأكثر جدية وواقعية وصدقية لحل هذا النزاع” بين الرباط وجبهة البوليساريو.

فعلى مدى 47 عاماً ماضية، ومنذ انسحاب إسبانيا من إقليم الصحراء الغربية وسيطرة المغرب عليها عقب “المسيرة الخضراء” التي قادها الملك المغربي الراحل محمد الخامس عام 1975، التزمت مدريد سياسة “الحياد السلبي”، وظلت تمسك “العصا من المنتصف” إزاء هذه القضية، ولم تساهم بأي دور لتسويتها. ومعلوم أن إسبانيا من الدول المصنفة ضمن “أصدقاء الصحراء”، وينشط فيها مجتمع مدني موالٍ لجبهة “البوليساريو” المطالبة باستقلالها عن المغرب، فبالنسبة لإسبانيا تظل الصحراء الغربية ورقة يمكن استخدامها لمزيد من ابتزاز المغرب وكبح نفوذها في حال تطلعت إلى استرداد مدينتي سبتة ومليلية وبقية الجزر المغربية التي تحتلها إسبانيا.

دوافع مدريد

هذا الموقف الجديد لإسبانيا، الذي وصفته صحيفة “إل موندو” الإسبانية بـ”التاريخي”، يطرح أسئلة عديدة حول ماهية الأسباب المحركة له والمستجدات الدافعة له، ويمكن رصدها على النحو التالي:

1- الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء الغربية: خلال السنوات الأخيرة، نجح المغرب في تحويل الصحراء الغربية إلى قضية “مركزية” في سياساته الخارجية، ولا سيما بعد إعلان المغرب بوضوح أنه لن تكون له أي علاقات اقتصادية أو تجارية مع دول تتبنى مواقف غامضة فيما يتعلق بسيادتها على الصحراء الغربية.

لكن النقلة النوعية في نجاح المغرب في هذه السياسة جاءت في الواقع عقب اعتراف الولايات المتحدة، كأول قوة عظمى، بسلطة المغرب على الصحراء الغربية خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، في مقابل موافقة المغرب على التطبيع مع إسرائيل واستئناف علاقاتها الدبلوماسية معها، وانضمام المغرب إلى دولة الإمارات والبحرين والسودان بالتوقيع على “اتفاقيات أبراهام” في ديسمبر 2020.

وقد سارعت إدارة الرئيس بايدن الديمقراطية إلى الإعلان عن أنها تقاسم إسبانيا موقفها من قضية الصحراء، وأن مخطط الحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب “جاد وذو صدقية وواقعي”، ويتضمن إمكانات واضحة للاستجابة لتطلعات سكان إقليم الصحراء الغربية.

2- مخاوف من قضية الهجرة غير النظامية: خلال السنوات القليلة الماضية، شهدت العلاقات بين الرباط ومدريد أزمة حادة، على خلفية عدة قضايا تمثلت في رفض مدريد لاعتراف واشنطن بسيطرة الرباط على الصحراء الغربية، واستضافتها غالي زعيم جبهة “البوليساريو” الانفصالية للعلاج في مدريد، مروراً بالمحاولات السياسية داخل البرلمان الإسباني المتعلقة بإمكانية ضم سبتة ومليلية إلى “الناتو” وإلى اتفاقية “شينجن” الأوروبية.

وردت المغرب بتخفيف القيود على الحدود مع جيب سبتة الإسباني في شمال أفريقيا في 17 مايو 2021، مما أدى إلى تدفق ما لا يقل عن 8000 مهاجر، حيث أوقفت المملكة مراراً وتكراراً الدوريات الحدودية، وسمحت لعشرات قوارب المهاجرين بالوصول إلى جزر الكناري الإسبانية، وسمحت للآلاف بعبور السياج إلى منطقتي سبتة ومليلية الإسبانية.

وتهدف إسبانيا من هذا التحول بشأن الصحراء أساساً إلى جعل الرباط تسيطر على تدفقات الهجرة من أجل أن يكون هناك مزيد من السيطرة بدلاً من الغياب المتعمد للسيطرة من جانب المغرب.

3- التحلي برؤية براجماتية عبر التخلي عن النبرة الاستعمارية: تسعى السياسة الخارجية لإسبانيا جاهدةً لتأمين مكانة البلاد كقوة عالمية متوسطة، لها صوت في أمريكا اللاتينية وأوروبا وحوض البحر الأبيض المتوسط. وفي هذا السياق، فإن ثمة مقاربة براجماتية لخلق علاقة رابحة مع المغرب من خلال التخلي عن النبرة الاستعمارية التي عمقت الخلاف بين البلدين حتى الآن، وخلقت التوترات من خلال استخدام الصحراء الغربية كورقة مساومة. فالمغرب شريك مهم للغاية لإسبانيا، من منظور جغرافي واستراتيجي. ومدريد قرأت جيداً التحولات الجيوسياسية، وهي لا تريد أن تكون خارج مجموعة أصدقاء المغرب.

وخلال السنوات الأخيرة، شهدت المبادلات التجارية بين البلدين تطوراً ملحوظاً، حيث صارت إسبانيا الشريك التجاري الأول للمغرب منذ عام 2014 بنسبة 16.3% من مجموع مبادلاته التجارية في تلك السنة، متجاوزة فرنسا التي كانت دائماً الشريك التجاري الأول للمغرب؛ إذ إن إسبانيا لا تريد أن تُفسح المجال للدول الأخرى لأن تستثمر في المغرب فيما هي على بعد كيلومترات منها. وتعتقد الحكومة الإسبانية أن الاتفاق مع الرباط سيضمن “وحدة أراضيها”، في إشارة ضمنية إلى جيبي سبتة ومليلية اللذين يطالب بهما المغرب، وقد يصرف بالتالي النظر عن مطالباته.

4- تزايد أهمية المغرب في تنويع مصادر الطاقة لأوروبا: ساهمت تداعيات أزمة أوكرانيا في تعزيز موقع المغرب الاستراتيجي، وتحديداً فيما يتعلق بتوفير خيارات بديلة لأوروبا وإسبانيا بأمن الطاقة، مع عدم تجاوب الجزائر مع مطالب الدول الغربية بزيادة حجم صادراتها من الغاز إلى أوروبا، وإعادة تشغيل أنبوب الغاز المغاربي – الأوروبي الذي يمر عبر المغرب. وقد تحولت أفريقيا إلى مورد واعد لسوق الغاز الأوروبية.

وتتطلع المغرب والجزائر لتكونا ممراً لتصدير إمدادات الغاز النيجيري لأوروبا؛ إذ إنها واحدة ضمن أكبر دول العالم التي تملك احتياطيات غاز مؤكدة تُقدر بما يقارب 206 تريليونات قدم مكعب، تمثل 33% من احتياطيات قارة أفريقيا، ويمكن رفعها إلى 600 تريليون قدم مكعب في حالة التوسع في استثمارات الغاز وتطوير القطاع.

ويبدو أن إسبانيا تشارك في الجهود الحثيثة التي تبذلها الولايات المتحدة لدعم المغرب للفوز بصفقة مشروع الغاز النيجيري العابر للصحراء، لأن إسبانيا ستستفيد حتماً من هذا المشروع في حال مر الأنبوب عبر المغرب، أما إذا مر عبر الجزائر فستضطر للتفاوض بشأنه من أجل الاستفادة منه.

5- دعم أوروبي للخطوة الإسبانية: حيث يتمتع المغرب بعلاقات جيدة مع فرنسا وألمانيا، تأخذ في الاعتبار الحاجة الأوروبية لدور الرباط الرئيسي في التعامل مع قضايا الأمن والهجرة. وأصبحت فرنسا أكثر الدول الأوروبية حماسة لتعزيز شراكتها مع المغرب، ولا سيما في ظل علاقة باريس المتوترة مع الجزائر. وتدرك فرنسا الدور الذي يلعبه المغرب باعتباره “فاعلاً محورياً” في معالجة الهجرة غير الشرعية، وتكافح جنباً إلى جنب مع الدول الأوروبية لتفكيك شبكات مهربي البشر.

وفتحت ألمانيا في أوائل يناير 2022 صفحة جديدة في العلاقات مع المغرب، حيث دعا الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير العاهل المغربي الملك محمد السادس لزيارته لإصلاح العلاقات بعد أزمة دبلوماسية نشبت عقب انتقاد برلين قرار الولايات المتحدة الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية أواخر عام 2020.

وقد رحبت المفوضية الأوروبية (EC) بالتحول في سياسة إسبانيا تجاه قضية الصحراء، وقالت إنه حل “جاد وموثوق وواقعي” لقضية استمرت لعقود حتى الآن. وقد دعمت المفوضية الأوروبية هذه الخطوة لأنها تعمل على تحسين الشراكة الأوروبية المغربية، وتعزيز العلاقات الثنائية بين إسبانيا وشريكها الاستراتيجي.

تحديات منتظرة

رغم أن التحول الإسباني تجاه قضية الصحراء الغربية، وتأييده الصريح لخطة الحكم الذاتي المغربية، يعد بالمعايير السياسية خطوة جوهرية وعلامة فارقة في مسيرة العلاقات بين إسبانيا والمغرب؛ فإن العلاقات بين الدولتين ستظل أسيرة التاريخ ورهينة الجغرافيا، وسيظل هذا التحول عرضة للتقلبات السياسية الطارئة في الساحة السياسية الإسبانية، فمع وجود 70% من الإسبان الذين يدعمون استقلال الصحراء وأكثر من 80% من أنصار الحزب الاشتراكي الحاكم بزعامة سانشيز، فإن هذه الخطوة بعيدة كل البعد عن الشعبية.

وقد تسبب اعتراف حكومة سانشيز بمغربية الصحراء الغربية في أزمة كبيرة داخل الائتلاف الحاكم. واعتبر حلفاؤه من حركة “بوديموس” اليسارية المتطرفة، والداعمون لحق الصحراويين في تقرير المصير؛ أن هذا القرار “خطأ فادح”. وعلاوة على “بوديموس” استنكرت غالبية الأحزاب السياسية الإسبانية، ولا سيما الحزب الشعبي المحافظ، موقف سانشيز بشأن قضية الصحراء الغربية، مطالبة إياه بشرح قراره حول هذه المسألة “التي كانت موضوع إجماع منذ 47 عاماً”.

وفي 7 أبريل 2022، ندد البرلمان الإسباني بتخلي الحكومة عن موقفها “التاريخي” المحايد حول النزاع في الصحراء الغربية. وحظي القرار بأصوات 168 نائباً من اليسار واليمين، مقابل 118 معترضاً من نواب الحزب الاشتراكي، وامتناع 61 عن التصويت.

موقف ثابت

خلاصة القول، من المؤكد أن الموقف الإسباني الجديد لا يحظى بدعم كبير حالياً في الأوساط السياسية الإسبانية، سواء بين الائتلاف الحكومي أو أعضاء البرلمان، لكن نظراً لكونه الموقف الرسمي للدولة الإسبانية، الذي عبرت عنه حكومة الحزب الاشتراكي الحالية بزعامة بيدرو سانشيز، فسيكون من الصعب على الحكومات القادمة تغييره، حتى إن كانت لها تصورات مختلفة وخيارات بديلة تجاه قضية الصحراء؛ لأن أي محاولة للتراجع أو النكوص عن هذا الموقف المستجد ستؤدي إلى تدهور كبير في علاقات الرباط ومدريد، وستصطدم بمواقف أوروبية وأمريكية داعمة لهذا التغيير “التاريخي” في الموقف الإسباني تجاه المغرب وقضيته المركزية: الصحراء الغربية.

وتبقى أيضاً محدودية خيارات الجزائر في عرقلة التحول الإسباني تجاه قضية الصحراء، سواء بالضغط بورقة الغاز والنفط ضد إسبانيا وأوروبا، أو في دعم جبهة “البوليساريو”، بالنظر إلى حاجة الجزائر للأسواق الأوروبية لبيع غازها ونفطها، وتوافر البدائل الأمريكية والقطرية والنيجيرية والشرق متوسطية للغاز الجزائري، هذا عدا عن ضعف جبهة “البوليساريو” التي كفت عن القيام بأي عمليات نوعية في الأراضي الصحراوية منذ نحو ثلاثين عاماً، ولا سيما مع نجاح المغرب في خلق واقع جديد على الأرض يحرم الجبهة من وجود بيئة مواتية للقيام بعملياتها، إن وجدت!.