واصل النظام السوري والإدارة الذاتية الكردية إجراء حوارات فيما بينهما، حيث عُقد، في منتصف يوليو الجاري، أول اجتماع شبه رسمي بين مسئولين من النظام وممثلين من الإدارة الذاتية برعاية روسية. ورغم أن العامين الماضيين شهدا عدة جولات حوارية بين الطرفين تحت إشراف موسكو، إلا أن النتائج كانت صفرية.
غير أن الجولة الأخيرة التي استضافتها دمشق يُتوقع، رغم عدم إضفاء طابع رسمي عليها، أن تسفر عن وصول الطرفين إلى توافق حول بعض النقاط، لاعتبارات تتعلق بطبيعة معادلة الاشتباك التركية- الكردية على الساحة السورية، ومساعي النظام السوري لتقليص حدة ضغوط الداخل في ظل تدهور الأوضاع المعيشية، وحرص موسكو على رعاية هذا الحوار واستمراره.
في المقابل، عكست هذه الجولة نتائج اختبار الاستراتيجية التي يسعى كل طرف إلى فرضها، حيث تشترط الإدارة الذاتية الكردية الاعتراف بها، بينما يصر النظام على استعادة السيطرة على كامل الحقول النفطية في الشمال السوري لتعزيز قدرته على استيعاب ضغوط الداخل.
مستجدات مختلفة
دفعت متغيرات عديدة، أغلبها ذات أبعاد أمنية وسياسية، تشهدها الساحة السورية في المرحلة الحالية، النظام السوري والإدارة الذاتية الكردية إلى تعزيز فرص التقارب المشترك بينهما، ويتمثل أبرزها فيما يلي:
1- مواجهة تزايد التهديدات التركية: يأتي تبني الإدارة الذاتية لخيار الحوار مجدداً مع النظام السوري بهدف تحشيد قدراتها والاستعداد لمواجهة التهديدات التركية بشن عملية عسكرية ضد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) شمال شرقى سوريا، ولا سيما في ظل استمرار تصريحات المسئولين الأتراك وتوعدهم عناصر “قسد”، وآخرها تأكيد وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو، في 21 يوليو الجاري، على أن تركيا “لا تطلب الإذن مطلقاً من أى أحد قبل شن عملية عسكرية في سوريا”. وسبق هذا التأكيد تصريحات للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 19 من الشهر نفسه، وعشية قمة طهران التي جمعته مع الرئيسين الإيراني إبراهيم رئيسي والروسي فيلاديمير بوتين، قال فيها: “يجب أن يكون الأمر واضحاً للجميع: لا مكان في المنطقة للحركات الإرهابية الانفصالية وأتباعها. سنواصل قريباً قتالنا ضد المنظمات الإرهابية في سوريا”، وأضاف أن “إرهاب (المنظمات الكردية) يشكل تهديداً لنا جميعاً”. وفي إطار السعى لمحاصرة التحركات العسكرية التركية في الشمال السوري، لجأت قوات “قسد” إلى نظام الرئيس بشار الأسد، الذي نشر قبل أيام عناصره قرب منبج وتل رفعت وغيرها من المناطق الحدودية مع تركيا.
2- إعادة تموضع النظام في الشمال السوري: يدرك النظام السوري أن التهديدات التركية باجتياح مناطق في الشمال السوري قد تفرض بدورها تحديات مركبة على دمشق. فبالإضافة إلى سعى النظام لتقزيم حضور خصومه الإقليميين على الساحة السورية، وخاصة تركيا؛ فإنه يبدي قلقاً من تمدد النفوذ الإيراني على الأراضي السورية في ظل انشغال موسكو بالأزمة الأوكرانية.
وبالتوازي مع ما سبق، فإن دمشق تسعى إلى توظيف تقاربها مع الإدارة الذاتية الكردية لتعزيز إعادة تموضع النظام في مناطق الشمال السوري، فقد استغل الأخير التهديدات التركية بشن عملية عسكرية جديدة ضد المليشيا الكردية لممارسة ضغوط على الإدارة الذاتية من أجل إعادة انتشار قواته بمناطق الشمال السوري تمهيداً للسيطرة الكاملة التي تتضمن عودة جميع مؤسسات النظام وأجهزته الأمنية. ويُشار في هذا الصدد إلى أن “قسد” سمحت للنظام السوري بإعادة نشر قواته في المناطق المهددة بالاجتياح التركي، فضلاً عن موافقة “قسد” على سيطرة القوات النظامية على طريق M4 الاستراتيجي. كما أن النظام السوري نشر قواته على محاور عديدة تضم الساجور ومنغ وعين عيسى وغيرها.
3- تأمين النفوذ العسكري الروسي: لا تنفصل محاولات تعزيز التقارب بين دمشق والإدارة الذاتية الكردية عن رغبة روسيا في حماية نفوذها في سوريا، حيث تعي موسكو أن إنجاز مصالحة بين نظام الأسد والأكراد في هذا التوقيت يضمن مصالحها في سوريا، في ظل انشغالها بالأزمة الأوكرانية. ووجه حرص موسكو على تأمين ورعاية جولة الحوار بين الطرفين رسالة واضحة مفادها أنها لن تسمح لتركيا أو للأطراف الدولية والإقليمية المنخرطة في الأزمة السورية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وإيران وإسرائيل، بتوظيف هذا الانخراط لقضم نفوذها في سوريا أو تهديد مصالحها.
4- اتساع نطاق الحرب الروسية- الأوكرانية: على الرغم من عدم تحقيق المحاولات الروسية السابقة لإجراء حوار بين النظام السوري والإدارة الذاتية الكردية في الشمال السوري نتائج بارزة يمكن البناء عليها للوصول إلى تفاهمات بين الطرفين، فإن موسكو تبدو هذه المرة أكثر حرصاً على تعزيز التقارب بين النظام والأكراد، لاعتبارات عديدة لا تنفصل عن إدراكها استمرار انخراطها في المواجهة مع الدول الغربية حول الحرب في أوكرانيا التي لا يبدو أنها سوف تصل إلى نهاية قريبة، على نحو يعني استمرار التصعيد سواء عن طريق العقوبات الغربية، أو من خلال التهديد بوقف إمدادات الطاقة.
تحديات قائمة
باتت المستجدات المحلية والإقليمية تفرض على الإدارة الكردية والنظام السوري تقديم تنازلات للوصول إلى صيغة توافقية؛ إلا أن ثمة تحديات تقف حجر عثرة أمام ضمان استمرار أى توافق محتمل بين الطرفين. ويأتي في مقدمة تلك التحديات موقع قوات “قسد” في أية ترتيبات أمنية مستقبلية. إذ ما زال النظام يتبنى نهجاً يقوم على رفض ضم تلك القوة إلى المنظومة العسكرية النظامية.
كما أن تعزيز انتشار القوات السورية في مناطق الشمال السوري لا ينفي أن ثمة تساؤلات عديدة تطرح في هذا السياق، حول مدى إمكانية اندلاع اشتباك مباشر بين هذه القوات والقوات التركية التي يمكن أن تنفذ العملية العسكرية التي تهدد تركيا بشنها، ومدى قدرة القوات النظامية على التصدي لهذا الهجوم. يضاف إلى ذلك، أن اتخاذ خطوات إجرائية لتفعيل أى تفاهمات بين الطرفين سوف يرتبط بحسابات ومصالح قوى خارجية عديدة، على غرار روسيا والولايات المتحدة الأمريكية التي ما زالت تعتبر المليشيا الكردية طرفاً رئيسياً في الحرب ضد تنظيم “داعش”.
مؤشرات مضادة
في الختام، يمكن القول إنه على الرغم من التحديات التي تعترض تعزيز فرص التقارب بين النظام السوري والإدارة الذاتية الكردية، فإن ثمة مؤشرات محفزة لتجاوز القضايا الخلافية، وتعزيز هذا التقارب، وفي الصدارة منها إصرار موسكو على المضيّ قدماً في تأمين جولات الحوار الراهنة، والتأكيد على أهمية نجاحها، فضلاً عن التحديات التي تواجه الإدارة الذاتية، وخاصة التهديدات التركية والتي تدفعها إلى إعادة تغيير حساباتها. كما أنّ واشنطن لم توجه من الرسائل ما يفيد أنها يمكن أن تعترض سبيل التفاهمات بين النظام والأكراد برعاية روسية، خاصة أنها تتسق مع مسار جنيف.