يمكن تفسير تجدد الجدل داخل إيران حول الانضمام إلى مجموعة “FATF” في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في تهيئة المجال أمام استفادة إيران من الانضمام إلى المنظمات الدولية الجديدة مثل “بريكس”، وتعزيز فرص استقطاب مزيد من الاستثمارات الأجنبية، وتشجيع الشركات الأجنبية على العودة إلى السوق الإيرانية، والاستعداد لإبرام صفقة محتملة حول الملف النووي.
عاد الجدل من جديد داخل إيران حول أهمية وتداعيات الانضمام إلى مجموعة العمل الدولية الخاصة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وذلك بعد أن رفضت بعض المؤسسات النافذة في النظام اتخاذ قرار بالانضمام لها، على غرار مجلس صيانة الدستور، ومجلس تشخيص مصلحة النظام.
إذ قال عضو لجنة السياسة الخارجية والأمن القومي في مجلس الشورى الإسلامي، حشمت الله فلاحت بيشه، في حوار مع صحيفة “اعتماد”، في 12 أكتوبر الجاري، إن هناك تقارير تكشف أن الرئيس إبراهيم رئيسي طلب من المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي إعادة النظر في القرار الذي اتخذته إيران برفض الانضمام إلى المجموعة.
ورغم أنه لم يثبت أن الرئيس قدم طلباً بالفعل للمرشد في هذا الصدد، إلا أن حرص صحيفة “كيهان” (الدنيا) المتشددة على نشر تقرير جديد، في 25 أكتوبر الجاري، يدعو إلى عدم اتخاذ قرار مغاير بالانضمام إلى المجموعة، ويحذر من التداعيات التي يمكن أن تنجم عن ذلك؛ يوحي بأن هناك اتجاهاً جديداً بدأ يظهر بالفعل داخل دوائر صنع القرار في إيران ويتبنى هذا النهج.
دوافع عديدة
يمكن القول إن الاتجاه الجديد الذي يدعو إلى الانضمام إلى مجموعة العمل الخاصة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، يستند إلى اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تعظيم الاستفادة من الانضمام إلى المنظمات الدولية الجديدة: خاصة مجموعة “بريكس” ومنظمة “شنغهاي للتعاون”. إذ إن نجاح إيران في الحصول على مكاسب اقتصادية من الانضمام إلى تلك المنظمات يتطلب في المقام الأول أن تكون لديها القدرة على استيعاب شروط بعض الهيئات الدولية التي تركز جهودها على مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وذلك باعتبار أن الدول الأخرى سوف تشترط ذلك -في الغالب- من أجل توسيع نطاق علاقاتها الثنائية مع إيران خلال المرحلة القادمة.
ومن دون شك، فإن إيران ترى أن الانضمام لعضوية تلك المنظمات يمثل آلية قوية يمكن من خلالها تقليص حدة التداعيات التي تفرضها العقوبات الأمريكية، والتي كانت إيران قد التفت عليها بوسائل مختلفة، إلا أن ذلك لا ينفي أن تلك العقوبات فرضت تأثيرات مباشرة بدت جلية في تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية الداخلية، وعدم نجاح الإجراءات التي اتخذتها الحكومات المتعاقبة في احتوائها.
2- ضغوط بعض القوى الصديقة لطهران: كان لافتاً أنه رغم مرور أكثر من عامين ونصف تقريباً على توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية مع الصين والتي تقضي بقيام الأخيرة بضخ نحو 400 مليار دولار استثمارات في إيران على مدى 25 عاماً؛ إلا أن هذه الاتفاقية لم تجد طريقها إلى التنفيذ بعد، أو على الأقل تواجه عقبات عديدة، وذلك بسبب مطالبة الصين لإيران بضرورة الانضمام إلى مجموعة العمل الدولية الخاصة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وفي رؤية بكين، فإن ذلك يمكن أن يساعد في رفع مستوى التعاون الثنائي بين الطرفين في المجالات المختلفة، ويدفع الشركات التابعة لها للانخراط في مثل هذا التعاون.
ورغم أن الصين تساعد إيران في الالتفاف على العقوبات الأمريكية الخاصة بالصادرات النفطية، باعتبار أن ذلك يدعم مصالحها، خاصةً أنها في هذه الحالة تحصل على نفط إيراني أرخص؛ فإنها تتبنى موقفاً مختلفاً إزاء توسيع نطاق العلاقات لتشمل إلى جانب الطاقة كلاً من البنية التحتية والزراعة والتكنولوجيا وغيرها.
3- الاستعداد لاحتمال إبرام صفقة نووية جديدة: رغم تعثر المفاوضات التي أجريت على مدى أكثر من عام حول الاتفاق النووي، وتحديداً خلال الفترة من أبريل 2021 وحتى أغسطس 2022، إلا أن ذلك لا ينفي أن إيران سعت إلى الإبقاء على قنوات التواصل مفتوحة، سواء مع الولايات المتحدة الأمريكية، أو مع الدول الغربية. صحيح أن العلاقات بين الطرفين شهدت توتراً متصاعداً بسبب اتهام إيران بتقديم دعم عسكري لروسيا لمساعدتها على إدارة العمليات العسكرية في أوكرانيا، وربما يتفاقم هذا التوتر بعد اندلاع الحرب بين إسرائيل وحركة حماس عقب شن الأخيرة عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر الجاري؛ إلا أنّ ذلك لا ينفي أن الطرفين حريصان على الإبقاء على فرص الوصول إلى صفقة نووية قائمة.
وهنا، فإن إيران لا تستبعد أن يتم الوصول إلى اتفاق نووي جديد يتم بموجبه رفع القسم الأكبر من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية في مرحلة ما بعد انسحابها من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018. وربما كان دافعها للوصول إلى صفقة لتبادل السجناء مع الولايات المتحدة الأمريكية تم تنفيذها في 18 سبتمبر الفائت، هو تعزيز فرص إبرام صفقة نووية جديدة.
وهنا، فإن الحصول على المكاسب المحتملة التي من الممكن أن تجنيها إيران في هذه الحالة سوف يرتبط بمدى قدرتها على الاستجابة لمطالب بعض الهيئات الدولية، ولا سيما المجموعة الخاصة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وقد أشارت بعض التقديرات الإيرانية، على سبيل المثال، إلى أن مجموعة الأموال المستحقة لإيران والمجمدة في مصارف أجنبية يصل إلى 100 مليار دولار، وهي أموال قد لا تستطيع إيران الحصول عليها بسهولة، حتى لو أبرمت صفقة نووية جديدة، إلا في حالة انضمامها إلى مثل هذه الهيئات.
4- العودة إلى استقطاب استثمارات خارجية: كانت العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية بداية من 7 أغسطس 2018، عقب الانسحاب من الاتفاق النووي في 8 مايو من العام نفسه، سبباً في اندفاع العديد من الشركات الأجنبية إلى الانسحاب من الاستثمار في السوق الإيرانية، على غرار شركة “توتال” الفرنسية، التي انسحبت، في 20 أغسطس 2018، أي بعد تطبيق العقوبات الأمريكية بنحو أسبوعين، من صفقة تطوير المرحلة الحادية عشرة من حقل بارس الجنوبي التي كانت تصل قيمتها إلى 4.8 مليارات دولار.
وهنا، فإنّ المتغير الرئيس الذي يدفع تلك الشركات إلى الخروج من السوق الإيرانية بهذه السرعة يكمن في تجنب التعرض لعقوبات أمريكية مماثلة، أو الاضطرار إلى دفع غرامات مالية كبيرة، بسبب التورط في الانخراط في تعاملات مالية وتجارية مع شركات وهيئات داخل إيران تخضع لعقوبات دولية أو أمريكية.
وحتى الشركات الصينية نفسها، التي سبق أن انخرطت في استثمارات داخل إيران، اندفعت بدورها إلى الخروج من السوق الإيرانية، على غرار شركة النفط الصينية “CNBS”، التي استحوذت على حصة شركة “توتال” الفرنسية في مشروع تطوير المرحلة الحادية عشرة من حقل بارس الجنوبي، قبل أن تنسحب كلية في 6 أكتوبر 2019.
ومن هنا، فإن الانضمام إلى مجموعة “FATF” وغيرها من الهيئات الدولية المعنية بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، يمكن أن يساعد في تهيئة المجال أمام عودة تلك الشركات إلى الاستثمار في السوق الإيرانية، خاصة في حالة الوصول إلى اتفاق نووي جديد يُرفع بموجبه قسم من العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية.
رفض مستمر
مع ذلك، فإن أحد الاتجاهات النافذة داخل دوائر صنع القرار في إيران ما زال يتبنى نهجاً متشدداً في هذا الصدد، وهو ما تعبر عن صحيفة “كيهان”، حيث يرى أن الهدف من انضمام إيران إلى هذه المجموعة هو توجيه ضربة قوية لنفوذها الإقليمي، باعتبار أن اشتراطات تلك الهيئات لا تتماشى مع الدعم المستمر الذي تقدمه إيران إلى المليشيات الشيعية والسنية الموالية لها في المنطقة، والتي يصنف بعضها على أنها تنظيمات إرهابية.
كما يرى هذا الاتجاه أنه حتى في حالة الاستجابة لمطالب تلك المجموعة، فإن ذلك لن يساعد في استقطاب الاستثمارات داخل إيران، طالما أن الولايات المتحدة الأمريكية ما زالت تصنف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية، حيث إن ذلك سوف يدفع الكثير من الشركات إلى العزوف عن الاستثمار في إيران، باعتبار أن قسماً كبيراً من الشركات الإيرانية التي تعمل في السوق الإيرانية يتبع الحرس في النهاية.