فجوة مواقف:
لماذا تحول الاتحاد التونسي العام للشغل إلى صفوف المعارضة؟

فجوة مواقف:

لماذا تحول الاتحاد التونسي العام للشغل إلى صفوف المعارضة؟



صرح الأمين العام التونسي للشغل “نور الدين الطبوبي” خلال كلمته التي ألقاها بمناسبة إحياء الذكرى الـ 70 لاغتيال الزعيم النقابي “فرحات حشاد”، بقصر المؤتمرات بالعاصمة (في 3 ديسمبر 2022)، بأن الاتحاد سبق وحذر رئيس الدولة “قيس سعيد” من أن “المسار سيولد نتائج لا أحد يتوقع حجم ضعفها، وما يستبطنه من تفكك وتفتيت”، في إِشارة إلى رفضه المسار التصحيحي الذي يواصل الرئيس “قيس سعيد” تطبيقه منذ إعلان الإجراءات الاستثنائية في 25 يوليو 2021.

أسباب التصعيد

يمكن تفسير التحول اللافت للنظر في موقف الاتحاد التونسي العام للشغل من تأييد الإجراءات الاستثنائية إلى المعارضة الشديدة لما يتخذه الرئيس “قيس سعيد” من إجراءات وسياسات لتنفيذ خريطة الطريق الخاصة بالإصلاحات السياسية والدستورية في البلاد، من خلال بعض العوامل والأسباب التي دفعت الاتحاد نحو تبني نهج تصعيدي على هذا النحو، ومن أبرزها ما يلي:

1- تهميش دور الاتحاد في الحوار الوطني: يتمثل الدافع الرئيسي وراء اتجاه الاتحاد التونسي العام للشغل نحو التصعيد ضد الرئيس “سعيد” والحكومة الحالية برئاسة “نجلاء بودن” في رفض الرئيس “سعيد” الاستجابة لمطالب اتحاد الشغل بإجراء حوار وطني حقيقي بين الرئيس والأحزاب والقوى السياسية والمجتمعية المؤيدة لإجراءات 25 يوليو 2021، ومن بينهم اتحاد الشغل، كما يرفض الرئيس استشارة الاتحاد فيما يقوم باتخاذه من إصلاحات سياسية ودستورية، وكان آخرها الدستور الجديد للبلاد الذي تم إقراره وفقاً لنتائج الاستفتاء الشعبي عليه في 25 يوليو الماضي، ورغم إعلان اتحاد الشغل فيما بعد تأييده لهذا الدستور، إلا أنه عاد وعارضه انطلاقاً من كونه تكريساً لحكم الفرد.

2- معارضة استمرار المسار التصحيحي الحالي: إذ أكد الأمين العام للاتحاد التونسي العام للشغل “نور الدين الطبوبي” خلال خطابه الأخير برفض الاتحاد استمرار المسار الذي يتبناه الرئيس “سعيد” على هذا النحو، وخاصة بسبب رفض الأخير تقديم أية ضمانات للاستمرار على هذا النحو الانفرادي من قبل رئيس الدولة، ورغم ذلك يرفض الاتحاد العودة لمرحلة ما قبل 25 يوليو، وهو ما دفع الرئيس للإصرار على عدم إشراك الاتحاد في إجراءات الإصلاحات السياسية والدستورية، الأمر الذي أثار غضب أمين الاتحاد “الطبوبي” وأطلق تصريحات مباشرة لرئيس الدولة بعدم قدرته على تحديد تحركات الاتحاد داخل البلاد.

3- رفض قانون المالية لعام 2023: حيث أعلن الاتحاد التونسي العام للشغل رفضه التعديلات الأخيرة التي تم إدخالها على قانون الموازنة الجديد لعام 2023 والذي تضمن فرض المزيد من الضرائب، وخاصة على العاملين في القطاع العام والمؤسسات الحكومية التابعة للدولة، ليعلن اتحاد الشغل أن هذه الضرائب الجديدة من شأنها زيادة معاناة العمال وموظفي الدولة في ظل تراجع القدرة الشرائية لكافة أفراد الشعب التونسي خلال الفترة الأخيرة، وتأزم الأوضاع الاقتصادية في ظل توقعات صندوق النقد الدولي بتراجع تحويلات التونسيين العاملين في الخارج من 2.2 مليار دولار عام 2021 إلى 2 مليار دولار فقط مع نهاية العام الجاري، وهو ما سيؤثر سلباً على الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، نظراً لأن تلك التحويلات تعد من أهم المصادر الرئيسية للنقد الأجنبي للاقتصاد التونسي على نحو دفع الاتحاد للتعبير عن رفضه هذه التعديلات التي تم فرضها تحت مسمى تطبيق العدالة الجبائية للضرائب في قانون الموازنة الجديد.

4- ضعف الأداء الحكومي في حل الأزمات الداخلية: يطالب الاتحاد التونسي العام للشغل بإجراء تعديلات وزارية موسعة في الحكومة الحالية برئاسة “نجلاء بودن” وذلك لعدم قدرة أعضاء هذه الحكومة على تصحيح أو حل المشكلات والأزمات الداخلية، وخاصة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما ظهر في ضعف الأداء الحكومي بصفة عامة منذ تشكيلها، وانعكس ذلك في سياسات الإصلاح الاقتصادي التي اتخذتها الحكومة تنفيذاً لمطالب وشروط صندوق النقد الدولي للموافقة على منح قرض بقيمة 1.9 مليار دولار لسد عجز الموازنة وحل المشكلات الاقتصادية الداخلية في البلاد، وهو ما دفع الاتحاد لتهديد الحكومة بتنظيم حركة احتجاجات شعبية واسعة اعتراضاً على إجراءات جباية الضرائب وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للمواطنين.

سياق مضطرب

تزامن التصعيد الذي يقوم به الاتحاد التونسي العام للشغل، مع ما تشهده البلاد من مظاهر عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، ومن أهم المؤشرات الدالة على ذلك ما يلي:

1- تصعيد قوى المعارضة ضد “تغول” الرئيس: حيث تواصل حركة النهضة وجبهة الخلاص الوطني تصعيدها ضد الرئيس “قيس سعيد” وذلك من خلال حشد الشارع التونسي للتظاهر والاحتجاج ضد إجراءات الإصلاح السياسي والاقتصادي التي تقوم بها الدولة خلال الفترة الأخيرة، كما تواصل المعارضة دعواتها التحريضية لمقاطعة الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في 17 ديسمبر الجاري، ووصل التصعيد إلى حد الدعوة لتنظيم مظاهرات حاشدة في العاصمة تونس يوم 10 ديسمبر الجاري، للمطالبة بإسقاط النظام السياسي الحالي ورحيل الرئيس “سعيد” وتشكيل حكومة إنقاذ وطني لإدارة شؤون البلاد، حيث تتهم المعارضة الرئيس “سعيد” بالتغول على السلطة وإضفاء شرعية زائفة على ذلك الأمر، وتفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.

2- مقاطعة الانتخابات البرلمانية المقبلة: فقبل إجراء الانتخابات البرلمانية في 17 ديسمبر الجاري، أعلن 12 حزباً سياسياً بما في ذلك “حركة النهضة”، و”قلب تونس” و”ائتلاف الكرامة”، و”التيار الديمقراطي” و”الدستوري الحر”، عدم المشاركة في هذه الانتخابات، كما أصدرت خمسة أحزاب سياسية (العمال – الجمهوري – التيار الديمقراطي – التكتل – القطب) بياناً مشتركاً في 3 ديسمبر الجاري بعدم المشاركة أيضاً في هذه الانتخابات، وذلك استناداً إلى أن هذه الانتخابات سيتم إجراؤها وفق قانون انتخابي يعتمد على الانتخاب الفردي وليس القوائم الحزبية بما يقلل من فرص الأحزاب السياسية في تحقيق نتائج إيجابية، وأيضاً اعتراضاً على خفض عدد مقاعد البرلمان من 217 إلى 161 مقعداً فقط، وأن الدستور الجديد الذي تمت صياغته بشكل منفرد دون استشارة الأحزاب والقوى السياسية سيؤدي إلى تشكيل برلمان ضعيف، خاصة وأنه لا يتمتع بصلاحيات محاسبة أو مساءلة رئيس الدولة.

3- معارضة منقسمة في التوجهات السياسية: يتسم موقف الأحزاب والقوى السياسية والمجتمعية المعارضة بالانقسام والتباين في المواقف والتوجهات، ووصل الأمر إلى تبادل الاتهامات بضعف الموقف، وهو ما ظهر في اتهام حزب الدستوري الحر للاتحاد التونسي العام للشغل بأنه لم يكن على مستوى الطموحات والآمال، وبررت زعيمة الحزب “عبير موسى” ذلك الأمر بأن مواقف اتحاد الشغل خلال الفترة الأخيرة اتسمت بالضعف والصمت تجاه ممارسات رئيس الدولة، وخاصة فيما يتعلق بصياغة الدستور والاستفتاء عليه والقانون الانتخابي، متهمة قيادات اتحاد الشغل بالعمل وفقاً لقناعاتهم الشخصية وأحقادهم السياسية، واصفة الخطاب الأخير لأمين عام الاتحاد بأنه غير ذي جدوى، وربما يرجع هجوم حزب الدستوري الحر على الاتحاد بسبب رفض الأخير التحالف مع الأحزاب السياسية انطلاقاً من قناعة اتحاد الشغل بمسؤولية هذه الأحزاب عن تأزم الأوضاع السياسية على هذا النحو غير المسبوق الذي تشهده البلاد، ورفضه محاولات بعض الأحزاب وعلى رأسها “حركة النهضة” الاستقواء بالخارج للعودة لما قبل 25 يوليو 2021.

دلالات عاكسة

يحمل تصعيد الاتحاد التونسي العام للشغل عدداً من الدلالات السياسية، وذلك على النحو التالي:

1- تحول نوعي في مواقف اتحاد الشغل تجاه الرئيس والحكومة، فبعد التأييد الذي أبداه الاتحاد التونسي العام للشغل لإجراءات الإصلاح السياسي والدستوري التي تبناها الرئيس “سعيد” وكان آخرها تأييده للدستور الذي تم إقراره في الاستفتاء الشعبي عليه، إلا أن إصرار الرئيس على مواصلة أسلوبه المنفرد في اتخاذ القرارات، دفع اتحاد الشغل لتبني خطاب سياسي يتسم بالحدة والتصعيد من خلال التهديد بالتحريض على الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية لإسقاط الحكومة الحالية ووقف انفراد الرئيس بالسلطة.

2- اضطراب سياسي متصاعد بين الرئيس وجبهة المعارضة: من شأن التصعيد الذي يتبناه الاتحاد التونسي العام للشغل وتصعيد الأحزاب والقوى السياسية المعارضة ضد رئيس الدولة واتهام جبهة الخلاص له بالتطبيع مع إسرائيل، أن يؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار السياسي، في ظل تبادل الاتهامات بين المعارضة ورئيس الدولة، فقد اضطر الرئيس “سعيد” للرد على المعارضة، وهو ما ظهر في التصريحات الأخيرة للرئيس “سعيد” خلال لقاء جمعه بوزير الاقتصاد والتخطيط “سمير سعيّد”، التي انتقد فيها المعارضة بأنها السبب في تأزم الأوضاع الاقتصادية الحالية، مشيراً إلى أن الشعب يرغب في التخلص من هذه الأحزاب التي تعد السبب في هذه الأزمات. كما جاءت هذه التصريحات للرد على انتقادات اتحاد الشغل للحكومة الحالية واتهامها بالارتجال والغموض وعدم الانسجام والعمل وفق أساليب العمل التي تبنتها الحكومات السابقة في ظل غياب الشفافية وازدواجية الخطاب الذي تتبناه هذه الحكومة، الأمر الذي يؤكد على غلبة التوتر وعدم الاستقرار على المشهد السياسي الحالي للبلاد.

3- مواصلة المسار التصحيحي لإرساء الجمهورية الجديدة: تعكس حدة الخطاب السياسي التصعيدي الذي يتبناه الاتحاد التونسي العام للشغل، استمرار الرئيس “سعيد” في تنفيذ خريطة طريق الإصلاحات السياسية والدستورية الذي سبق وأعلن عنها في 13 ديسمبر 2021، ولا يزال يواصل تنفيذ كافة بنودها وصولاً لإجراء الانتخابات البرلمانية في 17 ديسمبر الجاري. وما يؤكد على ذلك هو عدم استجابة رئيس الدولة التونسية لمطالب المعارضة، في ظل اقتناعه بمحدودية قدرتهم على التأثير في مسار الإصلاح الذي يتبناه.

تصعيد متواصل

الخلاصة، ترجح المعطيات الراهنة أن تستمر ملامح التصعيد المتبادل بين الاتحاد التونسي العام للشغل من جهة، ورئيس الدولة من جهة أخرى، إلى حين إجراء الانتخابات التشريعية المقررة في موعدها المحدد وفقاً لخريطة الطريق التي فرضها الرئيس “سعيد”، مع عدم استبعاد تأثير تصعيد اتحاد الشغل بشكل أو بآخر على عملية المشاركة في هذه الانتخابات، في ظل امتلاكه القدرة على التأثير في توجهات أعضاء الاتحاد تجاه العملية الانتخابية القادمة.