دوافع متشابكة:
لماذا تحاول الجزائر محاصرة دور “فاغنر” في مالي؟

دوافع متشابكة:

لماذا تحاول الجزائر محاصرة دور “فاغنر” في مالي؟



مع انحسار الدور الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي، وخاصة في مالي، تنامى الدور الجزائري في إدارة ملفات الأزمة هناك، لا سيما أن الجزائر ترتبط مع مالي بحدود طويلة، مما يجعل من الجارة الجنوبية عمقاً استراتيجياً لها.

هذا التجاور الجغرافي لمالي مع الجزائر، ومدى تأثيره على الأمن القومي الجزائري، دفع الرئيس عبد المجيد تبون إلى وصف علاقة الجزائر مع مالي، في أكثر من مناسبة، بـ”المحورية”. لكن ما يثير التساؤل هو الأسباب التي دفعت تبون في تصريحه الأخير إلى انتقاد وجود مجموعة “فاغنر” الروسية في مالي، واعتباره أن الأموال التي يدفعها المجلس العسكري الحاكم في باماكو مقابل خدمات “فاغنر”، ستكون “أكثر فائدة إذا تم استثمارها في مشاريع اقتصادية”.

ففي هذا السياق، قال الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، في مُقابلة مع صحيفة “لوفيجارو” الفرنسية، في 30 ديسمبر الفائت، أن “الأموال التي يكلفها هذه الحضور ستكون أنسب وأكثر فائدة إذا خُصصت للتنمية في منطقة الساحل”. وأضاف الرئيس الجزائري: “الإرهاب ليس أكثر ما يُقلقني، يُمكننا هزيمته. أنا قلق أكثر من حقيقة أن منطقة الساحل تغرق في البؤس. الحل هناك هو 80 بالمائة اقتصادي، و20 بالمائة أمني”.

أسباب متعددة

لم يكتفِ الرئيس عبد المجيد تبون بانتقاد تواجد “فاغنر” في مالي، ولم يتوقف عند حدود انتقاد المجلس العسكري الحاكم في باماكو، وإن بصورة غير مباشرة، بسبب تمويل هذا التواجد؛ بل تابع قائلاً: “إن تسوية الوضع تمر بوضوح عبر الجزائر. لو تمت مساعدتنا في العمل على تطبيق اتفاق الجزائر لعام 2015، من أجل تهدئة هذه المنطقة، لما كان هذا الحال”.

وبناءً على هذه الرؤية التي يقدمها الرئيس الجزائري عبر تصريحاته للصحيفة الفرنسية، يبدو أن عدداً من الأسباب تستند إليها الرؤية الجزائرية، في محاولة حصار دور قوات “فاغنر” في مالي، لعل أهمها ما يلي:

1- تدعيم الدور الجزائري المتصاعد في أزمة مالي: تحاول الجزائر “ملء الفراغ” الذي تركته قوات “بارخان” الفرنسية، التي غادرت إلى النيجر. ويقوم الدور الجزائري في مالي على مقومات متعددة، يأتي في مقدمتها مرجعية اتفاق الجزائر بين قبائل الأزواد- التي تقطن شمالي مالي المضطرب- والسلطة المركزية في باماكو، حيث نجحت الجزائر في التوصل إليه في عام 2015.

وبالتالي، تستند محاولة الجزائر في ملء الفراغ إلى اعتبارات يراها صانع القرار الجزائري موضوعية، خصوصاً مسألة الجوار الجغرافي، حيث يصل طول الحدود بينهما إلى حوالي 1376 كم، مما يجعل من الجارة الجنوبية (مالي) عمقاً استراتيجياً للجزائر، وبما يعني، في الوقت نفسه، المعرفة الجزائرية العميقة بمنطقة شمال مالي، التي ترتكز على مكونات أنثروبولوجية واجتماعية بصفة خاصة.

2- محاولة الحدّ من دور “فاغنر” في ليبيا: اتخذت الجزائر، في موقفها من الأزمة الليبية وتداعياتها على الأمن القومي الجزائري، موقعاً أكثر اقتراباً من غرب ليبيا عن شرقها، وهو الموقف الذي يعود إلى المنظور الذي اعتمدته الجزائر في التعامل مع الأزمة، أي منظور الأمن الحدودي للدولة الجزائرية، وإشكالية انكشافه أمام تداعيات هذه الأزمة.

ومن ثمّ يأتي انتقاد الرئيس الجزائري لتواجد “فاغنر” الروسية في مالي بمثابة رسالة غير مباشرة موجّهة إلى موسكو بخصوص الدور الذي تقوم به هذه القوات في ليبيا. فالجزائر لا تنظر بعين الرضا إلى ما تقوم به هذه الشركة الروسية وقواتها في ليبيا المجاورة، من دور لا يتوافق تماماً في الواقع مع مصالحها؛ من حيث إن “فاغنر” تعمل هناك -في ليبيا- لصالح معسكر المشير خليفة حفتر الذي لا تدعمه الجزائر.

3- مراعاة توجهات واشنطن وتحسن العلاقات مع باريس: ليس من المصادفة أن تأتي تصريحات الرئيس الجزائري بخصوص وجود “فاغنر” في مالي، بعد أيام من حدثين لهما أكثر من دلالة حول دوافع هذه التصريحات. فمن جهة، أدرجت الولايات المتحدة الأمريكية، في 3 ديسمبر الفائت، مجموعة “فاغنر” الروسية، إضافة إلى كوبا ونيكاراجوا، على قائمتها السوداء، المرتبطة بالحريات الدينية حول العالم، مما يفسح المجال لإمكان فرض عقوبات عليها. ومن جهة أخرى، وبعد لقائه الرئيس تبون، في 18 ديسمبر الفائت، أعلن وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دار مانان، فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين.

وإضافة إلى ما يبدو، عبر انتقاد “فاغنر” في مالي، أنه رسالة جزائرية إلى واشنطن؛ فإنه، في الوقت نفسه، تأكيد جزائري على حاجة فرنسا إلى دور للجزائر يعمل على ضبط التوتر القريب من النيجر- الدولة المجاورة لمالي- وموطن الاستثمارات الفرنسية في مادة اليورانيوم، والكفيلة بالتخفيف من وطأة فجوة الطاقة، مع قرار الأوروبيين التوقف عن الاعتماد على الغاز الروسي على خلفية الحرب في أوكرانيا.

4- تأكيد محورية الدور الجزائري في أزمة الطاقة: تتقاطع الاستراتيجية الجزائرية في محاولة الاستفادة القصوى من حجم التغير الذي حدث على مستوى سوق الطاقة العالمي، بتحول النفط والغاز كليهما في الفترة الحرجة الحالية من سلعة “ريعية” إلى مكون “استراتيجي”؛ مع المشروع الجزائري لنقل الغاز النيجيري، عبر “الطريق العابر للصحراء” مروراً بدول ساحلية، وفي مقدمتها مالي، ليكون تأمين المنطقة بدور جزائري كبير أساسه مرجعية “اتفاق الجزائر” (2015).

لذلك، فإن الجزائر في إطار تمديد نفوذها إلى منطقة الساحل الأفريقي تسعى إلى إنجاز عدد من المشاريع الكبرى؛ إلا أن مثل هذا الطموح يصطدم بالتمدد الروسي في المنطقة، الذي يسعى إلى تعزيز حضوره الدبلوماسي والعسكري، وحتى الاقتصادي، مما يُزعج الجزائر التي تتدخل في منطقة الساحل الأفريقي عبر سياسة ناعمة لكنها مؤثرة. ومن ثم قد تكون الحالة المالية، وانتقاد “فاغنر” هناك، من أولى تداعيات التفاهمات الجزائرية-الفرنسية الجديدة، بمنح الجزائر المكانة المحورية في تفاهمات الساحل الأفريقي المستقبلية.

توازن مرن

في هذا السياق، يمكن القول إن اهتمام الجزائر بالأزمة في مالي إنما يأتي كنتيجة طبيعية لما تشهده الحدود بين البلدين- القريبة من مواقع نفطية استراتيجية في جنوب الجزائر- من تدهور في الأوضاع الأمنية، مما جعلها بؤرة للأنشطة الإرهابية والتجارة غير المشروعة. ويبدو الموقف الجزائري من الأزمة في مالي إعمالاً للرؤية الرافضة لأي فعل يمكن أن يتسبب في المزيد من الاضطرابات والتحديات الأمنية والإنسانية، التي تشهدها البلاد، بما يمكن أن يؤثر على الداخل الجزائري عبر الحدود الجنوبية.

 ويضاف إلى ذلك ما يبدو من محاولة جزائرية للبحث عن آليات جديدة، لتعزيز دورها في إقليم الساحل؛ حيث يُعد الإقليم من أهم المناطق، إن لم يكن أهمها بالفعل، المُرشحة لأن تشهد حضوراً عسكرياً جزائرياً بعد تمرير التعديلات الدستورية التي تضمنت للمرة الأولى بنداً يسمح بنشر القوات المسلحة الجزائرية وحدات لها في عمليات خارج حدود البلاد.

ولعل هذا ما يوضح “التوازن المرن” الذي تحاول الجزائر تكريسه مع كافة الأطراف المتداخلة مع منطقة الساحل الأفريقي عموماً، والأزمة في مالي على وجه الخصوص. فانتقاد “فاغنر”، في محاولة مراعاة واشنطن، وتحسين العلاقات مع باريس، لا يعني التقليل من قوة العلاقات الجزائرية-الروسية، بقدر ما يعني محاولة إعادة التموضع الجزائري في الساحل الأفريقي بصورة أكثر فاعلية.