اليوم التالي:
لماذا تتوقع إيران تغييرات إقليمية جدية بعد حرب غزة؟

اليوم التالي:

لماذا تتوقع إيران تغييرات إقليمية جدية بعد حرب غزة؟



يمكن تفسير اهتمام إيران بقراءة مستقبل المنطقة بعد حرب غزة بشكل مبكر في ضوء اعتبارات عديدة تتمثل في تراجع تأثير إسرائيل على مستوى الإقليم، وتراجع “زخم” عملية التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، وإثبات قوة الحضور الإيراني في المنطقة، وفشل واشنطن في الترويج لمقارباتها الأمنية والسياسية لمرحلة ما بعد انتهاء الحرب.

قبل أن تضع حرب غزة أوزارها، وتتبلور معالم المعطيات الجديدة التي سوف تفرضها تلك الحرب، بدأت إيران في الحديث عمّا يمكن تسميته “سيناريو اليوم التالي”، حيث بدأت تتوقع ظهور معالم جديدة لشرق أوسط مختلف، بسبب التوازنات الاستراتيجية الجديدة التي سوف تُسفر عنها تلك الحرب.

واللافت في هذا السياق، هو أن ذلك يأتي في وقت كانت فيه إيران حريصة على تأكيد عدم ضلوعها في تلك الحرب، سواء من خلال نفي علمها أو مشاركتها في عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها كتائب القسام (الذراع العسكرية لحركة حماس) في 7 أكتوبر الفائت، أو عبر الترويج لأن قرارات الانخراط العسكري التي تبنتها المليشيات الشيعية المسلحة الموجودة في بعض دول الأزمات هي قرارات تخصها وقد اتخذتها بمعزل عنها.

موقع “صراط نيوز”: توقعات وزير الاستخبارات لمستقبل المنطقة بعد حرب غزة

وهنا، فإن إيران باتت ترى أن عدم مشاركتها أو ضلوعها في تلك الحرب كان أكثر إيجابية بالنسبة لمصالحها مقارنة باحتمال مشاركتها فيها، وذلك لأن ذلك في النهاية أنتج مواقف جديدة، وفرض معطيات مختلفة كلها سوف تساهم في إحداث “تغييرات إقليمية جديدة” كما أشار إليها وزير الاستخبارات الإيراني إسماعيل خطيب خلال لقائه مع مجموعة من مسؤولي جهاز الاستخبارات في 11 نوفمبر الجاري.

اعتبارات عديدة

من دون شك، فإن هذه الرؤية تكتسب أهمية وزخماً خاصاً، لا سيما وأن أحد أبرز قادة الأجهزة الأمنية هو من عبر عنها، بما يشير إلى أن ما جاء على لسانه يعبر عن مواقف وتوجهات العديد من مؤسسات النظام. وفي كل الأحوال، يمكن القول إن ثمة اعتبارات عديدة تدفع إيران إلى تبني هذه الرؤية يتمثل أبرزها في:

صحيفة “كيهان”: المنطقة على موعد مع تغييرات إقليمية عميقة في المستقبل القريب

1- تراجع تأثير “التفوق” الإسرائيلي على دول الإقليم: ترى إيران أنه أياً كان السيناريو الذي سوف تصل إليه الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس، والفصائل الفلسطينية الأخرى؛ فإن ذلك لا ينفي أن صورة إسرائيل باعتبارها القوة الأولى في منطقة الشرق الأوسط تراجعت إلى حد كبير، بفعل الاختراق الأمني الكبير الذي تعرضت له، والذي أثبت أن كفاءة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، على غرار جهاز الموساد، أصبحت أمام اختبار صعب، فضلاً عن أن الحرب الحالية سوف تفرض تأثيرات سلبية على قوة التيار اليميني المتشدد داخل إسرائيل الذي يقود الحكومة الحالية، حيث أدت إلى اتساع نطاق الانقسامات بين أعضائه، ووضع مستقبلهم في الحكم على المحك، بفعل ترهل الأداء الحكومي وعدم القدرة على حسم الحرب مع حركة حماس بسرعة على عكس الاستراتيجية العسكرية التي كانت تتبناها إسرائيل دائماً، وتقوم على فكرة “الحرب الخاطفة”.

2- توجيه ضربة قوية للتطبيع الإقليمي مع إسرائيل: رغم أنبعض المسؤولين الإسرائيليين والعرب ما زالوا حريصين على الإشارة إلى أن عملية التطبيع سوف تتواصل في مرحلة ما بعد الحرب على قطاع غزة، حيث لم يستبعد وزير الاستثمار السعودي خالد الفالح، في 8 نوفمبر الجاري، مواصلة التطبيع في حالة الوصول إلى حل سلمي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وفقاً لحل الدولتين؛ إلا أن ذلك لم يمنع اتجاهات عديدة في إيران وخارجها، من الإشارة إلى أن الحرب الحالية فرضت إشكالية أمام مواصلة التطبيع بالفعل. فإذا لم تكن قد أدت إلى إنهائه، فعلى الأقل سوف تساهم في تأجيله.

وهنا، فإن هذه الاتجاهات تفسر ذلك في ضوء رؤيتها الخاصة القائمة على أن الدول التي سعت إلى تأسيس علاقات دبلوماسية مع إسرائيل تبنت هذه المقاربة لشعورها بأنها في حاجة إلى “حليف قوي”، وهو إسرائيل، يمكن أن يساعد في مواجهة “خصم قوي”، وهو إيران. وبالطبع، فإن ما ساعد هذه الاتجاهات على تبني هذه الرؤية هو أن معظم الدول التي أسست علاقات دبلوماسية مع إسرائيل لها خلافات بالفعل مع إيران، على غرار المغرب والبحرين، بل إن الأخيرة بالفعل ترى أن إيران مصدر التهديد الرئيس لها، في ظل المزاعم الإيرانية التي تظهر بين الحين والآخر، والتي تقوم على أن “البحرين جزء من أراضيها”.

لكن الحرب الحالية ربما تساهم، وفقاً لتلك الاتجاهات، في تغيير هذه المقاربة، بعد أن ثبت أن إسرائيل ليست بالحليف القوي الذي يمكن الاعتماد عليه في مواجهة إيران، بدليل الخلل الأمني الكبير الذي كشفته عملية “طوفان الأقصى” داخل إسرائيل، والتعثر الذي تواجهه إسرائيل في عمليتها البرية داخل غزة.

3- تزايد الحضور الإقليمي لإيران: كان لافتاً أن هذه التصريحات التي أدلى بها خطيب جاءت بالتزامن مع الزيارة التي قام بها الرئيس إبراهيم رئيسي إلى السعودية، للمشاركة في القمة العربية والإسلامية الطارئة، التي عُقدت لمناقشة تطورات الحرب في قطاع غزة، في 11 نوفمبر الجاري. إذ كانت هذه هي الزيارة الأولى للرئيس الإيراني إلى الرياض بعد توقيع اتفاق بكين في 10 مارس الماضي لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران. وكانت فرصة للرئيس الإيراني لعقد لقاءات مع قادة دول عربية وإسلامية على غرار ولى العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والرئيس السوري بشار الأسد، ورئيس الوزراء الماليزي أنور إبراهيم.

وهنا، فإن اتجاهات عديدة في إيران ترى أن الحرب الحالية، وإن حرصت إيران على عدم المشاركة فيها، سوف تفرض تداعيات إقليمية تتوافق مع حسابات إيران، أهمها أنها أثبتت أن لإيران حضوراً إقليمياً في المنطقة، بدليل أن كثيراً من الدول الغربية توجهت إلى طهران من أجل إقناعها بكبح جماع المليشيات الموالية لها لعدم توسيع نطاق الحرب في المنطقة. بل إن الولايات المتحدة الأمريكية نفسها حرصت بالتوازي مع تهديدها بالرد على الهجمات التي تتعرض لها قواعدها في المنطقة، على توجيه رسائل إلى طهران تدعوها إلى عدم توسيع نطاق الحرب، وممارسة ضغوط على وكلائها لتبنّي الموقف نفسه.

4- تزايد الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة: لا تستبعد إيران أن تُبقي الولايات المتحدة الأمريكية على قواتها وقطعها العسكرية التي قامت بإرسالها لدعم إسرائيل وردع خصومها في المنطقة في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الحالية. ورغم أن ذلك قد يمثل تهديداً لإيران، دفع بعض قادتها العسكريين إلى توجيه تحذيرات مباشرة، على غرار قائد البحرية في الحرس الثوري علي رضا تنكسيري الذي قال، في 8 نوفمبر الجاري، إن “السفن الأمريكية لم تهدد إيران، وإذا أرادت التهديد فلن تهدد من مياه الخليج، لأن الخليج عبارة عن كيس نمسكه في أيدينا”، ورغم ذلك فإن إيران ما زالت ترى أن ذلك لن يساهم في تعويض تراجع الدور الأمريكي بشكل عام في المنطقة، والذي كشفته الحرب التي تدور رحاها الآن في قطاع غزة.

هذا التراجع بدا في رؤية إيران واضحاً في فشل المقاربات الأمريكية المتتالية لمستقبل قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، والتي كشفت عنها الزيارات المتكررة للمسؤولين الأمريكيين، وفي مقدمتهم الرئيس جو بايدن، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، ووزير الدفاع لويد أوستن، ومدير وكالة المخابرات المركزية ويليام بيرنز، وأحبطت بسبب رفض دول المنطقة لها، وهو ما يعني تراجع تأثير واشنطن في المنطقة بشكل عام، بالتوازي مع زيادة حضور قوى دولية أخرى مثل الصين التي قامت برعاية اتفاق بكين بين السعودية وإيران، إلى جانب روسيا التي تتبنى موقفاً أكثر توازناً من الولايات المتحدة الأمريكية في التعامل مع تطورات الحرب الحالية في غزة.

مقاربة مبكرة

مع ذلك، لا يمكن القول إن حرب غزة فرضت معطيات نهائية على مستوى الإقليم. فالحديث عن شكل الإقليم في مرحلة ما بعد هذه الحرب ما زال مبكراً، بل إنه يمكن القول إن التصورات الإيرانية السابقة قد تتعرض للتعديل في مرحلة لاحقة، لا سيما وأن مواقف إيران من الحرب قد تفرض بدورها تداعيات سلبية سوف تمس علاقة إيران مع حلفائها في الصميم، ولا سيما الفصائل الفلسطينية، التي يبدو أنها سوف تدرك أن الرهان على الحليف الإيراني له حدود.