تشهد مدن درعا والسويداء والقنيطرة بجنوبي سوريا ومدينتا اللاذقية وجبلة على الساحل السوري وصولاً إلى بعض المناطق في حلب (العاصمة الاقتصادية للبلاد) ودمشق منذ مطلع أغسطس 2023 وحتى الوقت الحالي، انتفاضات شعبية، حملت الشقين السياسي بدعوة النظام للكرامة والحرية، والاجتماعي بالمطالبة بتحسين أوضاع البلاد الاقتصادية والمعيشية، وتطبيق القرار الأممي (2254)، وهو ما أوضحته الشعارات التي رفعها المتظاهرون، منها: “الحرية للمعتقلين”، و”يسقط بشّار الأسد”، “سوريا لينا وما هي لبيت الأسد”، و”عاشت سوريا”، و”ارحل بدنا نعيش”، و”الفساد في كل مكان”، و”الشعب يريد إسقاط النظام”. كما رفع المتظاهرون في درعا أعلام الثورة السورية، وحرقوا صوراً للرئيس “الأسد”.
سياقات محفزة
وتجدر الإشارة إلى أنّ عودة الاحتجاجات مرة أخرى وبهذه الشدة، ومن مناطق داعمة لحكومة الرئيس “الأسد” خاصة منطقة السويداء ذات الأغلبية الدرزية، الذين دشنوا هاشتاج “السويداء تنتفض” و”الثورة السورية العظيمة”، ناجم عن مجموعة من الأسباب، يمكن إيضاحها على النحو التالي:
1- قرار الحكومة السورية برفع الدعم عن المحروقات: تفاقمت الاحتجاجات بعد سلسلة من القرارات اتخذتها الحكومة السورية، يأتي من أبرزها قرار وزارة التجارة في 16 أغسطس الجاري، الذي قضى برفع الدعم عن المحروقات التي تشمل (البنزين، والغاز، والمازوت). فعلى سبيل المثال، أصبح سعر مادة المازوت للمستهلك 2000 ليرة للتر الواحد، وللمخابز التموينية 700 ليرة للتر الواحد، وللصناعات الزراعية ومعامل الأدوية 8000 ليرة. يأتي هذا في الوقت الذي انخفضت فيه قيمة الليرة السورية بأكثر من 80% خلال الأشهر الثلاثة الماضية، حيث بات سعرها مقابل الدولار يتراوح بين 14350 ليرة و15000 ليرة، وجاء هذا القرار بعد يوم واحد فقط من إصدار الحكومة مرسوماً رئاسياً يقضي بزيادة أجور الموظفين بنسبة 100%، وهو الأمر الذي أثار سخطاً شعبياً، لما لهذه القرارات من تأثير سلبي على الأوضاع المعيشية للمواطنين الذين يعانون من تدهور للاقتصاد السوري.
2- فشل الحكومة السورية في تحسين الأوضاع الاقتصادية: إن من أبرز الأسباب التي دفعت المواطنين للخروج في هذا التوقيت وبمناطق واقعة تحت السيطرة الفعلية للنظام السوري، أن “الكيل فاض بهم” جراء فشل الحكومة السورية منذ 2011 وحتى الوقت الراهن في إيجاد حلول فعالة للأوضاع الاقتصادية المتدهورة مع استمرار تردي أوضاع المواطنين المعيشية، وتدني قيمة العملة، وزيادة معدلات الفقر والبطالة بل واتجاه بعض المواطنين إما لارتكاب جرائم وأعمال غير مشروعة، أو الانضمام للتنظيمات الإرهابية لتأمين مصدر دخل لعائلاتهم، أو الهجرة إلى الخارج، ولذا فإن المتظاهرين خلال الاحتجاجات الجارية في الوقت الراهن أكدوا أن الحكومة الحالية لا تستطيع أن تحل أزمات البلاد والحل هو رحيلها.
3- تزايد عمليات ترحيل السوريين من الأراضي التركية: سلطت هذه الاحتجاجات الضوء على الجهة المسؤولة عن المطالبة بحقوق السوريين وسط تزايد حملات ترحيل تستهدف السوريين في تركيا، خاصة منذ فوز الرئيس “رجب طيب أردوغان” للمرة الثالثة بحكم البلاد في مايو الماضي، إذ تأتي هذه الاحتجاجات مع تزايد عمليات ترحيل السوريين من الأراضي التركية تحت مزاعم أنهم “مهاجرون غير نظاميين” ولا يمتلكون الوثائق اللازمة بشأن اللجوء، وهو ما نفاه عدد كبير من السوريين وعائلاتهم الذين تم ترحيلهم خاصة لمناطق بالشمال السوري، وقالوا إنهم يمتلكون بطاقة الحماية المؤقتة للعيش في تركيا، ومع ذلك تم ترحيلهم بشكل “قسري”. وتجدر الإشارة إلى أن اتجاه تركيا بشكل منفرد لإعادة اللاجئين السوريين ناجم عن رؤيتها أن النظام السوري لا يقوم بأية جهود لفتح الباب لاستقبال اللاجئين رغم المناشدات العربية للنظام بعد قرار عودة سوريا للجامعة العربية، بضرورة العمل على حل أزمة اللاجئين.
4- رفض النظام السوري الاستجابة لمطالب الإفراج عن المعتقلين: لم يكتفِ المتظاهرون بالاحتجاجات الجارية في مختلف أنحاء سوريا، بالمطالبة برحيل النظام جراء الأوضاع الاقتصادية، ولكن تم تسليط الضوء بشكل كبير على “ملف المعتقلين السوريين” لدى النظام السوري، وهو الملف الذي بات يحتل “أولوية” داخل سوريا، خاصة مع استمرار رفض النظام الاستجابة لأية مطالب إقليمية كانت أو عربية بالإفراج عن المعتقلين السياسيين أو إحداث أية انفراجة بهذا الملف، خاصة أنه في مايو الماضي قد دعت المملكةُ الأردنية في المبادرة التي أطلقتها والتي نجم عنها فيما بعد عودة سوريا لمقعدها بالجامعة العربية الحكومةَ السورية للإفراج عن المعتقلين، بل على العكس تزايدت حملات الاعتقال التعسفي للسوريين ولكل من ينتقد النظام خلال الفترة الأخيرة؛ إذ كشفت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، مطلع أغسطس الجاري، توثيقها ما لا يقل عن 197 حالة اعتقال تعسفي نفذها النظام السوري في يوليو الماضي لمدنيين انتقدوا تدهور الواقع الخدمي والاقتصادي في مناطق سيطرته، وأضافت أن هناك 135 ألفاً و481 معتقلاً ومختفياً قسرياً في الفترة من (مارس 2011 – يونيو 2023)، وأضافت أن جميع مراسيم العفو التي أصدرها النظام لم تشمل إلا الإفراج عن سبعة آلاف و351 معتقلاً فقط.
5- تفاقم الأزمات السورية مع دول الجوار العربي بسبب المخدرات: بعد عودة سوريا إلى محيطها العربي ارتفعت مطالبات بعض دول المنطقة، خاصة الأردن والعراق والسعودية، لمطالبة النظام السوري بوضع حد لعمليات تهريب المخدرات عبر الحدود. ورغم أن دمشق كانت قد تعهدت في مايو الماضي للأردن (الدولة الأكثر تأثراً بعمليات تهريب المخدرات خاصة “الكبتاغون”) بأنها ستسعى بالتعاون مع الجيش والمخابرات الأردنية لكبح جماح تجارة المخدرات السورية التي تديرها مليشيا موالية لإيران بمناطق سيطرة النظام؛ إلا أنه حتى الآن لم يتم وضع حد لهذا الملف، إلى درجة أن الجيش الأردني يعلن بين حين وآخر إحباط عمليات تهريب أسلحة ومخدرات، ولا سيما حبوب الكبتاغون، من سوريا إلى المملكة الأردنية، كان آخرها عملية في 13 أغسطس الجاري.
ولذلك فإن الاحتجاجات السورية قد سلطت الضوء على ذلك، ولذلك قد طالبت حركة أطلقت على نفسها اسم “حركة 10 آب” (تعرف نفسها بأنها حركة شبان سوريين لا يتقيدون سوى بولائهم لسوريا)، عبر صفحتها على فيسبوك، النظام السوري بإغلاق مصانع الكبتاغون (تشرف عليها الفرقة الرابعة وقائدها ماهر الأسد)، ووقف عمليات لـ”حزب الله اللبناني” لتمرير مواد مخدرة عبر الدول العربية من محافظة السويداء، ولذلك فقد أعرب المتظاهرون بالسويداء عن مخاوفهم من قيام عملاء الحزب المدعوم من إيران بافتعال عمل مسلح داخل تلك المظاهرات لإخمادها.
6- تزايد عمليات التجنيد الإجباري للسوريين: من الدوافع التي سلط عليها بعض المتظاهرين خاصة بالسويداء الضوء، هي رفضهم لمحاولات النظام في الوقت الحالي إجبار شباب السويداء على “التجنيد الإجباري” بالخدمة العسكرية، وذلك في ضوء حملات التجنيد التي يشنها النظام بمختلف مناطق سوريا، مستغلاً تدهور أوضاع المواطنين، إذ كشف ناشطون بمحافظة دير الزور لوسائل الإعلام في أبريل الماضي، أن عناصر من الأمن العسكري والجنائي نفذوا حملة اعتقالات داخل مدينة الميادين بريف الزور الشمالي الواقعة تحت سيطرة المليشيا الإيرانية، للبحث عن مطلوبين للتجنيد الإجباري، كما افتتح قيادي موالٍ لمليشيا إيرانية في دير الزور يدعى “نواف راغب البشير” مكتباً أطلق عليه “جيش العشائر”، لمطالبة المواطنين بالموافقة على التجنيد والحصول على راتب يصل إلى 150 دولاراً شهرياً وبطاقة عسكرية، والهدف من ذلك تعاون سوري إيراني للتصدي للضربات الإسرائيلية التي تستهدف مليشيا إيران بسوريا.
اتجاهان رئيسيان
وفي ضوء الدوافع سالفة الذكر، نجد أن النظام السوري حتى الآن لم يتعامل بجدية مع هذه الاحتجاجات، لدرجة أن وسائل إعلامه وخاصة وكالة الأنباء السورية “سانا” تجاهلت الحراك الذي تشهده غالبية المناطق السورية، والدعوات المطالبة بخروج حركات احتجاجية في مدن الساحل السوري، ولكن هناك بعض التحركات التي قام بها مسؤولون سوريون لمحاولة إخماد هذا الحراك الذي ينذر باشتعال الأوضاع في سوريا خلال الفترة المقبلة، يمكن إبرازها كالتالي:
الاتجاه الأول: تحرك مسؤول سوري للمطالبة بتهدئة الأوضاع: كشفت وسائل إعلام سورية أن محافظ السويداء “بسام بارسيك” أجرى مساء 22 أغسطس الجاري زيارة إلى رئيس الهيئة الروحية للطائفة الدرزية في محافظة السويداء السورية الشيخ “حكمت الهجري”، لمطالبته بالتدخل وتهدئة الأوضاع المشتعلة بالسويداء، كما عرض مجموعة من الحلول (لم يتم إيضاحها)، ويرجع ذلك لكون “الهجري” يتمتع بثقل شعبي كبير داخل السويداء ولديه موقف متحفظ من سياسات النظام السوري، وقد سبق وطالبهم بإجراء تغييرات على المستوى الحكومي والأمني، ولعب دوراً إبان الثورة السورية، ولذلك فقد كشفت مصادر مطلعة لوسائل الإعلام السورية أن “الهجري” رد على مطالب محافظ السويداء بالرفض، قائلاً: “المسألة لا تحتاج لوساطات ولا اتصالات.. مطالب الشارع معروفة ولا داعي لشرحها، ولن يكون هناك أي تواصل مع أحد قبل تحقيق مطالب الشارع”.
الاتجاه الثاني: استنفار أمني لقوات النظام السوري: كشفت بعض وسائل الإعلام السورية أن بعض القوات الأمنية استعانت، في 22 أغسطس الجاري، بمدرعات لتفريق مظاهرة في حي الفردوس وحي الشعار بمحافظة حلب، لترديد المتظاهرين شعارات مناهضة للنظام، وهو ما أدى لاستنفار أمني لقوات النظام السوري. إضافة لذلك فقد أفادت بعض التكهنات بأن حالة الهدوء الحذر الذي تشهده مدينتا اللاذقية وجبلة حالياً بعد خروج احتجاجات بهما قام فيها المتظاهرون بتمزيق صور للرئيس بشار الأسد، تأتي بسبب شن أجهزة الأمن السورية حملة اعتقالات منتصف أغسطس الجاري، طالت ناشطين وأشخاصاً متهمين بتبعيتهم لـ”حركة 10 آب” الساعية لتحقيق “تغييرٍ سياسي واجتماعي سلمي” في البلاد.
مسارات النظام
في ضوء ما تقدم، يمكن القول إن النظام السوري قد يعمل خلال الفترة المقبلة على التحرك في عدة مسارات، أولها شن مزيد من عمليات القمع والاعتقال في محاولة لإخماد هذا الحراك، وقد يتجه كما فعل في السابق لسياسة “الحرب الأهلية” التي كان لها دور في إخماد الثورة السورية 2011. والمسار الثاني، تكثيف التعاون مع حلفائه، خاصة إيران وروسيا، والحصول على مزيد من الدعم لتأمين البلاد، بل ودفع المليشيا الموالية لإيران للتصدي للاحتجاجات الجارية، واستقدام تعزيزات عسكرية بالمناطق التي تشهد مظاهرات واسعة. والمسار الثالث الذي قد يتجه إليه إذا فشل المساران السالف ذكرهما، أن يتجه النظام إما لإقالة الحكومة أو إحداث تغييرات بها، والقول إنه يسعى لتحسين أوضاع البلاد الاقتصادية، وقد يحاول الزعم بأنه يلبي مطالب السوريين ويدعو “لعقد حوار سوري داخلي يمثل جميع شرائح المجتمع”.
ومع ذلك، فإن موجة الاحتجاجات الشعبية والسلمية التي تشهدها السويداء ودرعا بشكل أكبر، وحلب ودمشق بشكل أقل حدة، لن تهدأ بسهولة، بل وقد تتسع لتشمل مناطق أخرى، وستهدد بلا شك نظام الأسد، وبل وستعيق عملية عودة اللاجئين إلى البلاد في الوقت الراهن، إضافة إلى أنها قد تدفع واشنطن لفرض عقوبات على سوريا، وهو ما ألمحت إليه الممثلة الأمريكية لدى الأمم المتحدة “ليندا توماس جرينفيلد”، التي أكدت أن الاحتجاجات التي تشهدها مدن سوريا، خاصة المناطق التي بدأت فيها الثورة، دليل واضح على أن المطالب السلمية لم يتم التجاوب معها من قبل السلطة الحاكمة، مشددة على أن واشنطن تطالب دوماً بضرورة المساءلة عن انتهاكات النظام السوري، وتطبيق وإنفاذ العقوبات بحق هذا النظام للتوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية، كما علق مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا “جير بيدرسون” على هذه الاحتجاجات، معرباً عن قلقه بشأن جمود العملية السياسية السورية، وأعلن أنه سيتواصل مع جميع الأطراف من أجل دعم مواصلة هذه العملية.